الكورونا افتقاد من الله
المطران ثيودوسي (سنيغيريف)*
نقلتها إلى العربية أسرة التراث الأرثوذكسي
سؤال: تطغى أخبار الجائحة على كل ما عداها. وقد علمنا مؤخراً عن إصابة رهبان لافرا كييف وعن المطران يونان، وكيل رئيس الأساقفة، الذي تلقى العلاج في مستشفى ألكسندروف في كييف. بالإضافة إلى أخبار مشابهة من مختلف الأبرشيات في أوكرانيا. كيف يفهم المؤمنون هذه الأخبار وكيف تقرؤونها؟
جواب: قد يُفاجأ بعض القرّاء من جوابي. لكن إصابة المطران يونان ورهبان اللافرا افتقاد من الله للكثير من المؤمنين أتت في الوقت المناسب. كلنا مهتمون بصحتهم وشفائهم. لقد تمّ فحصهم في الوقت المناسب وهم يتلقّون العلاج المناسب. لكن لا يمكننا إخفاء المنفعة الروحية التي يمنحها الله من الأسى المرافق. ماذا جرى؟ خفتت أصوات الوعّاظ المفرطين بالغيرة و”المتقدسين” الذين لم يأبهوا لشيء، ولم يكن يعيدهم إلى عقلهم لا طلب البطريرك ولا حتّى الوقائع التاريخية عن اندثار أديار أرثوذكسية بأكملها خلال جوائح العصور الوسطى، ولا حتى الخبر الأخير عن وفاة الأسقف الصربي ميلوتين (كنيزيفيتش)
الآن هدؤوا قليلاً. أنظر إلى كهنة أعرفهم تلوثوا بهذه الأفكار المتطرفة، لكنهم الآن يقولون: “سيدنا بدأنا نفهم”. لكنهم قبل ذلك، أساؤوا إلى رؤسائهم وتمتموا على أساقفتهم بأنهم “قليلو الإيمان”. لكن تدبير الله اختار لمهمة غرس الحكمة الأكثر استحقاقاً بين إكليريكيينا وأكثرهم سلطة روحية: سيدنا يونان وإخوته في دير كهوف كييف. فليمنحهم الرب القوة والثبات والشفاء العاجل
سؤال: لكن هل هناك سبب روحي لهذه الجائحة العالمية، أو كل ما يجري هو عادي؟
جواب: بالطبع هناك سبب روحي لكل ما يحدث لكنه متشعب ولكل جزء من المجتمع وجهته. لا يمكننا إنكار أن الوباء ونتائجه نافعة جداً لبعض القوى العالمية، وهذا يعني أنه لا يمكننا حذف إمكانية أن هذه القوى كانت وراءها وهي تتداول بها. لكن علينا أن نذكر بأن في الوقت نفسه، ما كان الله ليسمح بتطور هذا الوباء وبلوغه ما بلغه لو لم يكن يقصد بعض المعنى العقابي التربوي. لمَن هو هذا العقاب والتعليم؟ بشكل عام، للبشر في كل العالم، وبشكل خاص للكنيسة الأورثوذكسية في كل العالم
سؤال: أرجو أن تشرحوا ببعض التفصيل
جواب: وصل العالم الحديث إلى بداية القرن الحادي والعشرين بتناقضات داخلية عميقة. التناقض الأساسي هو بين صوت الله، ومنه ضمير الإنسان، وقوانين الإنسانوية التي بلغت في الغرب حدّ التفاهة حتّى أن غالباً ما صار يسمّى الأبيض أسوداً والأسود أبيضاً، وبشكل عام امتزجت الألوان. في الطب، هذا يسمّى عمى ألوان. في الوقت نفسه، الأجيال الأكبر ما زالت تذكر الأسماء الصحيحة للألوان. هذا هو الصَدَع الروحي العميق في المجتمع المعاصر. يمكننا أن نتصوّر أن الجنس البشري كان في حالة روحية أخلاقية مشابهة قبل الطوفان. جائحة الكورونا هي مثل طوفان مُصَغّر، سوف تقتل البعض وتحفظ الآخرين، لكنها سوف تهزّ إيمان البشر بحصانة الإنسانوية، وهذا يعني أيضاً الخطيئة التي صارت قاعدة. بشكل عام، هذا سوف يؤدّي بالشعب العادي إلى إعادة تقييم مؤقتة لمسلّمات حياة الخطيئة التي صاروا معتادين على عيشها في العقود الأخيرة.
