الشيطان والسحر
في تعليم القديس يوحنا الذهبي الفم
هذه النصوص مختارات من كتابات معلم الكنيسة القديس يوحنا الذهبي الفم،
جمعها الراهب بنديكتوس الأثوسي، من مشورات إسقيط القديسة حنة
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
زمان سقوط الشيطان وسببه
يعلّمنا الكتاب المقدس أنّه قبل خلق الإنسان، رُمي الشيطان وكل الذين تبنّوا نظرته من خدمتهم السماوية بسبب غرورهم وغطرستهم. بالنتيجة، كانت سقطة إبليس ابتداء الموت في العالم على ما يقول الحكيم: “مكر الشيطان كان ابتداء الموت في العالم” (حكمة 24:2).
إذاً أخبروني، لو لم يكن الشيطان قد سقط قبل خلق الإنسان، كيف له أن يكنّ كل هذا البغض للإنسان؟ لو لم يكن الشيطان قد سقط قبل خلق الإنسان لكان ما يزال في كرسيه السماوي. هذا لأن كراهية الملاك للإنسان غير مبررة. إن الإنسان، المخلوق الذي يحمل جسداً، ينظر بتقدير كبير إلى الملاك. ومع هذا، فقد سقط الشيطان من أعلى المجد الذي كان فيه إلى أسوأ ما قد يكون. كل هذا جرى حين كان روحاً لا جسد له. لقد راقب الإنسان المخلوق، لابساً جسداً ومتمتعاً بمرتبة عالية بسبب محبة خالقه له. لهذا السبب، إبليس الملاك الساقط، أحسّ بحسد عظيم. وهكذا، بالخديعة عن طريق الحيّة، جعل إبليس الإنسان مذنباً ومعاقباً بالموت. هذا هو الشر! إنّه لا يتحمّل سعادة الآخرين بهدوء. وهكذا إذاً، الكلّ يعرف أنّه في الزمان القديم، سقط الشيطان وجنوده من النعمة السماوية، وفوق هذا فقدوا فضيلتهم.[1]
أسباب سقوطه: اللامبالاة، الغرور واليأس المتهوّر
كان الشيطان طاهراً قبل سقوطه. لكن بما أنّه دخل في اللامبالاة غلبه اليأس فسقط في حقد عظيم صار عاجزاً عن سحب نفسه منه. تظهر حقيقة أنّه كان طاهراً في الكتاب المقدس: “رَأَيْتُ الشَّيْطَانَ سَاقِطًا مِثْلَ الْبَرْقِ مِنَ السَّمَاءِ.” (لوقا 18:10). تظهِر مقارنة سقوطه بالبرق حالته السابقة وسرعة سقوطه.[2]
إنّ الذي يتأثّر بإبليس يمارس الغرور بالطريقة نفسها، لأن إبليس سقط بسبب الغرور. لهذا علينا أن نحرص على الامتناع عن هذا الهوى، حتى لا نسقط في الخطيئة التي ارتكبها، وإلاّ فسوف نكون مسؤولين عن انضمامنا إلى اللعنة نفسها واشتراكنا بعقابه.[3]
صار الشيطان على هذا الحال لأنّه سقط أولاً في اليأس ومن اليأس تابع إلى السقوط في الغطرسة. فقط لهذا السبب وليس لأي سبب آخر.[4]
حسد الشيطان
إني أنذهل من عظمة حسد الشيطان ومكره. فكونه المضلل والشيطان، لا يستطع تحمّل رؤية السيرة الملائكية في جسد بشري.[5]
لقد تمنّى أن يعاملنا بالطريقة ذاتها التي بها طُرد من النعمة المعطاة له، عند بداية غروره. وبعصيانه الوصية أراد أن يقودك إلى عقاب الموت لكي يرضي مكره. هذا تماماً كما قال أحدهم “مكر الشيطان كان ابتداء الموت في العالم” (حكمة 24:2).[6]
الشيطان الذي يتحرّك بدافع الكراهية والحسد، ولا يستطيع أن يتحمّل رؤية البركات التي مُنحَت للإنسان مباشرة منذ البداية، سعى إلى المكر ومنه إلى الخديعة التي تسبب الموت.[7]
الشيطان واتباعه قوى من مرتبة أدنى من الملكوت
هؤلاء السلطات، والرؤساء والعروش سماويون. أمّا سلطات ورئاسات الشيطان فهي دون السماوات. هذا هو سبب تسميتها بالسائدة على العالم. إنه لإظهار أن السماوات ليست مفتوحة لهم وأن مجال ممارسة سلطتهم الاستبدادية هو هذا العالم.[8]
