الصفة المميزة للمسيحي

الصفة المميزة للمسيحي

الأب بيتر هيرز

نقلتها إلى العربية أسرة التراث الأرثوذكسي

مدخل

سوف نستكشف ونقدّم في هذا الحديث الصفة التي تحدّد معنى أن تكون مسيحياً، وهذا بالضبط هو الخُلُق (Ethos) الأرثوذكسي. تتجلّى هذه الخاصية في روح وعقلية الذين تطهّروا بالمسيح واستناروا، كما من خلال الحياة في المسيح. في وجوههم المستنيرة، نبلغ رؤية الإنسان والعالم جديدين، خاليين من التشويه الشيطاني. وبشهادتهم، نتعرّف، أو يُعاد تعريفنا، على المسيح المتجسد، بحضور الله الأيقوني في العالم، وهو الذي وعد حقًا أنه سيكون معنا إلى انتهاء العالم

منظور جديد للحياة

من الجيد جدًا وجودكم معنا اليوم في هذه الرحلة، هذا الاستكشاف، عن طريقة الوجود في المسيح. اسمي الأب بيتر هيرز. أنا كاهن أرثوذكسي ومؤلف ومترجم ومتحدث وناشر. أتحدث إليكم من منزلي في قرية جبلية يونانية خارج تيسالونيكي، حيث أعيش منذ عشرين عامًا منذ قدمت من أميركا في عام 1998

كما ذكرنا، اهتمامنا وهدفنا هنا هو التركيز على الخاصية المميزة للمسيحي الحقيقي ، وهي الخُلُق الأرثوذكسي. وبالتالي ، وبهذا فإن نظرنا سوف يكون بالطبع دائمًا على المسيح الذي هو الكل ضمن جسده الكنيسة. سوف نلقي نظرة على الواقع بطريقة يجدها الكثيرون منكم جديدة ومليئة بالتحدي، في نور الإله-الإنسان القائم والصاعد، كما عبّر عنه أولئك الذين صاروا آلهة بالنعمة بحسب قول القديس أثناسيوس الكبير. من خلال كوننا تلاميذ مخلِصين لله مستنيرين، سوف نكتسب جميعًا منظورًا جديدًا للحياة والموت والتاريخ والأبدية، وللهدف المعجِز لوجودنا

نهاية الحياة المسيحية (القديس أنطونيوس الكبير)

الكثير منا يكدّون عبثاً، لأننا لا نفهم بشكل واضح غاية وهدف حياتنا المسيحية، ولا الوسائل والطريق التي نصل بها إلى هذه الغاية. دعونا نبدأ بالنظر إلى اكتساب الخُلُق الأرثوذكسي مع أب الصحراء العظيم الأبّا أنطونيوس القديس العظيم. إنه يساعدنا منذ البداية على فهم وجهتنا، وهدفنا، وغايتنا. فهو يقول: “مَن يضرب قطعة من الحديد، يفكّر أولاً في ما ينوي صنعه، سيفًا أو فأسًا أو منجلًا. لذا، علينا أيضًا أن نفكّر في نوع التميز الذي يجب أن نسعى إليه، حتى لا نسعى عبثًا”. ما نوع التميز الذي يجب أن نسعى إليه

الأمر الأساسي هنا هو معنى الخلاص. ماذا يعني أن يخلُص الإنسان؟ ما هي الغاية؟ ماهي النقطة؟ لماذا نحن في الكنيسة يوم الأحد؟ لماذا نسمّى مسيحيين أرثوذكسيين؟ لماذا نسعى إلى المسيح؟ وممَّ وكيف نحقق هذه الغاية؟

بالنسبة للكثيرين، المسيحية ليست سوى أيديولوجيا، يتبنّى فيها الإنسان وجهات نظر معينة وأفكاراً معينة، وهي تحسّن حياتنا هنا وتكسبنا مكانًا في الملكوت بعد رحيلنا. الناس، إذ يرفضون الطبيعة الحقيقية لحالة الإنسان الساقطة، لا يحتاجون للخلاص منها. ومع ذلك، حتى بين المسيحيين المؤمنين حقاً، يُعتقد أن المعتقدات الصحيحة وحدها تكفي، كما لو أنها غاية في حد ذاتها أو أن الاعتراف بها هو اعتراف بالحقيقة التي هي إيماننا. نحن ندرك حقيقة من هو الله وما هو العالم كما لو أن إدراك هذه الحقيقة يساوي التغيير الوجودي أو يساوي الخلاص نفسه. ليس هذا هو الحال

إن الوصايا أعطيَت لوضعها موضع التنفيذ على غرار إعطاء الدواء لنتناوله ونتحسن فيتمّ الشفاء. يجب علينا وضعها موضع التنفيذ. يجب أن نعيش بحسبها. عندما ننتقل إلى إطار أو مجال آخر في الحياة، حيث يكون الخُلُق الأرثوذكسي حاضراً يصبح ملموساً. إن المحبة وشكر الله من قلب متواضع يرضى التسخّر ميلاً إضافياً من أجل أخيه أو إعطاء لا ثوبه بل رداءه أيضًا، يعني أنه قد تحرر من خوف هذا العالم وعبوديته وأشيائه

