المؤمن والسلطات
الخورية سميرة عوض ملكي
إنّ التعامل مع السلطات المدنية واقع لا بدّ منه لأي فرد في المجتمع، أكان مؤمناً أو غير مؤمن. لأنه منذ فجر التاريخ، ثمّة أشخاص يَحكمون والبعض الآخر يُحكَمون، البعض يقودون والبعض الآخر يُقادون، حتى لا يفعل كلّ واحد ما يريد ولكي لا يصبح مجتمعنا كبحر هائج. هذا هو عمل حكمة الله، كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم. إذا طُرد القبطان من قيادة السفينة فستبتلعها الأمواج، أو القائد من قيادة جيش ما فسيهزمه الأعداء. وكما تثبّت الدعامات الخشبيّة البيت، هكذا هم الحكّام لحسن سير المجتمع والدولة المنظّمة.
يقول الكتاب المقدس بأنّ كل مَن يخضع للحكّام يطيع الله في الحقيقة: “أيها العبيد أطيعوا في كل شيء سادتكم حسب الجسد لا بخدمة العين كمن يرضي الناس بل ببساطة القلب خائفين الرب. وكل ما فعلتم فاعملوا من القلب كما للرب ليس للناس” (كولوسي 22:3-23). وهذا الخضوع هو واجب من واجبات الضمير: “لتخضع كلُّ نفسٍ للسلاطين… إذ هم خدّام الله منتقمون للغضب من الذي يفعل الشر. لذلك يلزم أن يخضع لهم ليس بسبب الغضب فقط بل أيضاً بسبب الضمير” (رومية 1:13-6).
إذاً، المؤمن هكذا يطيع السلطة المدنية ليس خوفاً من الغضب، بل مراعاة للضمير، ولأن فعل الصلاح ليس فقط لتجنّب عقاب السلطة بل لأنّ ذلك يفرضه الضمير أيضاً. فالضمير من ناموس الله وعندما يوصف بالطاهر أو الصالح فلأنه يستضئ أساساً بنور الإيمان الحقيقي. وإذا كانت النية مستقيمة والإيمان يوفّر اقتناعاً راسخاً، فعندئذ يكون الضمير مرتاحاً، وينسكب الروح القدس داخل القلب. فالقلب والإيمان والضمير، تكون بصور متنوعة، مصدراً لفعل المحبة التي لا يمكن بدونها أن يتحقق حق ولا عدل لأنّ الحب وحده في النهاية هو الركيزة لكليهما. إنّ ضمير المؤمن يجعله حراً، أي ينبغي ألا تتقيد حريته بضمير غيره. وهذه الحرية تدعوه إلى قول كل شيء وهي التي تملؤه شجاعة وفخراً وثقة. فالمؤمن الحر لا يختلف موقفه من السلطات السياسية عن موقف السيّد الذي يتميّز بالمرونة حيناً وبالصرامة حيناً آخر. فهو يعترف باختصاص قيصر “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله” (متى 21:22). إلاّ أنّه من جهة أخرى، لا يتغاضى عن الظلم الواقع من ممثلي السلطة. فعندما مثل أمام بيلاطس، لم يشكك في سلطته التي يعرف أصلها الإلهي، وإنما فضح ظلمها الذي ذهب هو ضحيته. والجدير بالذكر أنّه كثيراً ما يطلب منا ضميرنا أن نتنازل عن حقوق لنا في سبيل مصلحة الإخوة والمجتمع، إلا أنّ هذا لا يعتبر بلا شك حداً لحريتنا، بل سبيلاً لممارستها بشكل أسمى.
