إعداد أسرة التراث الأرثوذكسي
يقبع البشر اليوم تحت الخوف من الكورونا، وبخاصة ضعاف المناعة منهم. البعض يعيش أشكال مختلفة من القلق، كإنهاء العام الدراسي أو تزايد عدد المحتاجين أو انهيار الأسواق وتوقفها أو ازدياد أعداد العاطلين عن العمل أو المشاكل المتزايدة الناشئة عن الإغلاق القسري للأعمال. وآخرون مشغولون بأمور دون ذلك كتأمين المواد الحياتية وغيرها. ولكن مهما كانت درجة الخوف أو القلق ومصدرها، فالجميع يتفقون على أن العالم لم يعد كما كان قبل شهرين.ـ
فأمام التجربة التي رمتنا فيها الكورونا ماذا يُفتَرَض بنا، كمؤمنين أرثوذكسيين، أن نعمل؟ أن نفكر؟ من أجمل الإجابات على هذه الأسئلة قولٌ لأحد الآباء متوجهاً إلى رعيته بأن إيماننا أعطي لنا من الله ليقوينا خلال الأوقات الصعبة في حياتنا.ـ
كل القوانين الروحية التي نلتزم بها خلال الصوم بالتحديد، وخلال حياتنا، تهدف إلى تأصيلنا في محبتنا لله وإيماننا به لمواجهة لحظات كالتي نمرّ بها الآن. نحن نصوم لننقّص من محبتنا لذواتنا ونزيد من محبتنا لله. نحن نزيد صلواتنا وخدمنا الكنسية لنزيد إيماننا. نحن نساعد المحتاجين لنقوي محبتنا لبعضنا البعض. وفي قيامنا بكل هذه الأعمال، نتعلّم أن نركّز حياتنا حول الله، وحول ما جاء ليحققه هنا وما يقوم به يومياً من أجلنا.ـ
هذا الإيمان هو بمثابة منارة وسط ضباب الحياة السميك. إنه يبقى ثابتاً ومستقراً. الإيمان أهّل رجالاً ونساءً كثيرين أن يثبتوا عبر التعذيبات التي تعرّضوا لها. إنه ما جعل الجنس البشري يصمد عبر كل الأوبئة والحوائج التي في أوقات مختلفة سيطرت على الكون وأمسكت الجميع في الخوف. إن هذا الإيمان هو ما سوف يسمح مجدداً لكل واحد منا في الأسابيع المقبلة أن يرى بوضوح ويثبّت الآخرين العاجزين عن أن يروا ما فوق هذا الضباب السميك الذي نزل على العالم. خلال هذا الوقت من التشوش والغموض، حيث انقلبت حياة الكثيرين، لا بدّ من تقديم بعض الأفكار والتوجيهات لنفكّر فيها فيما نعبر هذه الأيام.ـ
أولاً، لا يحتاج المؤمن إلى متابعة الأخبار أربعاً وعشرين ساعة على سبعة أيام، لأن التخمة بالمعلومات تؤذي العالم أكثر من الوباء نفسه. نعم، ضروري أن نعرف ونتثقّف لكن من الضروري أن ننتبه لئلا يتحوّل الوباء إلى هوس، وهو أمر خطر على النفوس لكنه قابل للتحقق بسرعة. على المؤمن أن يكتفي بأن يعرف المستجدات مرة أو اثنين في اليوم. من بعدها يطفئ التلفزيون وكل تطبيق قد ينقل إليه الأخبار. فليستمع للترتيل، ويقرأ الكتاب المقدس، ويغذّي فكره بالأمور الإلهية.ـ
من الضروري أن لا ننسى أن الذعر يأتي من ضعف الإيمان بالله وبمحبته لنا. الاستعداد والجهوزية والانتباه ضرورية لكن لا ينبغي أن يكون للذعر مكان في قلب المسيحي. متى أحس بشيء من الذعر فليجرِ إلى زاوية الأيقونات (إن وجدَت) ويؤدّي سجدة أمام أيقونة السيد ويسأله الغوث وقوة الإيمان الضرورية للتغلب على الخوف واليأس.ـ
ثانياً، على المؤمن أن يحفظ هدوءه من أجل غيره وخاصةً غير المؤمنين. هنا يأتي تعليم القديس سارافيم ساروفسكي: “اكتسب روح السلام وسوف يخلص ألف من حولك”. عندما نصلي، في الكنيسة أو فردياً، فلنحرص على ان تبقى فكرة الكورونا خارجاً. ففي الصلاة نحن ندخل سرياً إلى ملكوت السماوات حيث لا يوجد جراثيم. لتبقى اهتمامات المرض وكل المخاوف خارجاً في العالم حيث تنتمي.ـ
ثالثاً، القداس الإلهي هو ما ينبغي على المؤمن الحفاظ عليه بكل قواه خاصةً أمام التجارب التي يطرحها عليه الكلام عن انتقال الأمراض وكأن ما في الكأس المشتركة هو مجرد مادة.ـ
رابعاً، على المؤمن أن يتوقع اضطهادات. فإيمانه سوف يخضع للتجربة خلال الجائحة. كما أنه سوف يكون هناك اضطهاد من مصدرين: الخارج والداخل. اضطهاد الخارج ينفذه الذين لا يعرفون قوة القداس وضرورة سر الشكر مع أن بعضهم قد يكون من الذين ينادون ببنوتهم للكنيسة. أما اضطهاد الداخل فيأتي من الشكوك التي يزرعها المعاند في ما يمارسه المؤمن.ـ