وجود كتائب من الشياطين
“فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ عَلَى ظُلْمَةِ هذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ.” (أفسس 12:6). تماماً كما هو مكتوب، يوجد عروش وسلطات وولاة ورؤساء، وهكذا أيضاً عند أرواح الخديعة.[9]
تسمية الشيطان
هو ليس فقط الذئب، بل أيضاً الأسد، لأنه قد قيل: “أُصْحُوا وَاسْهَرُوا. لأَنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ.” (1بطرس 8:5). إنه هو الحيّة والعقرب، كما هو مكتوب: “هَا أَنَا أُعْطِيكُمْ سُلْطَانًا لِتَدُوسُوا الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةِ الْعَدُوِّ، وَلاَ يَضُرُّكُمْ شَيْءٌ.” (لوقا 19:10).
أ) رئيس العالم وهذا الدهر
“لاَ أَتَكَلَّمُ أَيْضًا مَعَكُمْ كَثِيرًا، لأَنَّ رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ.” (يوحنا 30:14). المسيح يسمّي الشيطان رئيس هذا العالم ويسمّي الناس الماكرين بالشيء نفسه، لأنّه ليس رئيس السماوات والأرض، وإلاّ لكان طرح كل شيء ودمّره. لهذا هو يسمّيه “والي هذا الدهر” (أفسس 12:6).[10]
لماذا يسمّيه رئيس هذا العالم؟ لأنّ كل الجنس البشري تقريباً قد أخضع ذاته له، وهم خدّامه طوعياً. وما هو أكثر من ذلك، لقد فعلوا ذلك بإرادتهم. لا ينتبه أحد للمسيح الذي وعد بأن يمنحنا خيرات لا تُحصى. بالمقابل، الكل مطيع لذاك الذي لا يعِد بشيء لا بل أيضاً يرسلنا إلى الجحيم. ولكن، إذا كان والي هذا الدهر وله سلطة على الأرواح أكثر مما لربنا، ومطيعوه أكثر عدداً من مطيعي الرب يسوع المسيح (ما عدا قلة صغيرة)، فسبب هذا هو تراخينا.
مكان الشيطان
إن للشيطان سلطة روح الهواء، بحسب ما يقول المسيح، لأن المكان الذي يحتله الشيطان هو تحت السماء ولأن القوى غير المتجسدة هي أرواح في الهواء. استمعوا للرسول بولس يؤكّد في نهاية رسالته إلى أفسس أنّ سلطة الشيطان ليست أبدية بل هي تنتهي مع انتهاء الدهر الحالي. فهو يقول: “فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ عَلَى ظُلْمَةِ هذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ.” (أفسس 12:6). هذا حتى لا تصدقوا أنّه مادي عندما تسمعون أنه والي هذا الدهر الذي يُسَمّى في مكان آخر من الكتاب المقدس: “دهر الخديعة والضلال”. طبيعي أن الكتاب المقدس لا يعني الأشياء المخلوقة. وهكذا، أنا أؤمن بشكل ثابت، أنّه إذا صار سيد ما تحت السماء، حتى بعد عصيانه، فلن يتخلّى عن سلطته.[11]
ب) معاند وشرير
الكتاب المقدس يسمّيه بالمعارض والخبيث لأنّه يشي على الله عند الإنسان، وعلينا عند الله، وحتى بين بعضنا البعض. في مكان آخر، في سفر أيوب، يقول الشيطان لله: “هَلْ مَجَّانًا يَتَّقِي أَيُّوبُ اللهَ؟” (أيوب 9:1)، ومرة أخرى إنّه يشي بالله عند أيوب قائلاً: “نَارُ اللهِ سَقَطَتْ مِنَ السَّمَاءِ” (أيوب 16:1). وعند قد وشى بالله آدم أيضاً بقوله، كما هو مكتوب: “فَقَالَتِ الْحَيَّةُ لِلْمَرْأَةِ: «لَنْ تَمُوتَا! بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ»” (تكوين 4:3-5). وأكثر من ذلك، هو يقول لكثيرين اليوم: “لا يلتفت الله إلى الكثير من الأمور التي ترونها، لكنه ترك للشياطين الاهتمام بكل ما يخصّكم”. لقد افترى الشيطان حتى على المسيح عند العبرانيين مسمياً إياه بالمخادع والغشّاش والساحر.