سؤال: وبالنسبة للكنيسة الأرثوذكسية ما معنى أن الله سمح بحدوث هذه الجائحة؟
جواب: بالنسبة للأرثوذكسية ككل، ينبغي تقسيم السؤال على مكونين. المكون الأول هو… الذين بأيديهم وضعوا الأرثوذكسية في العالم على شفير الانشقاق… فهذا افتقاد إلهي، وخلاص من الله. وليس مفاجئاً أبداً أن العالم الدهري… الذي كانوا مؤخراً يريدون إرضاءه على حساب الوحدة الأرثوذكسية… يدير وجهه عنهم عندما يطلبون إذنه ليقيموا القداس بأي شكل وفي أي مكان. هذا درس جيد. وفي الوقت عينه نتعاطف مع رؤساء الكهنة الذين بقوا مخلصين للروح الآبائية في القوانين الأرثوذكسية. ربما هم يفهمون بشكل جيد الأسباب الروحية للأحداث الحالية ونتائجها الممكنة. فليعطِنا الرب أن يكون هذا الوضع بداية حسنة لإعادة التفكير بالأسباب التي أوصلت الأرثوذكسية إلى حافة الانشقاق
المكوّن الثاني يتعلّق بغالبية العالم الأرثوذكسي: معنى هذه التجربة؛ النتائج التي ينبغي استنتاجها مما يجري؛ ماذا يتوقع الرب منا؟ قد يكون الاستنتاج الأساسي هو أننا ظهرنا كلياً غير جاهزين لهذا النوع من التحديات المعاصرة. نحن فعلياً بحاجة إلى إعادة التفكير بأشكال الحياة الخارجية في الكنيسة الأرثوذكسية تحت الظروف القهرية.
سؤال: وماذا ترى في البث المباشر للخدَم؟ بظل كل ما يجري، الكثيرون يطرحون سؤال: أمن الممكن أن يكون هناك حياة روحية من دون كنائس؟
جواب: لقد تفعّلت نقاشات لاهوتية في الكنيسة حول موضوع إمكانية العيش من دون كنائس. سوف أقول أنه قد يأتي وقت حين، سواء أردنا أو لا، سوف نعيش من دون كنائس، كما عاش المسيحيون من دونها في القرون الثلاثة الأولى. فليحفظنا الرب من العيش إلى ذلك الوقت. لكن مهمتنا الآن، بالنسبة للأرثوذكسيين المعاصرين، هي التفكير بشكل حياة في الكنيسة تحت أي ظروف وإنتاج هذا الشكل، حتى إن أخذوا كنائسنا منا. بالنهاية، هذا قد يحدث عاجلاً أو آجلاً
من الممكن العيش والخلاص من دون كنائس فخمة. ولكن يستحيل العيش والخلاص من دون نعمة الأسرار . كل قيمة الكنيسة الأرثوذكسية هي أن هنا نعمة الأسرار تُسكَب في حياة الإنسان. لكن يمكن أيضاً إقامة الأسرار خارج جدران الكنيسة. يمكن أن تقف كنيسة من دون أسرار تُقام فيها، من دون دم، خالية من معناها وغايتها، كمثل الأيا صوفيا في اسطنبول. المعنى هو أن خلاص الإنسان ليس في بناء الكنيسة، بل في أسرارها. قد يأتي وقت لن تكون لنا كنائسنا، فلنقرأ بصدق وذكاء كلمات الرؤيا. ماذا عندها؟ أتتوقف الحياة الروحية؟ أتتوقف إقامة الأسرار؟ بالطبع لا. ومهمتنا هي أن نفكر بكيف سوف نعيش في ظل تلك الظروف. لقد دفعتنا هذه الجائحة العالمية إلى هذا
لقد وصلت معلومات (في وقت المقابلة) حول الكورونا. كل كنائس أوستراليا الأرثوذكسية سوف تُغلَق لنصف سنة. نصف سنة! ينبغي أن يحرّكنا هذا الأمر إلى المباشرة فوراً وبطريقة منهجية إلى تطوير طرق بديلة لمشاركة المؤمنين في أسرار الكنيسة المملوءة نعمة
سؤال: أتعتقدون أن الكنيسة الأرثوذكسية سوف تسمح في نهاية المطاف بالاعتراف عِبر وسائل الاتصال الحديثة؟ كثيرون يتجادلون حول هذا الأمر حالياً
جواب: أفترض أن هذا بالكلية ممكن. بالإضافة، في ظل الظروف القائمة خلال الجائحة، قد تكون وسائل الاعتراف الوسائل الرئيسية المعروفة. لكن هذا التغيير أو أي تغيير آخر في شكل إقامة سرّ يجب أن يُراجَع ويُبارَك بالفكر المجمعي. لا ينبغي أن يكون هذا قراراً شخصياً من أسقف أو كاهن. بشكل عام، الأسرار أو الطقوس التي تستدعي احتكاكاً شخصياً أو مشاركة في شيء مادي لا يمكن إقامتها عن بعد. وهذا لا ينطبق على الاعتراف، وقد جرى هذا الشواذ عدة مرات في حياة الأرثوذكسيين الروحية خلال القرن العشرين (يقصد هنا تحت الحكم الشيوعي: المترجم)
