حريق في اليونان ونار في أنطاكية
الأب أنطوان ملكي
في الشهر الفائت وقع حريق في بعض مناطق اليونان فانخضّت أنطاكيّا الإلكترونية. سبب الخضّة أن صوراً جرى تداولها تظهِر أن النار أكلت أحد البيوت وتوقفت عند زاوية الأيقونات. الصور مأخوذة من فيديو تقرير في نشرة أخبار أحد المحطات اليونانية وفيه يقول مراسل المحطة أن توقُف النار عند هذا الحد معجزة ويظهِر أن النار لم تنتقل إلى ما تبقّى من البيت خلف خط الأيقونات. تناقل كثيرون هذا الخبر على الفايسبوك ومنهم مَن استرسل في تهليله للمعجزة رابطاً حدوثها باليونان “أرض القديسين”. من جهة أخرى كانت الأخبار تقول أن الضحايا البشرية بالعشرات. ومن الأخبار التي لم يعلّق عليها أحد أن الحريق أتى على دير بالكامل وأن كنيسةً لم تنجُ.
وجدت مجموعة من الأنطاكيين الكلام عن المعجزة والتهليل والتُقوية التي تقبل المعجزة شعوذةً وغباءً ورجعية. هؤلاء رأوا أنه ليس منطقياً أن تنجو الأيقونات ويسقط الناس. ومنهم مَن رأى عنصرية وتعصّباً في اهتمام الناس بحريق اليونان وقلّة اهتمامهم بغيره من الكوارث في العالم.
من دون الدخول في الأسماء، كتب أحد الأشخاص على جداره في فايسبوك: “الإله اللي قادر يوقف النار عن الأيقونات ومش قادر يوقف النار عن 80 شخص ماتوا حرق هو اله معتوه ومريض ومحله الزبالة“، هناك مَن أبدى إعجابه بهذا التعبير وشجّعه. من جهة أخرى، اعتبر البعض هذا الكلام إهانة لله وتجديفاً وسجّل اعتراضه. من المعترضين مَن اكتفى بالتعليق عن الكلام بذاته، لكن غالبية التعليقات كانت في الخاص، أي أنها هاجمت الكاتب لا المكتوب. لا تُنكَر شجاعة الكاتب الذي ألغى المساهمة معللاً بأن اللغة التي استعملها لم تكن مناسِبة. مع هذا علّق بعض قصيري النظر يلومونه على إلغائها.
جدير بالذكر أنه لم يكن الوحيد في التعبير بهذه الطريقة. صبية كتبت: “إلهٌ يتجسّد ويموت ويقوم من أجل كلّ الناس لا تهمّه الأيقونات أكثر من ضحايا الكارثة. كفى استغلال حادثة مؤلمة وحزينة لإرضاء الكبرياء.” هنا أيضاً هناك مَن وجد “فشّة خلق” في هذا الكلام ومنهم مَن مدح الكاتبة والجينات التي فيها.
قبل الخوض في أي نقاش، ضروري إدانة كل بذاءة عند التحدّث عن الله أو عن الناس الذين هم صورة الله. مهما كانت جسامة الموقف المُبتَغى التعبير عنه سواء في المجتمع أو في اللاهوت أو حتّى في الأخلاق، لا يليق الكلام النابي. في الأرثوذكسية، نتوقّف عند الشكل كما عند المضمون. كل الأزمة البالاماسية بدأت بالظاهر أزمةَ شكل، لكنها في النهاية أثبتت أن الشكل يعكس المضمون. لهذا، كل تعبير بذيء يخرِج صاحبه من الإطار الكنسي حتّى ولو كان دفاعاً عن العقيدة. لا يستطيع أحد أن يدافع عن الله أو عن الكنيسة بالإهانات.
