كيف توقّف عالمنا عن كونه مسيحيًا: تشريح الانهيار
جان كلود لارشيه
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
هذا النص هو مراجعة جان كلود لارشيه لكتاب غويوم كوشيه (Guillaume Cuchet) “كيف توقّف عالمنا عن كونه مسيحيًا: تشريح الانهيار” (Comment notre monde a cessé d’être chrétien. Anatomie d’un effondrement) منشورات Seuil، باريس 2018, 276 صفحة.
هذا النص وإن يكن يحكي عن الكثلكة في فرنسا إلا أن فيه الكثير للتعلّم في أنطاكية.
على مدى نصف قرن ، لاحظ العديد من المؤلفين الانهيار المذهل للكثلكة في فرنسا وعلى نطاق أوسع في أوروبا، وقد أثار الأمر قلقهم: لويس بويير في “تحلل الكثلكة” (1968) ، وسيرج بونيه في “تجسيدات الإكليروسية في الجمهورية الخامسة” (1973) ، ميشيل دي سيرتو وجان ماري دوميناخ في “المسيحية انفجرت” (1974) ، بول فيجنرون في“تاريخ أزمات الكهنة الفرنسيين المعاصرين” (1976) ، جان ديلومو في“هل سوف تموت المسيحية؟” (1977) ، إميل بولا في “عصر ما بعد المسيحية” (1994) ، المطران سيمون في” نحو فرنسا وثنية؟” (1999) ، دينيس Pelletier في “الأزمة الكاثوليكية” (2002) ، دانييل هيرفيو ليجي “الكثلكة: نهاية العالم” (2003) ، إيف ماري هيلير في “هل سوف تختفي الكنائس؟” (2004)، دينيس Pelletier في “الأزمة الكاثوليكية: الدين، المجتمع، السياسة في فرنسا (1965-1978)” (2005) ، عمانوئيل تودوهرفيه لوبرا في “السرّ الفرنسي” (2013)، إيفون ترانوفويه في “تحلل المسيحية الغربية” (2013). [1]
يلعب عنوان هذا الكتاب على عنوان كتاب بول فاين “متى أصبح عالمنا مسيحيًا“، لكنه يعلن انقلاب العملية التي حللها هذا الأخير. فغيوم كوشيه، وهو أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة باريس – آست كريتاي، متخصص في تاريخ الكثلكة، يقترح في كتابه إظهار اللحظة التي بدأ فيها هذا الانحطاط وتحديد أسبابه. واحدة من الأدوات العلمية الرئيسية التي يستخدمها هي التحليل الإحصائي، فيما يعتبر معدل حضور الفرنسيين المنتظم إلى الكنيسة يوم الأحد أحدَ المعايير الموضوعية. هذا المعدل انخفض من 27٪ في 1952 إلى 1.8٪ في 2017. يمكن التساؤل حول هذا المعيار لأنه وفقاً لمقالٍ نُشر مؤخراً في صحيفة لا كروا (La Croix) الكاثوليكية الفرنسية ، يمكن للمرء أن يكون كاثوليكياً “ممارساً” ولكن إلى جانب التزامات أخرى. من الصحيح أن بغياب هذه الممارسة يوم الأحد يمكن أن تستمر الثقافة المسيحية لفترة من الوقت. لكن فقدان الاتصال بالحياة الليتورجية لا يؤدي إلا إلى ضعف هذه الثقافة التدريجي واختفائها في نهاية المطاف.
يحدد الثلث الأول من الكتاب الالتزام بالكثلكة كما يظهر من كتلة من البيانات الإحصائية التي جمعها الإكليروس بين عامي 1945 و 1965، وعلى وجه الخصوص الإحصائيات التي وضعها كانن بولارد بعناية وانتظام على مدى فترة أوسع (1880-1965) بواسطة فرناند بولارد (Canon Boulard)، وهو عالم اجتماع ومؤلف كتاب من أربعة أجزاء عنوانه “مواد التاريخ الديني للشعب الفرنسي، القرنان التاسع عشر والعشرون”[2].