ومع هذا فقد يرغب البعض بمعرفة كيف يعمل. عندما يجد فكراً خالياً من محبة الله، وعندما لا يجد نفساً حكيمة، أو نفساً لا تتأمّل بوصايا الله ولا تحفظ ناموسه، عندها يسعى لاعتقال هذا الإنسان. لاحقاً، يتركه. لو أن آدم عندما كان في هذه الحالة تأمّل بوصية الله القائلة: “وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ»” (تكوين 17:2)، لما كان تحمّل كل ما عانى من الألم.[12]
ج) “الأسد”
يُدعى الشيطان أسداً في الكتاب المقدس. اسمعوا ما يقول: “أُصْحُوا وَاسْهَرُوا. لأَنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ.” (1بطرس 8:5). والقول نفسه في مكان آخر: “عَلَى الأَسَدِ وَالصِّلِّ تَطَأُ. الشِّبْلَ وَالثُّعْبَانَ تَدُوسُ.” (مزمور 13:91). يأخذ الوحش أشكالاً كثيرة، لكن إذا كنّا ساهرين، يصبح هذا الأسد وهذه الحيّة أتفه من الطين. لن يأخذ الشيطان موقعه ضدنا مباشرة. وحتى ولو ظهر فبإمكاننا أن نسحقه، لأنه مكتوب: “هَا أَنَا أُعْطِيكُمْ سُلْطَانًا لِتَدُوسُوا الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةِ الْعَدُوِّ، وَلاَ يَضُرُّكُمْ شَيْءٌ.” (لوقا 19:10).
هو عادم القوة أمام المسيحيين
يطوف الشيطان باحثاً عن فريسة في كل مكان، بغضب كبير تماماً كما يفعل الأسد. وفي كل الأحوال، إذا استطاع أن يوجّه الإهانة إلى الذين يحملون المسيح وصليبه على جباههم، وإلى نار الروح القدس وشعلتها التي لا تُطفأ، إلاّ إنه عاجز حتّى عن النظر إليهم. لهذا هو سوف يدير ذنبه ويرحل غير متجرئ على العودة مجدداً.
لكي تعلموا أن كلّ ما قيل ليس مجرّد كلمات، أناشدكم أن تقرؤوا كتابات الرسول بولس. هذا لأنّه كان إنساناً أيضاً. في أي حال، بما أن هذا الأسد كان خائفاً جداً من بولس، فقد تجنّب حتى ثيابه وظلّه. هذا كان طبيعياّ جداً وسببه أنّ الشيطان لم يستطع أن يتحمّل عبير المسيح الذي انبثّ صادراً عن شخص بولس، ولا هو استطاع حتّى أن يرفع عينيه نحو تلك الشعلة الفاضلة.[13]
ج) المجرّب الأبدي
يقول الإنجيل ببساطة أن الإنسان شرير، ولكنّه يسمّي الشيطان مجرّباً عند كلامه عنه. لماذا؟ هذا لأن الشيطان صار أبا الشر. ولهذا السبب هو يُدعى المجرّب الأبدي أو المُغوي، وهذا يكفي. وبدل الإسم الأول فإن اللقب يُستَعمَل بسبب طاقته المفرِطة على الإغواء التي لم تُخلَق فيه بل اكتسبها لاحقاً.[14]
“لكن نجنا من الشرير” (متى 13:6). الإنجيل يُسمّي الشيطان “الشرير” ويحفّزنا على الدخول معه في معركة لا تنتهي. إنّه يشرح أيضاً أنّ هذا الشر ليس أصلاً من طبيعته، لأن الشر ليس من مكونات طبيعتنا، بل هو نتيجة الإرادة.
