درجات المعرفة الثلاث بحسب القديس إسحق السوري
الميتروبوليت إيروثيوس (فلاخوس) مطران نافباكتوس
تعريب الأب أنطوان ملكي
يعالج القديس اسحق السوري موضوع درجات المعرفة الثلاث في الفصول الثاني والستين إلى الخامس والستين من نسكياته[i]. يبدأ بمقابلة المعرفة بالإيمان. فالمعرفة البشرية تتميّز بأنها “لا تقوى على فعل أي شيء ترغبه دون فحصه وبحثه والتأكد من إمكانية حصوله”. تعتمد المعرفة البشرية كثيراً على العقل، وهو بالغالب عقل ساقط في حالة العمل، بعد أن تخطّى حدوده الطبيعية، أي أنه عقل متسلّط حتّى على النوس. من ناحية ثانية، للإيمان حدود أخرى وهنا اختلافه الكبير عن المعرفة البشرية، وهنا تكمن قيمته العظمى. يقول القديس إسحق أنّ عند استعمال كلمة “إيمان” نحن لا نعني “الإيمان الشفوي بالأقانيم الإلهية المميزة والمسجود لها وبطبيعة الألوهة الخاصة وبالتدبير العجيب الصائر في الإنسانية بواسطة طبيعتنا (سر التجسّد)”، ولا عن أن المسيح صار إنساناً ولا عن اتخاذ الأقنوم الثاني للطبيعة البشرية، “وإن كان هذا الإيمان سامياً جداً”، لكن المعنى الأساسي لما نسمّيه إيماناً هو “الإيمان المشرق في النفس بنور النعمة الذي يثبّت القلب بشهادة الذهن ويبقى غير متزعزع في يقين الرجاء البعيد عن كل حدس”.
هذا الإيمان الروحي لا يتعلّم الأسرار بسماع الأذن بل “يعلن، من خلال الأعين الروحية، الأسرار الخفية في النفس والغنى الإلهي المحجوب عن عيون أبناء الجسد، والمعلَن بالروح لأولئك الذين يتناولون الطعام على مائدة المسيح والذين يهذّون بناموسه”. هذا يعني أنه فيما تُكتَسَب المعرفة البشرية من خلال عمل العقل والبحث البشري، تُكتَسَب المعرفة الإلهية من خلال الإيمان. هذا الإيمان هو بالدرجة الأولى ذاك الذي يشرق في النفس من نور النعمة، وبهذه القوة يتعلّم الإنسان كل الأسرار المخبأة عن أعين الإنسان الجسدي في هذا الزمن. إذاً “الإيمان هو أكثر حذقاً من المعرفة تماماً كما أن المعرفة هي أكثر حذقاً من الأمور الحسّية”. الإيمان، أي المعرفة الإلهية هو أكثر حذقاً من المعرفة البشرية.
يشرح القديس إسحق الفرق بين المعرفة البشرية والإيمان. لا يمكن للمعرفة البشرية أن تتعلّم من دون تفحص بينما “الإيمان لا يطلب أكثر من عقل طاهر بسيط بعيد عن كل غش وعن كل بحث جدلي… بيت الإيمان يُبنى بفكر الأطفال وقلب بسيط”. العقل هو مركز المعرفة البشرية، بينما القلب الطاهر هو مركز الإيمان. تبقى المعرفة البشرية ضمن سور الطبيعة، أمّا الإيمان “فيسلك طريقاً يفوق الطبيعة”. هذا يعني أن المعرفة البشرية هي حالة بشرية محضة، تعمل ضمن حدود الطبيعة، بينما الإيمان حالة تفوق الطبيعة. على المنوال نفسه، المعرفة البشرية عاجزة عن فعل أي شيء من دون مادة، فهي تتحرّك في عالم مادي، بينما للإيمان سلطة، على صورة الله، أن يبدع خليقة جديدة. لا تجرؤ المعرفة البشرية ولا تبتغي أن تتجاوز حدود الطبيعة، بينما الإيمان “يتعدّاها بسلطة”. هذا يُبَرهَن في سيَر كل القديسين الذين بقوة الإيمان “اجتازوا اللهيب وقيّدوا قوّة النار المحرقة، وعبروا في وسطها بدون أذى، ومشوا على سطح البحر كما على اليابسة”. وكل هذه الأمور التي يفعلها الإيمان هي فوق الطبيعة ومناقضة لطرق المعرفة البشرية. المعرفة البشرية “تحافظ على حدود الطبيعة” بينما الإيمان يتجاوز الطبيعة. تسعى المعرفة البشرية دائماً إلى “وسائل لصيانة أصحابها” أي أنها دوماً تتخذ تدابير لتحمي الإنسان بوسائل بشرية. أمّا الإيمان فهو يترك الأمر كليّاً لله. “مَن يصلّي بإيمان لا يحتاج إلى وسائل وطرق”. لا تبدأ المعرفة البشرية أي عمل من دون أن تدرس نتيجة كل عمل قبل أن تباشر به، بينما الإيمان يقول: “كل شيء مستطاع عند المؤمن (متى 22:19) فلا شيء مستحيل عند الله”.