وفقًا لكوشيه ، فإنه يمكن تأريخ التمزق الذي يفتتح عملية الانحطاط الكاثوليكي في فرنسا في الستينيات – وبشكل أكثر دقة في عام 1965. يتزامن هذا القطع مع المجمع الفاتيكاني الثاني، وفي هذا الأمر تناقض، لأن المجمع صُمّم على يد منظميه كتحديث لإحياء كثلكةٍ تواجه العالم الحديث. ومع ذلك، يشير المؤلف، بعد دراسة فرضيات مختلفة، “لا نرى ماذا يمكن أن يكون الحدث الآخر الذي ولّد مثل هذا التفاعل. فبمجرد وجوده، إلى الحد الذي فجأةً جعل إصلاح المفاهيم القديمة ممكناً، كان المجمع كافياً لزعزعة هذه المفاهيم، خاصة وأن الإصلاح الليتورجي وهو في الدين الجزء الأكثر ظهوراً لغالبية الناس قد بدأ تنفيذه في وقت مبكر منذ عام 1964″.
في النصف الثاني من كتابه، يحلل المؤلف بشكل دقيق ما يتعلّق بالمجمع من أسباب التمزق وعملية الانحطاط المستمرة إلى اليوم في جميع أنحاء العالم.
لقد تسبب المجمع بفقدان المؤمنين لمراجعهم. النص الذي نُشر في عام 1965 حول الحرية الدينية (Dignitatis humanae) ظهر “كنوع من التفويض غير الرسمي للاعتماد على حكم الفرد فيما يتعلق بالمعتقدات والسلوك والممارسة، ما يتناقض بقوة مع النظام السابق“. هذا أثار ملاحظة الأب لويس بويير الحزينة: “لا أحد يؤمن بعد الآن. كل واحد يفعل فقط ما يريد“.
في ما يختص بالتقوى، يشير كوشيه إلى أوجه من الإصلاح الليتورجي التي قد تبدو ثانوية، ولكنها لعبت دوراً مهماً ولم تكن أبداً على المستوى النفسي والأنثروبولوجي. من هذه الأمور التخلي عن اللاتينية، المناولة باليد، والاستنسابية في الفروض القديمة. إلى هذه، يمكن إضافة انتقادات المناولة الرسمية التي تضاعفت منذ 1960 وبخاصةً منذ 1965، كما الممارسات الرعائية الجديدة في المعمودية (منذ 1966) والزواج (منذ 1969-1970)، والتي اتجهت نحو زيادة مستوى إتاحة الأسرار بطلب المزيد من التهيئة والانخراط الشخصي من الراغبين بالحصول عليها.
في حقل المعتقدات، المهم كان وجود التغيير بحد ذاته. التغيير في التعاليم الرسمية جعل المؤمنين البسطاء مشككين، إذ استنتجوا بأنه إذا كان النظام مخطئاً في الأمس بإعلانه ثبات ما لم يعد ثابتاً، لا يستطيع المرء أن يبقى واثقاً بأن هذا الأمر لن يتكرر في المستقبل. إن سلسلة كاملة من “الحقائق” القديمة سقطت فجأة في الاندثار، وكأن الإكليروس أنفسهم توقفوا عن الإيمان بها أو لم يعرفوا ماذا يقولون عنها بعد أن كانوا تكلّموا عنها لزمان طويل على أنها شيئ أساسي.
من جهته، يشير الكاتب إلى أن هذا الوضع كان قادراً على زعزعة المؤمنين في حقل آخر هو “صورة الكنيسة وبنيتها التراتبية والكهنوت.‘الأزمة الكاثوليكية‘ في سنوات 1965-1978 كانت في البداية أزمة الإكليروس والمجاهدين الكاثوليك. إن التخلي عن القلنسوة (منذ 1962) والزي الكهنوتي، وتسييس الإكليروس (نحو اليسار)، عدول الكهنة والرهبان والراهبات، بَدَت للكثيرين على أنها ‘خيانة كهنوتية‘ لا موازٍ لها منذ الثورة الفرنسية التي كان لها نفس الآثار المفقِدَة للاستقرار“.