إنّه يُدعى هكذا بشكل خاص، أي بالشرير، بسبب شره المفرِط. وحتى لو لم نرتكب أيّ ظلم نحوه بأي شكل من الأشكال، فهو قد أعلن علينا حرباً لا تلين. لهذا السبب لم يقل ربنا يسوع المسيح “نجّنا من أمور الأشرار” بل قال “نجّنا من الشرير”. إنّه يعلّمنا أن نحسّ مع إخوتنا البشر بغض النظر عمّا يفعلون لنا، ولكن أن نوجّه غضبنا إلى الشيطان لأنّه مصدر كل الشرور.
عندما يقول “لأن لك الملك…” (متى 14:6)، يظهر أن الشيطان مذعِن، فيما هو عدونا ومن الجلي أنّه يحاربنا، لكنّ هذا بإذن من الله. فهو أحد خدّام الله، مع أنّه أحد الذين تمرّدوا ووقفوا في وجه الرب. لم يكن المتمرد ليهاجم أيّاً من خدّام الرب لو لم يكن قد أخذ إذناً من العلى. ماذا أقول لخدامه المخلصين؟ أقول أنّ الشيطان يعجز عن مهاجمة حتّى الخنزير، لو لم يكن مسموحاً له بذلك. لو لم يُعطَ إذناً من السماوات لما كانن قادراً على مهاجمة الخراف ولا حتى الماشية.[15]
ه) وحش شرير كثير الأسماء والأشكال
الشيطان بكل قوته هو مثل الخنزير الوحشي والوحش البرّي لأن مظهره وحشي وقذر. عندما أراد الإنجيل أن يعلن اغتصابه قال عنه أنه “كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ.” (1بطرس 8:5). في أي حال، عندما يريد الإنجيل أن يفضح حقده المؤذي القاتل المأسوي، يدعوه الحية والعقرب، فيقول “هَا أَنَا أُعْطِيكُمْ سُلْطَانًا لِتَدُوسُوا الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةِ الْعَدُوِّ، وَلاَ يَضُرُّكُمْ شَيْءٌ.” (لوقا 19:10). ومجدداً، عندما يريد أن يظهر قوته ومعها اختصاصه في التسميم، يسمّيه الحيّة (أو التنين). تماماً عندما يقول: “هذا التنين الذي خلقته ليلعب فيه” (مزمور 26:103). في كل مكان، يسمّى الثعبان الشرير والأفعى التي تتصرّف كمعيق. إذاً، الوحش مركّب ومتعدد الأشكال. وفوق هذا، إنّه ذو قوة هائلة. إنه يثير كلّ شيء، يعكّر الجميع ويقلب كلّ شيء رأساً على عقب.
لكن لا تخافوا ولا ترتعدوا. فقط ابقوا متيقظين وحذرين، فهو سوف يظهر كمثل عصفور لا يؤذي. قد قيل: “هَا أَنَا أُعْطِيكُمْ سُلْطَانًا لِتَدُوسُوا الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةِ الْعَدُوِّ، وَلاَ يَضُرُّكُمْ شَيْءٌ.” (لوقا 19:10). إذا أردنا ذلك، لقد أعطينا السلطة لكي نسحقه بأرجلنا.
