البارة ماريا البيثينية
إعداد راهبات مار يعقوب
هي الابنة الوحيدة لرجل يدعى افجاليوس، من بثينية احدى اعمال آسيا الصغرى. كان مقتدرا ذا ثروة وجاه وفضل. فارقته زوجته الى الاخدار السماوية. وماريا لم تزل بعد طفلة غضّة، فحرمت من حنان امها باكرا. الا ان والدها الفاضل حاول ان يعوض لها ذلك الحنان، فراح بكل ما اوتيه من عزم – يربيها تربية فاضلة، وينشئها تنشئة صالحة، ويلقنها تعاليم واصول الحياة المسيحية الحقة.
وعندما شبّت الفتاة وكبرت ، قال لها والدها: ” ها قد تركت بين يديك يا ابنتي العزيزة كل مالي وثروتي، لان روحي تتطلع الى اعتناق الحياة الرهبانية في احد الاديار، عساني استطيع ان أخلّص نفسي: فعترضته الفتاة قائلة: “: او تريد انت ان تخلص نفسك، وما يعنيك او يهمك أهلكت نفسي ام لا ؟!. الم تسمع ما قاله الرب من ان الراعي الصالح يضع نفسه عن الخراف؟!. فلما سمع افجانيوس كلام ابنته، ورآها تنتحب وتبكي، حار في امره وقال لها: ” وماذا عساني افعل يا ابنتي، وانا راغب في الالتحاق باحد الاديرة، ولا يمكنني ان اصطحبك معي لئلا تكوني سلاحا يستعمله الشيطان ضد الرهبان عبيد الله المجاهدين؟ ” فقاطعته ماريا واجابته باصرار وصوت ثابت : ” لن اسبب عثرة ما يا ابي. فانا استطيع ان اقص شعري، واتزي بزي الرجال وامكث معك كأحد الشبان”.
وهكذا اخذ افجانيوس يوزع ثروته على الفقرآء والمساكين، ثم قص شعر ابنته، والبسها لباس الرجال، واطلق عليها اسم ماريوس، واوصاها قائلا: ” انتبهي يا ابنتي كيف تصونين اناءك من هجمات العدو، لانك سوف تعرضي نفسك لنار التجارب فاحتفظي بنقاوتها ما استطعت حبا بالمسيح. وهكذا نعيش نحن الاثنين امينين لوعودنا وعهودنا” ثم التحق باحد اديار الشركة.
راحت ماريا تحث الخطى واسعة في طريق الجهاد والفضيلة واخذت تتقدم يوما بعد يوم في ممارسة النسك الشديد مضارعة بذلك كبار رهبان الدير الذين ظن بعضهم انها شاب امرد بسبب صوتها الخافت الناعم، وعدم وجود لحية لها كسائر الرهبان، بينما اكد البعض الاخر منهم، ان هذه المظاهر مردها النسك الشديد، اذ كانت مرة كل يومين.
ما لبث افجانيوس، بعد فترة ليست بطويلة ان رقد بالرب. ومنذ ذلك الوقت اخذت ماريا تضاعف جهادها في عيش الطاعة العميقة الكاملة، والنسك والتواضع، لدرجة انها حازت نعما الهية، تجلت في قهر الشياطين وطردهم، اذ ان لثم يدها فقط، كان يشفي كل من مسّه الشيطان، او استأسره روح شرير، مما اثار عجب وانذهال الرئيس لهذا التقدم الروحي السريع،وبات متفكرا في امرها، خائفا عليها من حبال الشيطان وفخاخه.
كان عدد رهبان هذا الدير اربعين راهبا، كان الرئيس يرسل كل شهر اربعة رهبان ليؤمنوا حاجات الدير ويتفقدوا بعض الاخوة النساك المتناثرين هنا وهناك. وكان يوجد بقرب الدير نزل، وبما ان الطريق كانت طويلة وشاقة، فلقد اعتاد الرهبان الارتياد الى هذا النزل في ذهابهم وايابهم، لينالوا قسطا من الراحة، وكان صاحب النزل يستقبلهم ببشاشة ويحسن وفادتهم.
وذات يوم دعى الرئيس ألأخ مارينوس وقال له: ” انا اعلم جيدا سيرتك الفاضلة، وتقدمك المستمر في طريق الكمال، فانك برهنت في مناسبات عديدة عن حسن طاعتك وامتثالك، لذلك اطلب منك ان تؤمن انت هذه المرة حاجات الدير وتقضي مهامه، وهكذا تهدأ نفوس وضمائر بعض الاخوة الذين يتذمرون لعدم خروجك مثلهم. وتأكد يا أخي ان اجر تعبك سيكون كبيرا جزاء طاعتك: ” . فلما سمع مارينوس هذا الكلام، انطرح على قدمي الرئيس قائلا: ” باركني يا ابي، وحيثما تريدني فسوف اتوجه، ولن اخالف لك امرا.