في الواقع، ما جرى أظهر، لمَن لم يرَ بعد، وجود مدرستين فكريتين في الكنيسة، وربما أكثر. إحدى هذه المدارس تتبنّى موقفاً إنسانوياً يقوم على العقلانية واستبعاد التقوية. المدرسة الأخرى تقوية وبعض مَن فيها يخلط بين التقوى والتبسيط الذي ينافي العقلانية. إلى هذا، نلاحظ أن غالبية الذين أزعجهم التهليل لتوقّف النار عند الأيقونات، هم أنفسهم الذين ينزعجون كل سنة في سبت النور، ما يشير، من دون تعميم، إلى أن المشكلة الأساسية هي مع المعجزات ككلّ. ينبغي التأكيد على أن هذا الاختلاف ليس حصرياً في كنيستنا بل في كل كنائس العالم. هناك فرقان يميّزان هذا الاختلاف في أنطاكية عن غيرها: 1) في الأماكن الأخرى قد يؤدي وجود هذا الاختلاف إلى تفاعلٍ بين المؤيدين والمخالفين وقد يتّخذ التفاعل أحياناً شكل صراع بين التقوية والعقلانية، ويبلغ بين الحين والآخر أشكالاً خلافية حادة. أما في أنطاكية فقد انتقلنا مباشرة إلى الخلاف. 2) الفرق الثاني هو أن في غالبية الأماكن، التقويون هم الذين يتبنون إجمالاً الموقف الهجومي، بينما عندنا العكس.
يلاحظ القديس يوستينوس بوبوفيتش أن الإنسانويين عندما لا يقبلون أمراً ما يهاجمونه ويصدر عنهم كلام غير تقليدي. هذا ما جرى عندنا في الخضّة المذكورة حيث يندرج الكلام المذكور أعلاه في خانة تحديد عمل الله وتحميله مسؤولية سقوط ضحايا. لكن أين الرابط بين أن تقف النار عند الأيقونات وأن يكون الإله قد تجسّد ومات وقام من أجل كل الناس؟ العلاقة ليست واضحة والربط غير معقول. إذا كان قبول وجود المعجزة هو كبرياء، فهل رفضها تواضع؟ هل توقّف النار عند الأيقونات يعني أن الله يهتمّ بالأيقونات أكثر من البشر؟ هل سقوط الأشخاص يعني أن الله عاجز عن إنقاذهم؟ أيضاً قرأنا تعبيراً أكثر وضوحاً في هذا الاتجاه: “خطأ أن نلصق الصفة العجائبية ببعض الظواهر الطبيعية، إن صحّ خبرها، وننسب الى الله تدخلّه لانقاذ حجرٍ أو رمزٍ أو مكان، وإن مقدَّس. كأننا بذلك نوحي بتغافله عن التدخّل لأجل الانسان وانقاذه ولجم مآسيه، الانسان الذي هو ثمرة محبّته والأثمن في عينيه…” الكلام عن الإيحاء كلام يطال النيات: “كأننا بذلك نوحي…”. هذا لا يستقيم روحياً ولا يبني.
في أنطاكية، أوضح ممثل للمدرسة الفكرية الإنسانوية هو خط تحتضنه حركة الشبيبة الأرثوذكسية. هذا الخط يتعامل مع كامل الكنيسة، من الإكليروس والعلمانيين، على أنه هو المعلّم والعارف مستنداً إلى تعليم مجموعة محددة يتقدمها المطران جورج خضر والمرحوم كوستي بندلي. علمياً، ما يمارسه هذا الخط يُعتَبَر تزمتاً، أفضل وصف له يأتي على لسان صاحب السيادة سابا مطران حوران: “يغذّي هذا التزمّت التعلّق الأعمى ببعض الرموز الدينيّة، وينصّبها بمثابة آلهة لا تخطئ. وقد يصل الأمر ببعضهم إلى حدّ تأليهها، وتالياً طاعتها وتصديقها بشكل أعمى دونما أيّ حوار أو استفهام ولو في الحدّ الأدنى… يكمن خطر هذا الواقع في أنّه يغلق على صاحبه كليّاً، بحيث لا يعود يرى سوى معلّمه وما يقول، ولا ينظر إلى أحد أو رأي أو تفسير أو اجتهاد إلا من خلال معلّمه. يختصر معلّمه الكنيسة والإنجيل وحتّى الله. وفي هذا تصنيم حقيقي لإنسان يُعصَم عن الخطأ. بينما يعلّمنا كتابنا وتراثنا بأن ما من إنسان خالٍ من الخطيئة إلا يسوع المسيح.”