لاحظوا إذاً، مدى غرابة كل هذا البؤس. ذاك الذي ينبغي أن يكون تحت أرجلنا هو الموجود فوق رؤوسنا. كيف يحدث هذا؟ الأمر يتوقّف علينا بشكل كامل. إذا رغبنا به يكون كبيراً، وإذا أردناه يكون صغيراً. إذا انتبهنا لأنفسنا وبقينا مع ملكنا، يكون تحت السيطرة وفي المعركة التي يخوضها ضدنا لا يكون أكثر من ولد صغير. ومتى ابتعدنا عن ملكنا يصبح متغطرساً يصرّ بأسنانه ويزأر لأنّه وجد أننا لسنا إلى جانب حليف عظيم. هذا لأنه لا يهاجم إلا إذا أذِن له الله بذلك.
متى يأذن الله له بمهاجمتنا
يسمح الله ببعض الهجمات علينا، عندما يريدنا أن نصلح أنفسنا أو عندما يطلب منا التكفير أو ليزيد من امتحاننا، كما فعل مع أيوب. أترون أنّه (الشيطان) لم يدنُ من أيوب ولا تجرأ على الاقتراب منه وحتى أنه خاف وارتعد من التفكير به؟
لماذا أتحدث عن أيوب؟ هذا لأنه عندما هاجم الشيطان يهوذا، لم يجرؤ على القبض عليه بالكامل والدخول فيه، إلى أن قطعه الله من جماعة الرسل المقدسة. إذاً، في البداية هاجمه الشيطان خارجياً لأنه عجز عن الدخول فيه. بينما عندما رأى أنه قُطع من بين الرسل القديسين انقضّ بعنف أكثر من الذئب ولم يتراجع إلى أن أمات يهوذا موتاً مزدوجاً، جسدياً وروحياً.[16]
الوحش شرير ويعمل كل شيء ضد خلاصنا.[17]
برهان شرّه
ماذا أقدر أن أفعل؟ فربّكم محب للبشر! هو يفضّل أن تجدّفوا عليه بكلمات آثمة على أن يسلمكم إلى أيدي الشياطين حتى تتعلّموا من الخبرة المباشرة كيف يسوسون الأمور. متى امتلكتم الخبرة تصبحون أكثر إلماماً بعنفهم.
لكن يمكنني أن أعطيكم الآن مثالاً صغيراً فقط.
لاقى المسيح بعض الأشخاص المسكونين خارجين من بين القبور، وسألوه أن يسمح لهم بالدخول في قطيع الخنازير. أذِن لهم، فدخلوا في القطيع ورموه مباشرة عن جرف الجبل.
هكذا تتسلّط الشياطين، مع أنهم كانوا بلا حجة لفعل بذلك بقطيع الخنازير. في أي حال، يختلف الأمر معكم لأن بينهم وبينكم معركة لا مصالحة فيها وعداء لا يموت وحرب عديمة الشفقة. بما أنهم لم يتمكنوا، ولو للحظة واحدة، من احتمال القطيع، فهل تتخيّلون ما قد يفعلوا بنا إذا أعطوا السلطة بذلك، ونحن أعداؤهم الذين نؤلمهم باستمرار؟ لهذا السبب، سمح الله لهم بالانقضاض على قطيع الخنازير لكي تعرفوا شرهم الفظيع على الحيوانات غير العاقلة. إنه جلي للجميع، أنهم كانوا ليفعلوا الشيء نفسه للمسكونين بالشياطين، أي أولئك الممسوسين السالكين في جنونهم، لو لم يكونوا تحت العناية الإلهية في ذلك الحين.
الآن، إذا التقيتم بإنسان يشوشه ويحركه شيطان ما، فصلّوا إلى الرب وافهموا حقد الشياطين. ما سوف تلاحظونه في الممسوسين هو شر الشياطين ومحبة الله للإنسان. يمكنكم أيضاً أن تروا الشر عندما يزعج الشياطين نفوس الممسوسين ويشوشونها. كما تستطيعون تبيان الإله المحب البشر عندما يُضبَط ويعَوَّق هذا الشيطان المتوحّش القوي الذي يعيش في داخل الإنسان ويشتهي سقوطه. ليس مسموحاً للشيطان أن يستعمل كل قوته لكنّه مسموح له فقط أن يظهر منها ما يكفي ليصلح الإنسان نفسه ويظهر كراهية الشيطان.