سؤال: سيدنا، ماذا تقولون عن الاشتراك بالأسرار بالاتصال المباشر (أونلاين)؟
جواب: هذه ممارسة مؤقتة. بالطبع، إنها مشاركة كاملة في الخدَم، لكنها بالرغم من ذلك أفضل من لا شيء. من الممكن أن ملايين الأرثوذكسيين في كل العالم يشكرون الله على هذه الفرصة، أي أن يسمعوا ويروا ويصلّوا مع الكهنة. من خلال الإنترنت وغيرها من وسائل الاتصال الحديثة لا يمكننا أن نشارك وحسب، يمكن أن نجد عظات وأدب روحي منوِّر وموسيقى كنسية وأفلام أرثوذكسية وغيرها الكثير. ولكن إن باشروا بسَوقِنا (كالماشية) بشكل جدي، فهذه سوف تكون من أوائل الأشياء التي سوف يقطعونها. من ثمّ سوف نتذكّر كم كنا غير مكتفين بالخِدَم المباشرة.. إذا في يوم من الأيام انتقلنا إلى السراديب، كما حدث قبلاً في التاريخ، فسوف نتذكّر الإنترنت بحَنين. علينا أن نقدّر ما لدينا
لقد تكلمنا إلى صحفيين أرثوذكسيين عن كيف في الثلاثين سنة الأخيرة الكثيرون من أبناء رعايانا صاروا مدللين روحياً ومتراخين. لقد صاروا معتادين على أن يكون لديهم كل شيء بوفرة، كنائس عند كل زاوية، مناولة في كل خدمة، أديار، آباء روحيين وما عليك إلا الاختيار، زيارات حج، عظات، زياحات بالصلبان وكل ما تشتهيه النفس… جيل كامل من المدللين روحياً، “أولاد” بالغون ترعرعوا مع شعور بأهميتهم، وحولهم ينبغي أن يتمحور العالم كله، بما فيه العالم الروحي… لكن الآن، ما أن ضغطت الكنيسة قليلاً فبدلاً من أن يمسكوا بأيدي بعضهم برجولة، راحت أجيال الشباب من المؤمنين تدين كهنتها وتهمس ضد رئاسات الكنيسة، متهمة إياهم بمحاباة السلطات وعملياً بخيانة الإيمان. لكن لنتذكّر كيف كان كل شيء قبل ثلاثين سنة، كله كان مختلفاً، كل خدمة، كل اشتراك بالأسرار كان حدثاً مكتملاً يعزّه المؤمن في قلبه لوقت طويل. أخبروني الآن، هل نجد شيوخاً من المؤمنين يجزعون ويتأففون مما يجري؟ بصعوبة نجدهم. فجيل السوفيات من المؤمنين يعرفون تماماً ثمن الروحيات. لا يسمحون لأنفسهم بإدانة رعاتهم، بل على العكس يحاولون دعمهم. اليوم، علينا أن نكون صبورين وحسب. علينا أن نقبل كل شيء كما من يديّ الرب، نحتمل، نستنتج، ونستعد لتجارب المستقبل في الكنيسة، وهي قد تكون أقسى
سؤال: اتعتقدون أن هذا سوف يكون قريباً؟
جواب: أرغب من كل قلبي بأن لا يجري هذا قريباً. أريد أن أصدّق بأن جيلنا لن يحيا إلى التجارب الأخروية. مع أن هذا لا يعرفه إلا الله. في النبوءات التي انتقلت شفوياً من قديسي القرن العشرين المحليين كالقديس لافرندي شارنيكوف وكوشكا أوديسا وأمفيلوخيوس بوكاييف، نقع أحياناً على كلام عن وقت آتٍ حين سوف تتجدد الكنائس وتُستعاد وتُذَهَّب القبب ولكن لن نستطيع دخولها. يقول القديس كوشكا أن علينا أن نحتفظ بخبز التقدمة والماء المقدس لبعض الوقت، ربما لستة أشهر. لقد اعتدنا أن هذه النبوءات تنمو بسرعة مع إضافات وملحقات من الغيورين الذين تنقصهم الحكمة. فهم يقدّمون ما يرِد في رؤوسهم. ومن دون خجل يختلقون ويضيفون إلى كلمات القديسين نزواتهم الشخصية عن “كفر رؤساء الكهنة” و”تتويج ضد المسيح على يد بطريرك أرثوذكسي” وما شابه. وتتحول تخيلاتهم إلى نشرات عن نساك القرن العشرين مع نبوءات صحيحة. ويبدو للكثيرين أن القديسين قالوا هذه الأشياء بالفعل، ولكن الأمر يختلف عن ذلك.