فوق هذا، “شقّ المجمع الطريق إلى ما يمكن تسميته ‘خروجاً جماعياً من الممارسة الإلزامية تحت ألم الخطيئة المميتة‘ التي احتلّت موقعاً مركزياً في الكثلكة القديمة.[…] هذه الثقافة القديمة حول إلزامية الممارسة كان يُعبّر عنها بشكل رئيسي في حيّز ‘وصايا الكنيسة‘ التي يتعلّمها الأولاد عن ظهر قلب في التعليم الديني والذي يتمّ التحقق من الحفاظ عليه خلال فحص الضمير عند التهيئة للاعتراف. هذا تضمّن أيضاً واجب حفظ قداسة أيام الآحاد والأعياد، الاعتراف بالخطايا، والمناولة على الأقل مرة في السنة، صيام أيام الجمعة، وأمسيات قبل الأعياد الكبرى، وخلال ما يسمّى ‘الفصول الأربعة‘ من الفترات الصيامية. كل هذه المتطلبات أُرخيَت إلى نقطة الاندثار ما عدا المناولة التي صارت منتظمة ويمكن الحصول عليها من دون أي تهيئة، لأن الاعتراف والصوم عملياً قد اختفيا. إن حلّ الصوم الإفخارستي تمّ على عدّة مراحل تحضيرية: في 1953 قرر بيوس الثاني عشر أن شرب الماء لا يكسر هذا الصوم مع الحفاظ على إلزامية الصوم منذ منتصف الليل قبل المناولة. في 1957، رسالة البابا المعنونة “سر المناولة” (motu proprio Sacram communionem)[3] اختصرت الصوم قبل المناولة إلى ثلاث ساعات للأكل الجامد وساعة واحدة للسوائل. في 1964، أفتى بولس السادس بأن ساعة واحدة تكفي في الحالتين، ما عنى عملياً اختفاء الصوم الإفخارستي، لأن ساعة واحدة هي مدة الانتقال إلى الكنيسة والقداس قبل المناولة.
خلال هذه الفترة المجمعية وما بعد المجمع، يشير الكاتب إلى أنه “من الصادم ملاحظة إلى أي مدى حذف الإكليروس طوعياً نظام الأصول القديم الذي عانوا صعوبات جمّة لوضعه“، مثيرين في الشعب، بشكل لا يمكن تلافيه، شعوراً بأنهم “غيّروا دينهم” ومحرّكين في البعض منهم انطباعاً بالنسبية المعممة.
يخصص الكاتب فصلَين كاملين لأسباب الانحدار التي تبدو له جذرية: أزمة سر الكَفّارَة وأزمة التعليم عن الأمور الأخيرة.
1) بحسب كوشيه، “ازمة الاعتراف هي إحدى الأوجه الأكثر إعلاناً وصدماً للأزمة الكاثوليكية لسنوات 1965-1978”. “إن تراجع الاعتراف هو بحد ذاته حقيقة اجتماعية وروحية لم يعطِها المؤرّخون وعلماء الاجتماع الاعتبار المناسب: فهي ليست أقل من التحوّل الغامر من خلال التخلّي الكثيف في فترة لم تتعدَّ بعض السنوات عن ممارسةٍ لطالما تحكّمَت بعمقٍ بالمواقف الكاثوليكية لفترة طويلة من الزمن. في 1952، 51 بالمئة من البالغين الكاثوليك أقرّوا بأنهم يعترفون على الأقلّ مرة في السنة (في الفصح، إذ كان هذا إلزامياً منذ نشر القانون 21 من المجمع اللاتراني الرابع سنة 1215). في 1974، تراجع هذا الرقم إلى 29 بالمئة، وفي 1983 إلى 14 بالمئة. بحسب الكاتب، نقطة التحوّل هي في 1965-1966 حين لم يعد يُقَدَم الاعتراف على أنه “سر الكفّارة” وصار يُقَدَّم على أنه “سر المصالحة“. هذا جرى يداً بيد مع التالي:
– انتهاء “الممارسة الإلزامية” المذكورة أعلاه وإنهاء تجريم الامتناع عن الممارسة الدينية، وقد كان هذا الامتناع يُعتَبَر سابقاً خطيئة بقدر ما هو خرق لوصايا الكنيسة التي كانت تُطرَح كواجبات على المرء تطبيقها.
– فقدان الحس بالخطيئة في ضمير الكثير من المؤمنين، وأيضاً بين الإكليروس الذين باتوا يخشون إثارة هذا المفهوم، كما فكرة الأمور الأخيرة. يلاحظ الكاتب في هذا السياق: “لقد امتنع الكهنة بغتةً عن التكلّم عن كل هذه الأمور الحساسة، وكأنهم لم يعودوا يؤمنون بها، فيما انتشر الكلام عن صورة إله كإله روسو “إله الحب” وليس “إله المحبة” في الستينيات والسبعينيات. وكما لخّص أحد الفلاحين البريتانيين (من بريتون) في مطلع السبعينيات في مقابلة مع عالم الاجتماع فانش آلاغوا ( Fañch Élégoët) “لقد عبّد الكهنة الطريق إلى الملكوت“. هذا الطريق الذي كان جُرفاً وضيقاً فيما مضى صار طريقاً سريعاً يستعمله أي كان تقريباً. مع هذا الطريق، وإن لم يعد هناك أي خطيئة وأي جحيم، أو أقلّه لم يعد هناك خطايا جسيمة ممكن أن تحرمك الملكوت، فإن فاعلية الاعتراف بتحديده التقليدي صارت بالحقيقة أقلّ وضوحاً“.