أترغبون أيضاً بمثال آخر عن كيف يتصرّف الشيطان بحقده عندما يؤذَن له؟ فكّروا بقطعان أيوب من الخراف والماعز، وكيف أبيدَت بلحظة واحدة، بموت أبنائه البائس المفاجئ وبقروحه! عندها سوف ترون وحشية الشياطين الصرفة وبربريتهم وقساوة شرّهم. من هذا تتعلّمون جيداً أنّه إذا سمح الله بأن تكون الأشياء تحت سيطرتهم سوف يقلبونها رأساً على عقب. فسوف يسببون الفتنة فيما بيننا ويفعلون تماماً ما فعلوا بالخنازير وبقِطعان أيوب. أبداً لن يأخذوا خلاصنا بعين لتقدير.
إذا تسلّم الشياطين زمام أمورنا، لن نكون أفضل حالاً من الممسوسين، بل قد نكون في حال أسوأ من حالهم أيضاً. هذا يعود إلى حقيقة أنّهم لم يكونوا متروكين من الله لحكم الشياطين المطلَق وإلا لكانوا عانوا كثيراً أكثر مما عانوه في ذلك الحين.[18]
التعرّف إلى الشياطين
يتعرّف الإنسان إلى الشيطان من كمية الجلبة التي يحدثها، مسبباً الحماقة والجنون والظلام الهائل في الإنسان. في أي حال، إن مَن يحمل الله في داخله هو شخص ينير ويعلّم بحكمة ما أمر به الله.[19]
سبب وجوده
لهذا السبب سمح الله له بوجوده: لكي يجعلكم أكثر قوة وليقدّمكم كرياضيين لامعين في المعركة الروحية، فتكون بطولاتكم أكثر قيمة.
فإذا سألكم أحد: لماذا سمح الله بوجود الشيطان؟ هذا ما عليكم الإجابة به: الله لم يمنع فقط عدم أذية الأشخاص الوقورين والمنتبهين، بل أيضاً جعل الأمر مفيداً لهم. وهذا ليس بحسب رغبة الشيطان الشرير والمخادع، بل بحسب شجاعة الذين يستفيدون من فظاعته. الشيطان هاجم أيوب ليس ليظهره أكثر مجداً بل ليغلبه. لهذا السبب هو مخادع، لأن رغباته ونواياه هي مخادعة. ومع هذا، فهو لم يؤذِ الرجل البار أبداً، بل على العكس استفاد الرجل من المعركة على ما أظهرنا سابقاً. وهكذا، أظهر الشيطان اغتصابه وأظهر رجل الفضيلة شجاعته. ولكنكم ذكرتم أنّه غلب كثيرين. بالطبع هو منتصر، لكن سبب هذا هو ضعف الأشخاص وليس قوته.[20]
منفعة وجوده
يقول الناس أنه لو لم يكن موجوداً لما كانت تقع الأمور السيئة. لكن عندها حتى الجحيم يكون بلا مغفرة. في أي حال، بهذه الطريقة أيها الصديق المحبوب، يكون عقاب الجحيم أخف وطأة. إذا ارتكبنا الشر من أنفسنا لسبب ما فإن العقاب يكون غير محتَمَل. والآن أخبرني. لو أن آدم ارتكب كل خطاياه من دون مشورة الشرير، فمَن كان ليحميه من المخاطر؟ وقد يحاجج البعض بأن آدم ما كان أخطأ. ولكن من أين يأتي بهذا الاستنتاج؟ إذ، إن الذي كان فاتر الهمّة وغير مبالٍ، وعلى هذا القدر من الاستعداد للحماقة حتى أنه قبل هذه المشورة، لا بد أنّه كان ليقوم بما عمله آدم وأكثر، من دون معونة هذا المرشد. أيّ شيطان أرشد إخوة يوسف إلى القتل؟
إذا كنّا منتبهين يكون مصدراً للتقدم الروحي
إذاً، أيها الأصدقاء المحبوبون، إذا كنّا حذرين ومتنبهين يصبح الشيطان سبباً لتقدمنا الروحي. أي ضرر أصاب أيوب من خداع الشيطان الجبان؟ إن ضعفاء الروح هم الذين يتضررون. ومع أنّهم يتضررون حتى ولو لم يكن الشيطان موجوداً، إلا إنهم يتضررون أكثر بأعمال الغاش. من ناحية ثانية، فإن عقاب الذي يخطأ مجرَّباً من الشيطان يكون أخفّ لأن العقوبات ليست نفسها لكل المعاصي.