صحيح، بحسب القديس إسحق، أن المعرفة البشرية ليست أمراً مذموماً، لكن هو الإيمان أكثر سمواً. تكتمل المعرفة بالإيمان لأن “المعرفة هي درجة يصعد بها الإنسان إلى علو الإيمان”. عندما يأتي الإيمان (الكامل)، يبطل الجزئي. إذاً، “بالإيمان نتعلّم الأمور غير المدرَكَة، لا بالتفحّص وقدرة المعرفة”. كل أعمال البِرّ التي هي الفضائل، أي الصوم، الإحسان، السهر، التقديس وغيرها “مما يتمّ بالجسد”، وكل تلك التي تتمّ في النفس، أي محبة القريب، تواضع القلب، مسامحة الخطأة، ذكر الصالحات، فحص الأسرار المخفية في الكتاب المقدّس، تأمل العقل بالأعمال الفُضلى، وغيرها من الفضائل، “كل هذه الأعمال تحتاج إلى المعرفة لأنها تصونها وتعلّم درجاتها”. وهذه الأمور كلها هي درجات تصعد عليها النفس “لتبلغ علوّ الإيمان الأسمى”. في كل الأحوال، “سيرة الإيمان أسمى من الفضيلة، وتحقيقها لا يتمّ بالأعمال، بل بالراحة التامة والتعزية الصائرتين بهذيذ القلب والنفس”.
بحسب تعليم القديس إسحق وغيره من الآباء القديسين، تشير كلّ هذه الأمور إلى أنّ الإيمان هو أكثر سمواً من المعرفة، وأرفع حتى من المعرفة التي تُكتَسَب بممارسة الفضيلة، لأن الإيمان هو حالة مواهبية وشركة مع الله. إنه “فهم القلب ورؤياه”، الحياة التي تنمو في النفس مع مجيء نور النعمة الإلهية. في تعليم القديس غريغوريوس بالاماس، نجد أن معرفة الله هذه هي بالحقيقة شركة وجودية مع الإنسان واتحاد مع الله. إذاً، الإيمان هو معرفة أسمى من كل معرفة بشرية، لأن به نجد المسيح نفسه المختبئ في أعماق الوصايا.
يتحدّث القديس إسحق السوري عن ثلاثة أنواع من المعرفة. فلنتفحّص كيف تختلف لأني أرى أن هذا يظهر لنا اختلاف التقليد الأرثوذكسي عن تقليد الحضارة البشرية، واختلاف المعرفة الإلهية عن المعرفة البشرية.
هناك ثلاث طرق عقلية تصعد المعرفة عليها وتنزل وهي: الجسد والنفس والروح. في الواقع، عندما يتحدّث الآباء عن الجسد والنفس والروح لا يعنون أجزاء الإنسان الثلاث، بل يعنون بكلمة “الروح” موهبة النعمة الإلهية التي بها يتبارك الإنسان. بدون نعمة الله، يكون الإنسان نفسانياً أو جسدانياً، بينما وجود النعمة يجعله روحانياً. فيما طبيعة المعرفة واحدة، فهي تُصقَل وتغيّر طرق تفكيرها بحسب هذه المجالات العقلية والحسية. وهكذا، كما أن هناك ثلاثة أشكال حسية وعقلية: جسد ونفس وروح، هناك أيضاً ثلاثة أنواع من المعرفة مرتبطة بهذه الأشكال. يظهر الإنسان تقدمه وحالته الروحيين بحسب نوع المعرفة التي يمتلكها. فضلاً عن ذلك، يشير نوع معرفة كل إنسان إلى تطهره وشفائه. مَن نفسُه تفتقر إلى الصحّة تكون معرفته جسدية، بينما الذي هو في طور الشفاء فمعرفته نفسانية، أمّا الذي شُفي فعنده المعرفة الروحية. يعرف هذا الأخير أسرار الروح التي يجهلها إنسان الجسد ولا يفهمها.
تُكتَسَب المعرفة الأولى بالدراسة المستمرة واليقظة في التعلّم. تأتي المعرفة الثانية من السيرة الطاهرة الصالحة ومن الإيمان. أمّا المعرفة الثالثة فهي “ميراث الإيمان فقط، لأن الإيمان يبطل المعرفة ويضع حدّاً لأعمالها وتصبح الحواس غير ضرورية”.
لننظر تحليلياً، على أساس تعليم القديس إسحق، إلى أنواع المعرفة الثلاث التي تشير إلى مرض نفس الإنسان أو صحتها.