– الانفكاك بين الاعتراف والمناولة. “في النظام القديم، كنا نعترف أكثر مما نتناول، وكان الاعتراف نوعاً من طقوس التطهير التي تحدد الوصول إلى الإفخارستيا“. إن تطور المناولة المتواترة مرفوقاً بفقدان الحس بالخطيئة، كما الفكرة المنتشرة بين الكهنة، بتأثير من التحليل النفسي، بضرورة تحرير المؤمنين من الشعور بالذنب وبتحريرهم “من الاعتراف“، أنتجَت أن المؤمنين صاروا مدعوين إلى المناولة من دون الحاجة لأن يعترفوا. فمن ثمّ صارت المناولة مبسّطة، فيما إمكانية الاعتراف الفعلية صارت عملياً معدومة، وتمّ استبدال الاعترافات الفردية المنتظمة، منذ 1974، بالطقوس “التكفيرية” التي تُقام مرةً في السنة قبل الفصح. في هذه التجمّعات، لا يعترف المؤمنون بأي شيء (يسمّي الكاتب هذه الطقوس “أشكال كفارةٍ من دون اعتراف“) بل يحصلون على حلّ جماعي بعد الاستماع إلى عظة مبهَمَة غالباً ما يتمّ خلالها إغفال مفهوم الخطيئة. وعندما بقيت إمكانية الاعتراف قائمة أو استعيدَت في بعض الرعايا فإن “المؤمنين لم يعرفوا جيداً كيف يعترفون أو حتّى ما إذا كان الاعتراف ما زال نافعاً“.
الفصل الأخير مخصص لأحد أسباب التدهور والذي يبدو على نفس الدرجة من الأهمية بالنسبة للكاتب: أزمة التعليم عن “الأمور الأخيرة“. في عنوان الفصل يتفكّر الكاتب بأن ذلك لا يعني بالخلفية “نهاية الخلاص“، ويشير إلى أن في مجموعات التعليم الديني والمقالات القديمة أُعطي مكانة مهمة للموت والدينونة والوجهتين النهائيتين لما يلي، أي الفردوس والجحيم. في وقت مبكر، في كانون الأول 1966، إذ أقلق أساقفة فرنسا أن يروا هذه الأمور تختفي من التعليم والوعظ، فلاحظوا: “الخطيئة الأصلية… كما الأمور الأخيرة والدينونة هي نقاط في العقيدة الكاثوليكية مرتبطة بالخلاص في يسوع المسيح وعرضها للمؤمنين يجعل بالفعل تعليمها صعباً على الكثيرين من الكهنة. نحن لا نعرف كيف نحكي عن هذه الأمور“. قبل هذا بوقت قصير، لاحظ الكاردينال أوتافياني رئيس لجنة عقيدة الإيمان أن الخطيئة الأصلية اختفت بشكل شبه كامل من الوعظ المعاصر. يلاحظ كوشيه أن مشكلة تقديم العقيدة لم تكن رعائية وتربوية وحسب بل أيضاً “بالحقيقة، كانت مسألة إيمان وعقيدة، وعدم ارتياح يتقاسمه الكهنة والمؤمنون. كل شيء يتمّ كما لو أن بغتةً عند نهاية عمل كامل من التهيئة الباطنية، أجزاء كاملة من العقيدة القديمة والتي كانت فيما مضى تُعتَبَر أساسية، كالدينونة والجحيم والمطهَر والشيطان صارت كلها غير قابلة للتصديق عند المؤمنين وغير ممكن التفكير بها لدى اللاهوتيين“. يحدد الكاتب مكان هذه الأزمة (بالغم من وجود العديد من الإشارات المنذِرة لبعض الوقت) في الستينيات، إلى جانب أزمة الاعتراف، مشيراً إلى أن الأولى مرتبطة بشدة بالأخيرة: “إن انهيار ممارسة الاعتراف تتبع تسلسلاً زمنياً مماثلاً. فخلال سنوات قليلة، لا بل حتّى أشهر قليلة، اختفت فعلياً مجموعة من الأمور التي كانت في وقت ما معروفة جداً لدى الذين يعترفون بتواتر. إن الأمر مرتبط بشكل مباشر، حتى لا نقول حصري، بحذف مفهوم الخطيئة المميتة (بمعنى أنها خطيئة تعرّض مرتكبها للعنة). لكن هذا كان له مفاعيله على الأسرار الأخرى المرتبطة بالأمور الأخيرة. في طقس المعمودية الجديد، تمّ اختصار الاستقسامات بشكل كبير (إذ لم يبدُ مرغوباً بالتشديد على دور الشيطان، الذي لم تخلّى عن الإيمان بوجوده عدد غير قليل من الكهنة، والذي بدا وكأنه ينتمي إلى ميثولوجيا ينبغي تحرير المؤمنين منها على اعتبار أنهم ساذجون). لقد كان هناك استهزاء واضح بالخطيئة الأصلية التي يُفتَرَض أن المعمودية تحرر منها وتؤمّن الحياة الأبدية“.