الانتقال إلى نطاق التمجيد (القديس باييسيوس الأثوسي)

كمثال على هذا، نسمع القديس باييسيوس الأثوسي يحكي كثيراً عن محبة الشرف. هذا ما يقول: ” إن غايتنا هي العيش بطريقة أرثوذكسية، وليس التحدث أو الكتابة عن الطريقة الأرثوذكسية وحسب. أولئك الذين لديهم محبة الشرف (فيلوتيمو)، لأنهم يتنقلون في مدى التمجيد السماوي، يقبلون تجاربهم بسرور، وكذلك بركاتهم ويمجدون الله عليها. وهكذا، فإنهم يتلقون بركات الله باستمرار من كل شيء وينصهرون إلى الأبد من الامتنان لله الذي يعبرون عنه بكل الطرق الروحية الممكنة كأبناء لله”

هذه هي حالة مَن بلغ التمجيد على كل شيء وأي شيء. لا شكّ في ان هذا جانب من اكتساب الخُلُق الأرثوذكسي. ويتابع: “للأسف في أيامنا ، تضاعفت الكلمات والكتب وتضاءلت الخبرات بسبب الروح الدنيوية التي تسعى إلى جميع وسائل الراحة وتتجنّب كل الجهود الجسدية وتؤثر على الناس بشكل كبير.”

يجد معظمنا الراحة في القراءة الكثيرة بمقابل القليل من التنفيذ أو عدمه. نحن ببساطة نتعجب من رياضيي المسيح القديسين دون أن ندرك كم جاهدوا لأننا لم نكدّ إلى درجة اختبار كدحهم وفهمه أو لمحبهتم وللجهاد بسبب مححبتنا للشرف أو لتقليدهم

لدينا العديد من الأمثلة عبر تاريخ الكنيسة كما في أيامنا عن الذين قاموا بذلك فناضلوا وكدحوا وخاطروا من أجل المسيح فمن ثمّ اقتنوا هذه النعم السماوية واكتسبوا الخُلُق الأرثوذكسي

الإيمان وعدم الخوف (القديس جون شانغهاي وسان فرنسيسكو)

القديس جون (ماكسيموفيتش) شنغهاي وسان فرنسيسكو هو أحد أعظم الأمثلة في الخمسين أو الستين سنة الماضية من تاريخ الكنيسة. أريد أن أقرأ من تدوينٍ حديث عبر الإنترنت يروي حدثًا رائعًا في حياة هذا القديس ويعلّمنا موقف الشخص الذي اكتسب الخُلُق الأرثوذكسي

في بعض الأحياء الفقيرة في شنغهاي كان يحدث أن تلتهم الكلاب أطفالاً حديثي الولادة تم رميهم في القمامة. إذ أُعلن هذا الأمر في الصحف، طلب الأسقف جون من السيدة شاخماتوفا أن تذهب وتشتري زجاجتين من الفودكا الصينية فتراجعت مرتعبة. وقد ازداد رعبها عندما طلب منها مرافقته إلى تلك الأحياء الفقيرة حيث كان من المعروف حدوث جرائم قتل كثيرة. الأسقف الشاب، بشجاعته المعهودة، أصرّ على الذهاب إلى هناك والسير عبر الأزقة المظلمة في أسوأ حي. تتذكر السيدة الرعب الذي سيطر على قلبها إذ سارا في ظلام الليل ولم يصادفا سوى المخمورين والأشخاص المشبوهين والكلاب والقطط المزمجرة. كانت تمسك الزجاجات بيديها وتتبعه بخوف. وفجأة سمع صوت دمدمة رجل مخمور يجلس في مدخل مظلم وأنين خافت لطفل من صندوق قمامة قريب

إذ اسرع الأسقف نحو الصراخ، هدر السكّير محذراً. فتوجّه الأسقف إلى السيدة شاخماتوفا وقال: “أعطني زجاجة”. رفع الأسقف الزجاجةَ بيد وأشار إلى القمامة باليد الأخرى المباركة، ومن دون الكلمات أوصل رسالة الصفقة المقترحة. انتهت الزجاجة في يد السكير وأنقذت السيدة شاخماتوفا الطفل. يُذكَر أنه في تلك الليلة عاد إلى دار الأيتام مع طفلين تحت ذراعيه. ولكن هذه الشجاعة لم تُقتنَ من دون صراع داخلي عميق. وهذا الخط الأخير هو المفتاح: بدون صراع داخلي عميق

هذا ما كان يتحدث عنه القديس بايسيوس. هذا الصراع الداخلي العميق تسبقه كل أعمال الفضيلة العظيمة. هذا الصراع الداخلي العميق هو حالة وأسلوب حياة. هذا النضال الداخلي العميق هو ما يتعيّن علينا جميعاً أن ندفع بأنفسنا عبره إذا أردنا أن نحرز تقدماً في اكتساب الخُلُق الأرثوذكسي، أي الطريقة الأرثوذكسية لأن نكون في المسيح