نبدأ أولاً بالمعرفة الجسدية. بعض العناصر المميزة التي ترتبط بشهوات الجسد هي الثروة، المجد الباطل، الزينة، راحة الجسد والاجتهاد في الحكمة المنطقية بما يتناسب مع مسيرة هذا العالم فتزخر بالاكتشافات الجديدة والفنون والعلوم وغيرها. هذه المعرفة مضادة للإيمان، كما شرحنا سابقاً، لأنها تفتكر أن “كل الأشياء تسير بعنايتها”. إن حكمة أمور هذا العالم ومعرفته، من دون نوعي المعرفة الآخرين، بلا نفع لا بل تخلقان مشاكل كثيرة للإنسان. هذه المعرفة ضحلة وقاحلة، لأنها “مجردة من كل اهتمام إلهي”. إن اهتمامها هو فقط بهذا العالم، ولأنها محكومة بالجسد “تجلب إلى الذهن ضعفاً بهيمياً”.
أغلب الناس في زماننا نفوسهم غير مداواة ويملكون هذه المعرفة ويتعهدونها باستمرار. كل الحضارة المعاصرة التي تخلق شواذات كثيرة في النفس والجسد هي في هذه الحالة من عدم الشفاء. لهذا السبب، هذه الأحادية الجانب في المعرفة تسبب مشاكل كثيرة. والقديس إسحق يصفها على هذا المنوال: رجل هذه المعرفة الجسدية يستولي عليه صغر النفس والحزن واليأس وخوف الشياطين والجزع من الناس ومن ذكر اللصوص وأنواع الموت وفقدان الحاجات الجسدية، والخوف من الموت والآلام والوحوش الضارية وكل ما شابهها من الأهوال التي تحدث في بحر الحياة الحالية. إن الرجل صاحب هذه المعرفة البشرية الجسدية لا يعرف كيف يترك نفسه لرحمة الرب، بل يحاول أن يحلّ المسائل المختلفة بنفسه. لكنه متى عجز عن إيجاد الحلول لأسباب مختلفة يتخاصم مع الناس الذين يقاومون معرفته ويعاكسونها. إنه يتوصّل إلى المخاصمة مع الناس لأنهم يعيقون امتلاكه لأشياء المعرفة الجسدية.
هذه المعرفة البشرية والاهتمام العالمي يستأصلان المحبة كلياً. إن هذه المعرفة تجعل الناس يتفحّصون هفوات الآخرين وأخطاءهم وأسبابها، إضافة إلى ضعفاتهم، كما تجعل المرء يضاد كلمات الآخرين ويصدها بغطرسة، ويصبح خبيثاً في كل أعماله يبتكر الطرق ليهين الآخرين. في هذه المعرفة يكمن الانتفاخ والكبرياء.
يظهر بوضوح أن المعرفة الجسدية هي من مميزات الحضارة المعاصرة. يقدّم القديس إسحق بنفاذ بصيرة نبوي عِلَل هذا الإنسان الجسدي ومساعيه، ويصف صراعه وقلقه، كما يعرض نتائج المعرفة الجسدية المريعة: تعكير العلاقات الشخصية، نقص المحبة، العناد والمكر في كل الأعمال. وهذه كلها أمور تسِم الإنسان المعاصر ذا النفس المريضة، البعيد عن الله.
المعرفة الثانية هي معرفة النفس. بعد أن يترك الإنسان المعرفة الأولى الجسدية ويتوجّه إلى هواجس النفس ورغباتها، عندها تتبع كل أعمال معرفة النفس الصالحة. هذه هي: الصوم، الصلاة، الإحسان، مطالعة الكتاب المقدس، طرق الفضيلة، مصارعة الأهواء وغيرها. كل هذه الأعمال تُتمّم بالروح القدس. فهي لا تتم بقدرة الإنسان بل بتكافله مع الروح القدس. هناك مراحل في اكتساب المعرفة. تكتمل الدرجة الثانية عندما “يوضع لها أساساً عمل السكينة البعيدة عن الناس والحافلة بمطالعة الكتاب المقدس والصلاة”. هذا يعني أن مَن يمتلك معرفة النفس هذه يعيش في السكون مع كل يتضمن هذا العيش. فهو يصلّي إلى الله بلا انقطاع ويدرس الكتاب المقدس في هذا الجو المقدّس من الهدوء ليغذي نفسه وليس ليتعلّم كلمات الله حباً بالفضول. هذه الفئة تتضمّن الناس الذين شُفوا من القروح النفسانية والجراح في نفوسهم. هذا الشفاء يقدّم معرفة ممكن أن نسمّيها مرحلة تمهيدية أو غرفة انتظار للمرحلة التالية أي المعرفة الروحية التي يجهزها حضور نعمة الله في قلب الإنسان.