إن هذا الخضوع وهذه الطاعة النابعة من الحب يدعوان إلى المعاملة بالمثل. أي أنّه ينبغي على السادة أيضاً أن يذكروا أنَّ لهم ربّاً في السماوات: “وأنتم أيها السادة قدّموا للعبيد العدل والمساواة عالمين أنَّ لكم أنتم أيضاً سيّداً في السماوات” (كولوسي 1:4).وأن يدركوا بأنّ كل سلطان آت من الله الذي يوليه إياهم من أجل الخير العام (رومية 1:13). وهذه السلطة التي عهِد الله إليهم بها ليست مطلقة، فهي محدودة بالتزامات أخلاقية. ففي المجال السياسي، يتعرض الإنسان إلى تجاوز حدود حقوقه. وإذ تسكِره قدرته، ينسب إلى نفسه كل فضيلة. وهو بالتالي يؤلّه نفسه وتجذبه سلطته إلى أعمال مخالفة لناموس الله، ويعميه الكبرياء الذي يولّده حب المجد عن ممارسة أية إدارة صالحة. فالرئيس الذي لا يضع العقل ضابطاً لأهواء نفسه، ويكون عبداً لشهواته لا يمكن له أن يحكم الناس وفقاً لنواميس الله ببرّ وعدل وإنسانية وتضحية بالنفس. إذ كيف يستطيع أن يحكم الآخرين، بشكل صحيح، مَن لا يقدر أن يحكم نفسه؟
يجب على صاحب السلطة المؤمن أن يتّخذ موقف السيّد المسيح منها. فهو كان صاحب سلطان على كل شيء (المرض، الشياطين، الطبيعة، وحتى على الأمور السياسية)، إلا أنه لم يتباهَ بهذا السلطان أمام الناس. وبينما يستغل رؤساء هذ العالم ما لهم من سلطة للسيطرة على الآخرين، يقف هو بين خاصته موقف مَن يخدم. هو ربٌّ ومعلم، لكنه أتى ليخدم وليبذل نفسه. “من أراد أن يصير فيكم أولاً يكون للجميع عبداً. لأن ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدم بل ليخدُم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين”. (مرقس 44:10-45). ولعلّ أجمل استعارة استعملها الكتاب المقدس لتعبّر بشكل رائع عن ناحيتين من السلطة، يتعارضان في ظاهرهما، وقلّما يجتمعان معاً، هي استعارة الراعي. فالراعي هو قائد، وفي الوقت نفسه، رفيق. هو رجل قوي، قادر أن يدافع عن قطيعه. وهو أيضاً يعامل نعاجه برقة، فيعرف حاجاتها، ويحملها على ذراعيه، ويعزّ الواحدة أو الاخرى كابنته (2صموئيل3:12). فالراعي لا جدال في سلطته، لأنها مؤسسة على البذل والمحبة. واقتداءً بالرب، يجب على الرؤساء أو الرعاة أن يطلبوا النعجة الضالة ويكونوا على يقظة من الذئاب الخاطفة ممن لن يشفقوا على القطيع، لكي يمنحهم “رئيس الرعاة اكليلاً من المجد لا يذوى” (1بطرس 3:5-4). وبقدر ما يكون الرئيس مستقيماً وباراً ومحباً، بقدر ما يصبح قوياً حقاً وسيحبه الشعب. إذ لا شيء يميّز الحاكم بقدر المحبة التي يظهرها تجاهه الشعب الذي يحكمه.
هذه هي النظرة العميقة للنظام الذي يريد الله فرضه على خليقته ويعطي للعدل معنىً واسعاً، وقيمة دينية قوية. فليست الإستقامة البشرية سوى انعكاس وثمرة لبر الله أو للعدل الإلهي. وهذا ما يفرض خضوع السلطات المدنية لشريعة الله التي أعطاها للبشر لتنظيم سلوكهم. لكن ليست تلك الشريعة المرسومة على لوحي الحجر فقط وإنما تلك الشريعة المكتوبة في أعماق القلوب، أي شريعة الملكوت. لأن الثانية لا تلغي الأولى وإنما تتممها. وشريعة الملكوت تلخّص في الوصية المزدوجة، التي سبق وحددت قبلاً، والتي تلزم الإنسان بأن يحب الله، وأن يحب قريبه كنفسه (مرقس 30:12-32)، فكل الأمور تنتظم من حول ذلك وكلها تشتق منه. وفي علاقات البشر بعضهم ببعض، هذه القاعدة الذهبية في المحبة الإيجابية تحوي كل الشريعة والأنبياء. “فكلّ ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم. لأنَّ هذا هو الناموس والأنبياء” (متى7: 12). لأنه إلى حين مجيء الرب تشكل المحبة المطلب الأساسي الذي بموجبه تتم دينونة البشر. نحن كلنا مدعوون، رؤساء ومرؤوسين، إلى تحقيق السلام في هذا الوطن وفي العالم أجمع، لا على أساس أحلاف سياسية تخلو من الإيمان، بل كثمر للبرِّ الإلهي، ولأنّ هدف مخطط الله هو السلام الذي لا يمكن الفوز به إلا بعد كفاح ضد الحرب التي هي في أساسها شر، وهي كنتيجة بغض بين البشر، تبلغ حد قتل الإنسان لأخيه في الإنسانية، وهي لن تختفي من العالم، إلاّ حينما يكون الشر نفسه قد انتهى. لأنه خلف القتال السياسي تختبئ معالم القتال الروحي الذي يشنه الشيطان، من خلالنا نحن البشر، ضد الله نفسه. فالإنسان اعتبر السلام أولاً سعادة أرضية، وفيما بعد بدا له خيراً يزداد روحانية أكثر فأكثر، بحكم مصدره السماوي. لأنه لن يتحقق إلا بمدى ارتباطه بعبد الرب المتألم، الذي سوف يعلن بذبيحته مقدار ثمن السلام (اشعيا53: 5).
أخيراً، إنَّ المؤمن، الثابت في الرجاء، والذي يتطلّع إلى أورشليم السماوية، سوف يواصل جهاده نحو السلام، وهو يصغي إلى قول السيّد المسيح المانح الوحيد للسلام، “طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يدعون” (متى 9:5)، وليبقى صدى قول النبي أشعياء “ما أجمل أقدام المبشرين بالسلام” (اشعيا 7:52) محفوراً في أذهاننا. لأنَّ المبشر بالسلام يتخطّى كل الفروقات القائمة على الإختلافات من حيث العنصر والطبقة والجنس والدين.