أما بخصوص المعمودية، فإن إصلاحاً آخراً سبّب تنفير الكثير من المؤمنين: ابتداءً من كانون الأول 1965، “الهمّ الأول إلى الآن كان أن يعمّد الأطفال بأسرع وقت، لكن خدمة معمودية رعائية جديدة هي على العكس الآن حيث لا يحدد التاريخ بهدف انخراط الأهل أكثر في التحضير“. ينبغي إضافة أن الأمر بلغ ببعض الكهنة أن يتخلّوا عن تشجيع معمودية الأطفال واضعين الأمر في إطار أن المعمودية يجب أن تكون عملاً حراً طوعياً واعياً بالكامل، وشجّعوا على تأجيل مناقشة المعمودية إلى أن يبلغوا المراهقة.
مقترباً من الخاتمة، يشدد الكاتب مجدداً على التأثيرات الكارثية للستينيات على وعي المؤمنين العقائدي، الذي صار بشكل ما بروتستانتياً: “غالباً ما تمّ تفسير تكريس حرية الضمير من قبل المجمع في الكنيسة، بشكل غير متوقع في البداية، كحرية جديدة للضمير الكاثوليكي، مما يسمح ضمنيًا بالتمييز بين العقائد وممارسات الواجبات. لقد تحوّل مفهوم العقيدة (كاعتقاد ملزِم في الضمير) إلى مثير للمشاكل. هذا القرار الكبير للمجمع، مقروناً بمفهوم “تراتبية” الحقائق، يبدو أنه اشتغل في عقول الكثيرين كنوع من رفع الجرم عن ‘المؤمن الذي يصنع إيمانه” ما يغاير النظام السابق بشكل كبير، حيث كان ينبغي تبنّي الحقائق جميعاً وليس انتقائياً. كان يُتوقّع أن الأكثر سماجة من هذه المبادئ، أو تلك الأكثر مخالفةً للحدس، سيدفع الثمن، وهذا لم يفشل في الحدوث”.
مهما كانت العوامل الخارجية القادرة على لعب دور في انهيار الكثلكة (كالمقاربات الحديثة والضغط الاجتماعي وغيرها) فبحسب الكاتب، الظاهر هو أن العوامل الداخلية هي صاحبة الدور الحاسم.
تحمل الكثلكة مسؤولية جسيمة في إبطال مسيحية فرنسا (وبشكل أوسع أوروبا، لأن تحليلاً مماثلاً للوضع في الدول الأخرى سوف يؤدّي إلى نتائج مماثلة). إن العصرنة التي تحققت في مجمع الفاتيكان الثاني والتي اقترحت مواجهة تحديات العالم الحديث، لم تحقق سوى التأقلم مع هذا العصر؛ وإذ افترضت أنها تجذب العالم إلى جهتها انتهت في الاستسلام للعالم، وبالرغم من رغبتها في أن تكون مسموعة في المدى العلماني، صارت الكثلكة دهرية. في خوفها من تأكيد هويتها، صارت الكثلكة استنسابية إلى درجة أن عدداً كبيراً من المؤمنين فقد اللافتات التي كان معتاداً عليها أو التي كان يتوقعها، ولم يعد يرى معنى لأن يطلب في الكثلكة ما يقدمه له العالم بطريقةأقل التواءً.