لا نخدعَنّ أنفسنا. ليس الشيطان سبب جراحنا، إذا كنّا يقظين. إنّه يزيدنا يقظة وهو مَن يحفزنا. لو لم يكن هناك أي بهيمية ولا أي اضطرابات من الأهواء، ولا أمراض ولا حزن ولا ألم ولا أي شيء مما شابه هذه الأمور، كيف يكون الإنسان؟ أرى أنّه يصير خنزيراً أكثر منه رجلاً، يأكل ويسكر ولا يزعجه أي من هذه الأشياء. ولكن الأمور كما هي الآن، مع الاهتمام والحرص المُعطى لهذه المشاكل، هي تمرين وتهذيب على التقوى والإخلاص لله، كما أنها تربية ضرورية على الكمال.[21]
مكاسبنا من حروبنا معه
فلنأخذ مثال الحربة عندما تضرب الترس. إذا كان الترس ضعيفاً فإنّها تخترقه. إمّا إذا كان قوياً وصلباً، فإنّ الحربة تعجز عن أن تسبّب له أي ضرر. لا بل على العكس، تسقط الحربة أرضاً بعد أن تكون قد التوت عند هذه النقطة. الأمر نفسه يجري للنفس. أي إذا وجدت السهامُ التي يرميها الشرير النفسَ ضعيفة وواهنة، فإنها تتغلغل إلى صميمها. أمّا إذا وجدت النفسَ قوية وصامدة فإن الشيطان نفسه يتراجع عاجزاً عارفاً أنّه لم يسبب أي ضرر لهذه النفس. وهكذا، ينتج فائدتان، أو بالأحرى ثلاثة، فالنفس بقيت سالمة، وازدادت قوة، فيما الشيطان صار أكثر ضعفاً على أثر مسعاه هذا.[22]
[1] (In Genesis 12, GFC, 2,654-656. PG 53,188)
[2] (Concerning Repentance, A’ GFC 30,94. PG 59,278)
[3] (2 Thessalonians, A’GFC 23,12. PG 23,470)
[4] (Deductions to Theodore, GFC 30,836. PG 47,302)
[5] (Genesis, 15, GFC 2,400. PG 53,124)
[6] (Genesis, 16, GFC 2,426. PG 53,130)
[7] (Genesis, 18, GFC 2,554. PG 53,162)
[8] (Re Incomprehensible Matters, D, GFC 35,122. PG 48,730)
[9] (Ephesians 6:12, GFC 21,186. PG 62,124)
[10] (John 12:31, GFC 14,448. PG 59,408)
[11] (Ephesians, 4, GFC 20,498. PG 62,31)
[12] (2 Corinthians, 2, GFC 19,70-72. PG 61,402)
[13] (Psalms 7, GFC 5,294. PG 55,84)
[14] (Psalms 118, GFC 7,254. PG 55,422)
[15] (Matthew 18, GFC 9,680. PG 57,282)
[16] (Philippians,6, GFC 21,514-516. PG 62,224-225)
[17] (to the Witness Romano, Speech A, GFC 37,154. PG 50,608)
[18] (Concerning what is said about demon’s command ofman..GFC 31,58-60. PG 49,253-54)
[19] (1 Corinthians 28, GFC 18 A,248. PG 61,242)
[20] (That out of indolence comes evit…GFC 31,104. PG 49,266)
[21] ( Acts 34, GFC 163,268-270. PG 60,377
[22] (Psalm 8, GFC 5,454. PG 55,125)