وهكذا انطلق الاخ مارينوس يصحبه ثلاث رهبان لقضاء حاجات الدير. فعرّجوا كعادتهم على النزل للاستراحة قليلا. وفي تلك الاثناء كانت ابنة صاحب النزل، تعلم احد الجنود الذين كانوا قد اخطأوا معها، انها تنتظر مولودا ولكن الجندي اقنعها قائلا: ” اذا علم والدك بما جرى قولي له ان الراهب الشاب المدعو مارينوس هو الذي خدعني: ” وهكذا كان. لانه ما ان علم والدها بالامر حتى ضاع رشده، وصعق لهول المفاجأة وسال الصبية عن الشاب الذي ثم معها، فالقت بالتهمة على مارينوس. فجن جنون صاحب المنزل، ولفرط غضبه وهياجه، اصطحب ابنته وذهب الى الدير وهو يزبد ويرعد ويصرخ قائلا: ” اين هو ذاك المضل، الذي يدّعي بالمسيحية والفضل والقداسة “؟ فظهر له احد الرهبان مستفهما عما جرى، فأجابه الاب: ” انها لساعة ملعونة عندما تعرّفت فيها عليكم ايها الرهبان، يا ليتني ما عرفتكم ولا تعرفت على من لهم بكم علاقة ” . ثم طلب مقابلة الرئيس الذي ما ان رأه حتى ابتدره قائلا: ” انها وحيدتي وسندي وعكازة شيخوختي ايها الرئيس، وعليها كنت اعتمد في تسيير اموري، وهاك ما قد صنعه بها هذا الرجل الراهب المدعو مارينوس ” . فاجاب الرئيس – بعد ان علم بتفاصيل الخبر – وقد اعتراه الخجل والانذهال معا: ” لا استطيع ان افعل او ان اقول شيئا، سيما وان مارينوس غائب، ولم يعد بعد من مهمته. ولكن ثق انه سوف يطرد من الدير فور عودته” .
وعندما عاد مارينوس مع الرهبان الثلاثة الآخرين، أنبّه الرئيس بلهجة شديدة قائلا: ” اهذه هي تربيتك الصالحة، وثمرة نسكك الشديد، ومظاهر برّك وقداستك، لدرجة انك أخطأت مع ابنة صاحب النزل، واذللت شيبة والدها الذي يحسن الينا، وكنت عثرة لكثيرين ممن سمعوه وهو يصيح ويحتج باعلى صوته فاضحا الامور امام الجميع. فيا لها من شكوك اتيتها ايها ألأخ المحترم” . وعندما سمع مارينوس هذا الكلام، انطرح ارضا قائلا: ” سامحني ايها الاب القديس، لانني اثمت، وكانسان ضعيف اخطـأت”. لكن الرئيس ابى ان يسامحه، وطرده من الدير قائلا: ” لئلا تكون قدوة وامثولة للآخرين”.
خرج مارينوس حاملا صليبه، وجلس على باب الدير صامتا، منتظرا، صابرا على حر النهار وقر الليل. واما الزوار الذين كانوا يؤمّون الدير، فكانوا يسألون باستغراب! لماذا انت قابع هنا ايها ألاب مارينوس؟!. فكان يجيبهم:” انني زنيت، ولذلك طردني الرئيس”.
وعندما حانت ولادة ابنة صاحب النزل، ولدت غلاما جميلا، فحمله والدها بين يديه، وذهب به الى الدير، فوجد مارينوس على حاله جالسا قرب باب الدير، فجعل الصبي عند قدميه وقال له:” خذه، انه ثمرة خطيئتك”. ثم قفل راجعا . فأخذ مارينوس الصبي بحنو وعطف بين يديه قائلا:” نعم سأخذه لاسدد به خطاياي. ثم رفع عينيه نحو العلاء وقال متنهدا:” ولكن يا سيدي القدوس، ما ذنب هذا الطفل البريء ليموت معي؟!. ثم بدأ مارينوس يستعطي من الرعاة المارين، لبنا او حليبا ليغذي الطفل كأب حنون. وهكذا مرت الايام، وأخذ الطفل في النمو، ولم يعد يكفيه ما كان يقدّمه له مارينوس، وبدأت ثيابه تتهرأ ولم تعد تلائمه، فأخذ مارينوس يستعطف زوار الدير كي يحسنوا اليه ويساعدوه.
