صوم الميلاد وعصرنا الحالي
الأب أنطوان ملكي
تعود أول الإشارات إلى صوم الميلاد إلى مجمع سراكوسا (اسبانيا) سنة 380 حيث رأى آباء المجمع أنّ على كلّ مؤمن أن يذهب إلى الكنيسة يومياً من 17 كانون الأول إلى الظهور الإلهي. أمّا في مجمع ماك المحلي في بلاد الغال سنة 581، فقد رأى الآباء أنّ على كل مؤمن أن يصوم كل إثنين وأربعاء وجمعة ابتداءً من 11 تشرين الثاني لغاية الميلاد. لا يتّفق دارسو التاريخ على تحديد تاريخ تثبيت هذا الصوم ما بين القرن السادس والثامن، لكن المؤكّد ان الشكل الليتورجي الحالي قد تمّ تثبيته في مجمع القسطنطينية سنة 1166، حيث حدّد المجمع أنّ هذا الصوم يبدأ في 15 تشرين الثاني ويستمر لغاية 24 كانون الأول. من هنا أنّ هذا الصوم سُمّي أيضاً صوم الرسول فيليبس لأنّه يبدأ مساء عيد الرسول. بلسامون في القرن الثاني عشر ذكر هذا الصوم. القديس لاون الكبير الذي عاش في القرن الخامس خصّص أربعاً من عظاته لصوم الميلاد، وفيها يشدد على أنّ هذا الصوم هو بالدرجة الأولى لعمل الخير وتوزيع البَرَكات والإحسان إلى الفقراء، التي هي أهمّ الاستعدادات للميلاد. في بعض المناطق الأرثوذكسية، تُقام القداديس كلّ يوم على مدى الأربعين يوماً ويُذكَر فيها الأموات والأحياء.
معروف لدينا أنّ هذا الصوم قد أُدخِل ليهيء الكنيسة للاحتفال بشكل لائق بعيد ميلاد المسيح. ومع أنّ قوانين هذه الصوم أكثر ليناً من الصوم الكبير وصوم السيدة، إلا أنّ الغاية الروحية منه لا تقلّ أهمية عن الأصوام الأخرى، لا بل في أيامنا هذه تزداد هذه الأهمية. فأشكال التعييد التي تسيطر على المجتمع المعاصر، والتي تبدأ مظاهرها باحتلال المحلات منذ أوائل تشرين، يكون تأثيرها سلبياً على البشر قبل العيد وبعده. فقبل العيد تشغلهم الزينة والثياب والتحضيرات والشراء والحلويات. وبعد العيد، الصغار يأكلهم التضجّر والانزعاج من العودة إلى المدارس والعمل، والكبار تأكلهم الديون من كثرة ما صرفوا من المال ويزعجهم التعب الذي يسببه السهر، وكأن فرحة العيد تنتهي عند مسائه. هذا يصير إذا غاب البعد الروحي للعيد. من هنا تأتي أهمية صوم الميلاد في تخطي هذه الأمور.
فالصوم يهيء المؤمنين ليتلقّوا الفرح الذي يأتي من ميلاد السيد “فرح القابعين في الظلمة وظلال الموت”. فتغيير نمط الطعام، زيادة الاهتمام بالفقراء، زيادة الصلوات، كلّها أمور تدخِل الحرارة إلى النفس، وإذا رافقها امتناع صيامي عن الاحتفالات والمتَع، تتهيأ النفس فعلياً لتقبّل فرحة العيد وحملها إلى ما بعد العيد. أمّا أعمال الرحمة فتحمي الإنسان من أن يغرقه مجتمع الاستهلاك والمعارض والتحضيرات. من هنا أنّ في الكثير من المجتمعات الأرثوذكسية لا يستبق المؤمنون حضور العيد، بل يكون الاحتفال بالعيد مؤجّلاّ إلى يوم العيد نفسه. فلا يزيّنون بيوتهم ولا يضعون الأشجار إلا ليلة العيد، كما أنّ الحفلات تؤجّل إلى يوم العيد أو ما بعده.
ختاماً، الإنسان المعاصر بحاجة إلى الصوم بشكل عام، ولكن إلى صوم الميلاد بالتحديد كي يتخطّى العثرات التي تطرحها عليه حضارة الاستهلاك. وكما أنّ الطفل الذي وُلِد في المذود أعطى النور للعالم، نحن مدعوون للسير على خطواته ولأن نكون نوراً للعالم، وهذا لا يستقيم إلا بالاستعداد الصحيح لاستقبال مصدر النور.