إليك بمثال: أنا تحدثت كثيراً مع الراهبة حاملة الإسكيم الكبير الراقدة فيرا (شميخوفا) وهي ابنة روحية قريبة من القديس كوشكا أوديسا، وقد تربّت عند قدميه. لطالما أخبرتنا وأرَتْنا في كتب ما قال القديس فعلياً في حياته، وما نَسَبَه إليه لاحقاً الأخرويون وما لا يمكن أن يكون قد قاله من حيث المبدأ، وقد تمّ نشره بملايين النسخ. صدّقني هناك فرق جوهري. وهذا ما يجري أيضاً مع الكثيرين من نساك القرن العشرين
سؤال: أيمكنكم أن تخبرونا أكثر وبشكل خاص ما قاله القديسون وما لم يقولوه؟
جواب: سوف أقول بشكل أكثر تخصيصاً ما قاله القديس كوشكا أوديسا. أما ما لم يقله وقد نُسِب إليه فموضوع واسع وحساس وأعتقد أنه يمكننا أن نحكي عنه عندما يحين الوقت. يمكننا أن نفترض الأمر نفسه عن القديس لافرندي شيرنيكوف. برهان غير مباشر على هذا الكلام هو أن في مصادر أدبية مختلفة تَرِد التوقعات نفسها مع تفاصيل مختلفة جذرياً. إذا غربلنا من نبوءات قديسي القرن العشرين كل الابتداعات المعادية للكنيسة، لا يبقى إلا الكلام عن الوقت حين كنائس الله سوف تكون قبابها مذهّبة ولكن يستحيل دخولها، كما قال القديس لافرندي. كما أن القديس كوشكا حذّر مسبقاً بأنه سوف يأتي وقت نحتاج إلى تخزين القربان والأنديذورون والتقدمة والماء المقدس لنصف سنة. سوف تكون الكنائس عاملة ولكن لن نستطيع أن نتناول فيها. نصف سنة. ألا يثير هذا بعض التشابهات؟
سؤال: يبدو أنه ينطبق على اليوم
جواب: نعم بالنسبة للأرثوذكسيين في أوستراليا وأميركا وأوروبا، هذا هو الواقع اليوم. بالنسبة لنا، قد تكون واقع الغد
سؤال: أمر مثير للاهتمام لكن محزن. أيمكن أننا لا نستطيع أن نرجو الأفضل في المستقبل؟
جواب: لمَ لا؟ على العكس بشكل مطلَق. بحسب نبوءات قديسي ونساك القرن العشرين أنفسهم، نحن الأرثوذكسيون ما زال أمامنا أن نختبر إزهاراً غير قليل في كنيستنا وشعبنا. ولكن لهذا على العالم أن يعيد تشغيل أو يعيد ضبط الشهادات التي قد نكون منها الآن
* مختارات من مقابلة معه أجراها الشماس سيرجي جيروك. النص الكامل بالإنكليزية على https://orthochristian.com/131274.html
** المطران ثيودوسي مطران بوياركا في أوكرانيا ووكيل رئيس الأساقفة أونوفري.