وبعد ثلاث سنوات، وعندما رأى الاخوة ضيقه وصبره، توجهوا نحو الرئيس قائلين، كفى يا ابانا ما يعانيه، فانه قصاص كبير لا يطاق، سيما وانه اعترف جهارا امام الجميع بذنبه، معلنا توبة صادقة نصوحا. فاما ان يدخل ويعيش معنا، واما ان نخرج نحن لنعيش معه. فقبله الرئيس وقال له:” لقد ارغمتني محبة الاخوة على قبولك ثانية، رغم انك آخرهم واسوأهم فضيلة”. فضَرب مارينوس مطانية وقال باحترام وتواضع: ” انه لمنة كبيرة ان أعيش تحت ظلك ورعايتك يا أبي القديس”. ثم فرض الرئيس عليه ان يقوم بكل مهام الدير الصعبة. فكان مارينوس يتممها بنشاط ولكن بتعب كثير ايضا، يصحبه الطفل لا يفارقه ابدا، وهو يملأ الدنيا زغردة وصراخا طالبا من وقت لآخر طعاما، او بعض ما تحتاجه اليه الاطفال عادة.
لم ينسى مارينوس ابدا ان يغرس بين هذا الطفل حنايا هذا الطفل محبة الله، وان يعلمه طريق الفضيلة. وهكذا تهذب وتأدب ونشأ على محبة النسك والحياة التوحدية. وما ان شبّ قليلا حتى صار اهلا لان يعد بين عداد الرهبان.
وذات يوم، سال الرئيس الاخوة مستفسرا اين الاخ مارينوس؟!. لقد مضى ثلاثة ايام دون ان الحظه في الخدم الطقسية، مع العلم انه الاول دائما في الحضور الى الكنيسة. اذهبوا الى قلايته وانظروا ربما يعاني من مرض او ضعف. وعندما ذهبوا الى قلايته وجدوه قد فارق الحياة. فذهبوا واعلموا الرئيس الذي اعتراه الانذهال فتمتم قائلا:” واين يا ترى ذهبت نفسه الشقية وما هو مصيره، وما الجواب الذي سي}ديه امام الرب الدّيان العادل؟!. ثم أمر الرهبان ان يحضروه للدفن والتجنيز.
وعندما اراد الرهبان ان يغسلوا جسده، تراجعوا الى الورآء وقد اعترتهم رعدة شديدة، اذ وجدوا انفسهم امام امرأة. فصرخوا كلهم بصوت واحد يا رب ارحم. وعندما سمع الرئيس صوتهم، ولاحظ جلبتهم والبلبلة التي حدثت من جراء ذلك، استفهم عما يجري فأجابوه: ” الاخ مارينوس امرأة يا ابانا”. فوجئ الرئيس بهذا النبأ، وبقي فترة منذهلا صامتا لا يتفوه بكلمة، يعلو وجهه الاصفرار. ثم اسرع نحو القلاية التي كان مسجى فيها مارينوس، وانطرح ارضا يمرغ وجهه بتراب القلاية باكيا قائلا: يا ويلي، اية تهمة شنيعة الصقت بك ايه الأخ لتصديقي الوشايات التي اثيرت ضدك. لن ابارح هذا المكان ولو اضطرني الامر الى الموت، حتى اسمع صوتك مسامحا غافرا لي جريرتي.” وللحال جاءه صوت من الجسد المسجى قائلا:” ثق يا ابي القديس، ان كل ما بدر منك وتصرفته تجاهي، انما كان عن جهل وبتدبير من الله، ولذلك لن يحسب لك خطيئة قط. واما انا مسامحك يا ابي القديس.”
وبعد برهة خرج الرئيس من القلاية وارسل يستدعي لتوه صاحب النزل، الذي ما حضر حتى بادره الرئيس بقوله:” ها قد مات الاخ مارينوس”. فأجابه ذاك قائلا:” ليسامحه الله لانه افسد علي حياتي”. فقال له الرئيس:” تب يا اخي، لانك اجرمت واذنبت الى الله والي، عندما اثارتني اقوالك ضد الاب مارينوس العفيف، لان مارينوس امرأة”. عندما سمع صاحب النزل فوجئ، وأخذ يمجد الله متوسلا اليه ان يغفر له ذنبه. وبعد قليل حضرت ابنته التي بعد ان اتهمت الراهب باثم لم يقترفه، اعتراها شيطان كان يعذبها عذابا شديدا. هذه ما ان حضرت حتى راحت تقر معترفة من تلقاء نفسها بكل ما جرى معها معلنة براءة الراهب مارينوس، وللحال طرد الشيطان وشفيت.
اخذ الرهبان جسد الراقدة ماريا، ودفنوه باكرام واحترام في المكان الذي قد دفن فيه بقية رهبان الدير، وعادوا يسبحون الله الذي يمجد دائما محبيه، ومن يقدمون له التمجيد والتسبيح اللائقين به. ورسموا ان يعيد للبارة ماريا كل عام في 16 شباط.