تجلي الإنسان بالكامل (مثال الشيخ أفرام أريزونا)

إن اقتناء الخلق الأرثوذكسي يكون ظاهراً. ليست النتيجة الأعمال الصالحة أو السلوك الأخلاقي أو الأفكار المستنيرة وحسْب. ليس أن يكون الإنسان شخصاً صالحاً بل أكثر من ذلك بكثير. هو ليس اقتناء بعض الفضائل أو الكثير منها بل بالأحرى هو اقتناء الروح القدس نفسه والنعمة والقوى من الله التي تعيد ولادة الإنسان وتجعله قديساً بالكامل وليس أحد أوجهه وحسب

لدينا مثال في أيامنا، شيخ عظيم رقد منذ فترة قصيرة، وهو الشيخ أفرام الفيلوثاوي الأريزوني. إن الذين كانت لهم بركة لقائه في هذه الحياة يشهدون بأن الانطباع الذي تركه ليس من طريقته الرائعة بالكلام ولا أفكاره اللامعة ولا كونه معلماً متميزاً أو إدارياً أو لامعاً في بعض الأمور. إن ما يصنع الانطباع هو كل ما يتعلّق به، فالرجل قد تقدّس بكليّته: طريقة تكلّمه، مشيته، جلسته، ومنظره. كل ما له علاقة به يخلق الانطباع بأنه لم يكتسب بعض الفضائل وحسب بل اقتنى الروح القدس والروح اتخذه مسكناً فصار هذا الرجل من الله. فعليه كل شيء كان عطراً ناعماً، عيناه وطريقة نظره وكلماته، كلها تحكي عن الملكوت

إن هذا مثال في زماننا عن كل ما عبر به كل القديسين من التطهر والاستنارة والتمجيد وما صاروا إليه. إنه خاصية القديس وهو أبعد بكثير مما يقوله الكثيرون اليوم. فكثيرون يتحدثون عن القديسين اليوم وأخشى لكثرة هذا الكلام أن نصل إلى تسمية البعض بقديسين وممَجَدين دون أن ينطبق عليهم هذا الوصف. فتحت تأثير الأخلاقية والنظرة القانونية والتديّن سوف نخطئ بتمييز القداسة عن ما هو من هذا العالم. لننتبه إذاً. الأمر ليس مجرد أن يصير الإنسان لامعاً او أخلاقياً أو شخصاً صالحاً. الأمر هو في تحوّل كامل، تجلٍّ وإعادة ولادة لكل وجه من أوجه الشخص البشري

يكفيني أن أراكم (القديس أنطونيوس الكبير)

قبل أن ننهي هذه الحلقة، أريد أن أقرأ لكم كشهادة أخرى على موضوعنا، من حياة القديس أنطونيوس فنختم بشهادته كما بدأنا معه

يرِد في كتاب أخبار الشيوخ، اي أقوال الآباء، أن ثلاثة من الآباء كانت لهم العادة أن يزوروا القديس أنطونيوس سنوياً. وكان اثنان منهم يسألان أسئلة عن الأفكار المشوِّشة وخلاص النفوس فيما الثالث صامت دوماً لم يسال يوماً سؤالاً وبعد وقت طويل، قال له الأبّا أنطونيوس “ما لك، من زمن طويل أنت تأتي من مسافة بعيدة، ولا تسأل سؤالاً واحداًّ!”فأجابه قائلاً: “يكفيني أن أراك أيها الأب”

ثمرة الصليب: قصور العقلانية الكامل

هذه هي ثمرة الصليب، إنها قوة الصلب، صلب العقل والأهواء الذي يغيّر فلا تعود الكلمات ضرورية. تأمّل الرجل القديس ببساطة يغيّر الذين ينظرون إليه. هذا ما قاله القديس سارافيم ساروفسكي: “اكتسب الروح القدس وآلاف من حولك سوف يخلصون”. أمام المسيح وكل القديسين تصمت كل الكلمات. تتوقف كل النقاشات. وتقصّر العقلانية بالكامل. من جهة أخرى، إن لم يتحقق الخُلُق الأرثوذكسي، اي طريقة الكينونة في المسيح، لا يمكن الثبات في المركز فينشأ التطرف، وتظلم الطريق الملوكية ويسقط نظرنا نحو الأرض

الخلاصة: “متى ارتفعت عن الأرض

ما من شيء يحلّ مكان الخُلُق الأرثوذكسي. إنه الخاصية المميزة للمسيحيين الحقيقيين. إنه يفوق كل الأعداء قوةً، وكل المناهضين، وكمغناطيس يجتذب الكل إلى ذاته، بحسب كلمات السيد”متى ارتفعتُ عن الأرض جذبتُ الكل إليّ”