من الأمور الجوهرية التي ركّز عليها المضطهدون من داخل الكنيسة هي المناولة في زمن الكورونا. السبب الرئيسي لطرح السؤال هو الخوف من انتقال العدوى. التقليديون يقولون أن لا مكان للعدوى أو للتلوث أن يعبر في الكأس المقدسة أو أن تحمله الملعقة المشتركة، ويعزون ذلك إلى أسباب مختلفة بعضها مقنع بحسب منطق القرن الحادي والعشرين وبعضها لا. الليبراليون يصرون على أن الكأس وما فيها جميعاً قابلة لنقل الجراثيم لأنها بالرغم من استعمالها التقديسي إلا أنها تبقى على طبيعتها، وهي ليست السر بل أدوات للسر، وبالتالي لا مانع من إيجاد بدائل تراعي المتطلبات الصحية في ظل الوباء المتفشي.ـ
من هنا أن التطرق إلى هذا ليس سهلاً. فمن جهة، غالبية البشر المعاصرين أضعف من أن يتقبّلوا قول التقليد من دون مناقشة وتشكيك وعثرة. هذه الغالبية تعاني مع إيمانها البسيط بسبب تدخل العقل لديها، وهي تعرف معاناتها الروحية.ـ
في التقليد هناك دلالات كثيرة على استحالة أن تكون المناولة مصدر مرض. الكثيرون من الكهنة المتنقلين يخدمون في أماكن لا تستوفي شروط النظافة والصحة كالسجون حيث يختلط حامل السلّ مع مريض الإيدز مع مَن يعاني من أمراض موسمية وأمراض اللثة والفم وغيرهم. يعجز الكهنة بعد عدة سنوات من الخدمة عن إحصاء عدد المرات التي تناولوا فيها من بعدِ أناس يحملون مختلف أنواع الجراثيم في أفواههم. مع هذا، في الماضي لم يكن أحد يستسهل التشكيك بالكأس المقدسة كما يجري الآن، والواقع أن هذه مسألة تواجه الكنيسة الأرثوذكسية من قبل انتشار الوباء الأخير.ـ
في تاريخ الشعب المؤمن، في كنائس روسيا واليونان وصربيا وحتى في بلادنا، قصص عديدة عن رفض الشعب للتطاول على المناولة سواء من الكهنة أو من غيرهم، حتى أن بعض الوقائع تحكي عن عنف شعبي ضد المتطاولين، أو أقله فرز لهم من الجماعة. اليوم نجد العكس، فهناك “متعلّمون ومثقّفون” يمزّقون الكهنة الذين يناولون، وهم في كبريائهم يستعينون بالإعلام ضد كنيستهم وكهنتهم محولين الكهنة الملتزمين بإقامة القداديس ومناولة الشعب المؤمن إلى مجرمين في أعين الدولة والمجتمع. وفي كل هذا، يدّعون الغيرة على الكنيسة، ولا يترددون بالتباهي بأن همهم هو الإنسان، وكأن الكنيسة لا تهتمّ به بل هي في عالم آخر، ولكن بعض متفوهيهم واضحون بأنهم يرون في القداديس والمناولة مسرحاً يمارس فيه الكهنة “سلطتهم”، وبالتالي ينبغي تجريدهم من هذه السلطة.ـ
هنا السؤال، كما عبّر عنه العديد من رؤساء الكهنة في كل أصقاع الأرض، ماذا يبقى من هوية الكنيسة إذا امتنعت عن إقامة القداديس؟ يمكن القول بحرية ضمير أن إيمان الإنسان المعاصر تضعضع، إذ خسر بساطته مع التقدم التكنولوجي والقيَم التي كرّسها. من أوجه هذه الضعضعة تطور “علوم” النفس، ولهذا كان لا بدّ من تجريد المناولة من قدرتها على شفاء الجسد حتى يتبعها تجريدها من القدرة على شفاء النفس، وتكفّ الكنيسة عن أن تكون بيت الشفاء. وعندها ما الحاجة للمناولة وحتى للكنيسة نفسها؟ـ
إن الوضع القائم صعب لكنه ليس جديداً على الكنيسة. سوف تنتهي أزمة الكورونا وتنتهي معها هذه التجارب، ويعود المشككون إلى حيث أتوا. يصف القديس اغناطيوس المتوشح بالله محاربي المناولة المعاصرين في رسالته إلى الإزميريين إذ يوصيهم: “اعتبروا مَن يحمل فكرة مخالفة لنعمة يسوع المسيح التي حلّت علينا مضاداً لفكر الله… يبتعد عن الصلاة وسرّ الشكر حتى لا يقرّ بأن سر الشكر هو جسد مخلصنا يسوع المسيح، الجسد الذي تألّم من أجل خطايانا والذي اقامه الله بصلاحه. أولئك الذين يرفضون عطية الله يموتون في مجادلاتهم” (2:6-1:7). هذا الجنس لا يخرج إلا بالصلاة والصوم.ـ