إن هذا الخط مدعو لأن يقبل بأنّ مَن يعتبرهم معلمين ومقياساً للعلم والمعرفة لا يتمتّعون بنفس الدرجة من القبول لدى كل شرائح الكنيسة. من هنا لا داعي لتكرار نفسَ الدعوةَ إلى تبنّي فكر المعلمين غير المُتوافَق على قبولهم، كما ورد بالشكل التالي: “رحم (الله) معلّمنا في المسيح كوستي بندلي. ليتكم تقرأوه. ليتكم، مثلاً، تقرأوا ‘الله والشرّ والمصير‘، وتعلّموه في هكذا مناسبات حيث التعليم وتحملوا مضامينه في الكنائس والعظات الى العقول والضمائر والقلوب!” ما قيمة دعوة يعرف كاتبها أن الكتاب المذكور ليس مقبولاً عند كثيرين من الذين يقرؤون؟ إلى هذا، هل اختصر الكاتب أو الكتاب المذكورَين الإنجيل والآباء والتقليد أو تخطّاهم؟
ماذا نستنتج؟
في الأرثوذكسية، تقليد الكنيسة أوسع وأقدم وأكثر موثوقية وتنوعاً من شخص أو من كتاب أو من تيار، والمؤمنون يقرؤون هذا التقليد ويسيرون به، على قدر ما أوتوا من موهبة. مشكلتنا أنّ المنطق اللاهوتي ضعيف ومهمَل في أنطاكية ما ينسحب على كل الحوارات الداخلية فتتعثّر. غياب الحوار اللاهوتي يغيّب المرجعية المُطالَبَةَ أصلاً بتحفيزه. يستطيع مَن يشاء أن يقول ما يشاء، وطالما المنطق اللاهوتي غائب عن تعاملنا اليومي، أي طالما أن قراراتنا تؤخَذ بالتدبير وممارستنا تحكمها العشوائية، فلا شكّ سيأتي يوم نعجز عن تدبيره، فنضطر إلى إغلاق الكنائس واﻷديار وتفريق المجتمعين، فننتقل من الأقليّة إلى الندرة. يسكن في أنطاكية خوف مزمن من تسمية الأمور بأسمائها ومن إدانة الخطأ. هذا الخوف يضع الكلّ في خانة مخطئين. وفيما يظن القائمون أنهم بهذا يكسبون الجميع يرتمون والكل معهم بين شدقي هذا العالم الذي يبتلع الجميع. هناك ضرورة للقطع باستقامة كلمة الحق. هناك حاجة لفتح حوار بين مكوّنات هذه الكنيسة تضبطه العقيدة والمحبة لا السلطة.
هنا أيضاً نختم بكلام لصاحب السيادة سابا: “في زمننا الحالي تحدّيات كثيرة وجوهريّة للإيمان، بعضها قديم قِدَم ظهور الدين وبعضها جديد ناجم عن التحولات المتسارعة والجديدة بالكليّة على البشر والمجتمعات. من الطبيعي أن تظهر آراءٌ تقارِب التحدّيات المعاصرة بروح متفاوتة في الجرأة في استعمال اللغة ومواجهة الثقافة وسبر الجوهر الإيماني الثابت الذي لا يتغيّر ومحاولة خلق تعابير جديدة يمكن للإنسان المعاصر أن يفهمها. هذا كلّه يستدعي تأصلاً وانفتاحاً في آن. لذا يصير الحوار ضرورة ماسّة، والاقلاع السريع عن التراشق اللفظي أكثر إلحاحاً.”