عندما ترتفع معرفة الإنسان فوق الأرضيات واهتماماتها وتبدأ بمراقبة الأفكار المخبأة عن العين، وعندما تزدري الأمور “التي ينشأ منها انحراف الأهواء”، وترفع ذاتها إلى فوق بتوقها إلى مواعيد الدهر الآتي وفحصها الأسرار الخفية، عندئذ “يبتلعها الإيمان ويحوّلها ثم يلدها من جديد، كما كانت في البداية، فتصبح كلّها روحاً”. من ثمّ تستطيع أن تحلّق إلى أمكنة الملائكة غير المتجسمين وتعرف الأسرار الروحية وطرق إدارة الطبائع العقلية والحسية. هذا يعني أنها تعرف الأسس الداخلية للكائنات فتستيقظ الحواس الداخلية وتقبل الروح القيامة التي تشهد لقيامة البشر الآتية. “عندئذ تستطيع التحليق إلى أمكنة اللامتجسدين وأن تلمس عمق البحر غير المدرك لأنها تفهم بأي طريقة عجيبة إلهية تُدار الطبائع العقلية والحسّية وتفحص الأسرار الخفية التي تُدرَك بالذهن البسيط الشفاف، فتستيقظ الحواس الداخلية لعمل الروح حسب نظام الحياة الأزلية العديمة الفساد، لأنها قد قبلت القيامة المدركة من خلال ما هو هنا، كما بسر، شهادة حقيقية لتجديد الكل”.
كل قديسو الله قد امتلكوا هذه المعرفة، موسى وداود وإشعياء والرسولان بطرس وبولس وغيرهم من القديسين الذين استحقوا هذه المعرفة الكاملة “بحسب استطاعة الطبيعة البشرية”. في الحقيقة، هذه المعرفة تأتي من معاينة الله ومن النور غير المخلوق، من الإعلانات الإلهية، أو كما يعبّر عنها القديس إسحق: “الرؤى المتنوّعة والإعلانات الإلهية ومشاهدة الروحيات السامية والأسرار التي لا تُوصَف…” عندها تُبتَلَع المعرفة بهذه الرؤى الإلهية وتصبح نفوس المعاينين “في أعينهم كالتراب والرماد”. يكتسب الإنسان المعاين حلّة التواضع والبساطة المباركة. وهكذا، فإن المعرفة الروحية، أي المعرفة التي من الله، هي ثمرة الثاوريا يكسَبها الإنسان الذي تقدّم من المعرفة الجسدية إلى تلك التي للنفس ومن ثمّ إلى المعرفة الروحية.
يمكن القول باختصار أن المعرفة الأولى “تجمّد النفس وتمنعها من السير في طريق الله”. المعرفة الثانية “تجعلها حارّةً لتبلغ درجة الإيمان”. أمّا المعرفة الثالثة فهي استراحة من الأعمال “لأنّها تتمتّع بنعيم أسرار الدهر الآتي بتأمّل الذهن فقط”.
إن هذا التعليم من عند القديس إسحق مناسب… لأن أعضاء الكنيسة لا يٌقسَمون إلى صالحين وأشرار أو إلى أخلاقيين وغير أخلاقيين، وكأن المعيار هو الأخلاق البشرية، بل هم يُقسَمون إلى مرضى بالنفس، وآخرين تحت العلاج وغيرهم قد شُفوا. تتوازى هذه الفئات الثلاث بالضبط مع درجات المعرفة الثلاث. مرضى النفس هم أصحاب المعرفة الجسدية الدنيوية. الذين قيد العلاج هم الذين على درجات مختلفة من تحصيل حكمة الروح ومعرفتها. أمّا الذين شُفوا فهم قدّيسو الله أصحاب المعرفة الروحية، أي معرفة الله الحقيقية. أغلب أهل زماننا هم مرضى بالنفس لأنهم لا يعرفون شيئاً عن النوس والقلب، لذا هم في المعرفة الجسدية اللحمية الأولى. غيرهم ينتمي إلى المعرفة الثانية لأنّهم يجاهدون لكي يُشفوا عن طريق كامل الطريقة الهدوئية التي تتضمنّها الكنيسة الأرثوذكسية. أمّا القديسون، الذين ما زال يوجد منهم في أيامنا، فهم ينتمون إلى المعرفة الثالثة لأنهم شُفوا من مرضهم وبالتالي اكتسبوا معرفة الله.
[i] يبدو أن ترقيم الفصول في النص اليوناني مختلف عن الترقيم في النص العربي الموجود في كتاب القديس إسحق السرياني “نسكيات” نقله إلى العربية الأب إسحق عطالله من منشورات النور، سلسلة “آباء الكنيسة”، رقم 7، 1983. وقد اعتمدنا النص العربي المذكور.