تسعى السلطات الكاثوليكية إلى تخفيف الانهيار الموصوف في هذا الكتاب عن طريق حجج مختلفة (عدد كبير من الفرنسيين ما زال كاثوليكياً ويعمّد أطفاله؛ الممارسة الدينية تُقاس بالتزامات أخرى غير حضور القداديس؛ حلّت النوعية مكان الكمية؛ وغيرها). ومع هذا، إنهم يجاهدون ليكونوا مُقنِعين. لطالما قُدِّم يوحنا بولس الثاني على أنه هَندَس إبراءً من الفظائع التي تبعت الفاتيكان الثاني، لكن ينبغي ملاحظة أن التزام يوم الأحد الديني تراجع من 14 بالمئة عند انتخابه إلى 5 بالمئة عند وفاته في 2005. إذا كان صحيحاً أن الجماعات الحيّة الموجودة في المدن يمكن أن تقدّم مثالاً خاطئاً (كما كانت الحال في الكنائس القليلة التي بقيت مفتوحة خلال الفترة الشيوعية في الكتلة الشرقية حيث كانت مكتظة لأن غيرها كان مغلقاً)، كما اجتماع الشباب الاستعراضي خلال أيام الشباب العالمية، فإن الجنوب الفرنسي يظهِر حقيقةَ تصحرٍ مأساوي: تضاعُف الكنائس غير المستعملة (أي الكنائس التي لم تعد تعمل كأماكن للعبادة)؛ كهنة يهتمون بعشرين إلى ثلاثين رعية ويقيمون قداساً “إقليمياً” كل أحد لعدد صغير من المؤمنين بغالبيتهم من العجزة وأحياناً من القادمين من عشرات الكيلومترات بعيداً؛ غياب الجنانيز المُقامة من كهنة وغالباً لغياب المشاركين؛ انعدام التواصل بين الكهنة والمؤمنين بسبب المسافات الفاصلة بينهم وعدم توفّر الأخيرين لانشغالهم بالاجتماعات الكهنوتية أكثر من الزيارات الرعائية…
إن تطور الكنيسة الكاثوليكية البائس ما بعد الفاتيكان الثاني، كما يصفه كوشيه في كتابه، يجب أن يخدم كإنذار للأساقفة واللاهوتيين الأرثوكسيين الذين حلموا وما زالوا يحلمون بالدعوة إلى “مجمع أرثوذكسي عظيم” مشابه بذاك الذي أرادت الكثلكة من خلاله تحقيق عصرنتها (aggiornamento)، لكن فعله الأول كان تحريك تحللها الداخلي والنزف المأساوي لعدد ضخم من مؤمنيها.
[1] Louis Bouyer, La Décomposition du catholicisme, Paris, Aubier, 1969
– Serge Bonnet . A Hue Et A Dia. Les Avatars Du Cléricalisme Sous La Ve République. Cerf, 1973
– Michel de Certeau et Jean-Marie Domenach, Le christianisme éclaté. Un vol. 21 x 14 de 128 pp. Paris, Le Deuil, 1974
– Taveneaux René. Histoire des crises du clergé français contemporain. In: Revue d’histoire de l’Église de France, tome 63, n°171, 1977
– Jean Delumeau , Le christianisme va-t-il mourir?, Paris, Hachette,. 1977.
– Émile Poulat, Ère post-chrétienne, Paris, Flammarion, 1994.
– Bishop Simon Towards a Pagan France? 1999
– Denis Pelletier, La crise catholique. Religion, société, politique en France (1965-1978), Payot, 2002
– Danièle Hervieu-Léger, Catholicism: the End of a World, Bayard, 2003
– Yves-Marie Hilaire, Will the Churches Disappear? 2004
– Hervé Le Bras & Emmanuel Todd, Le mystère Français, Seuil, Paris, 2013
– Yvon Tranvouez, La décomposition des chrétientés occidentales (1950-2010), Centre de Recherche Bretonne et Celtique, 2014
[2] Fernand Boulard. Matériaux pour l’histoire religieuse du peuple français, XIXe-XXe siècles. Broché, 1982
[3] Motu Proprio عبارة تستعمَل لإشارة إلى الرسائل التي تصدر عن البابا نفسه