اسألْ الله أن يزيد يقظتَك لا إيمانَك*
آريك هايد**
الكثير من المسيحيين يريدون أن يزيدوا إيمانهم. ولما لا؟ هذا يبدو طبيعياً وحسب. لكن، ألم يقرأوا أنّ المسيح وبّخ تلاميذه لأنهم طلبوا إليه ان يزيد إيمانهم؟ إنه المقطع حيث يخبرهم أن إيماناً بقدر حبّة خردل يكفي، وما يحتاجونه هو أن يزيدوا طاعتهم واتضاعهم (لوقا 5:17-10).
يبدو العديد من المسيحيين مهووسين بشكل إيجابي بزيادة إيمانهم، متخيلين أن كل نقص عندهم وأنّ انهزامهم وانعدام أمنهم ومرضهم ومعاناتهم وما إلى ذلك يرجع إلى افتقارهم إلى الإيمان وبالتالي فإن المزيد من الإيمان يمنحهم القوة على هذه الأمور.
أعتقد أنهم على حق بشكل جزئي فقط. صحيح أنهم يفتقدون الإيمان (وربما حتّى الإيمان الذي بحجم حبّة الخردل)، لكنهم مخطئون في تحديد سبب افتقارهم إليه. إنهم يفتقرون إلى الإيمان لأنهم يعاملون الإيمان كمفهوم وليس كصيغة للوجود. إنهم يفتقرون إلى الإيمان للأسباب التي ذكرها المسيح في الكتاب المقدس على وجه التحديد: بسبب الافتقار إلى الطاعة والتواضع أي أعمال الإيمان. لكن الإصلاح الوحيد لهؤلاء ليس مزيدًا من التركيز على الإيمان بل المزيد من التركيز على اليقظة.
في كل أجزاء الكتاب المقدس هناك تعليم عن اليقظة كما عبر المسيحية التاريخية عند القديسين والنسّاك. في الفيلوكاليا (وهو كتاب من اربع مجلدات يحتوي على كتابات الرهبان المسيحيين الأرثوذكس والنساك من القرن الرابع إلى القرن الخامس عشر) تُفهم اليقظة على أنها حرفياً عكس الثمالة. إنها الرصانة والانتباه والسهر بورع. إنها فعل مراقبة الأفكار الداخلية وأوهام التفاهة، إنها حفظ النفس المستمر. اليقظة تجعل عمل الصلاة المستمرة ممكناً، وتغلّف مجموعة الفضائل كاملة بما فيها نقاء القلب والسكون.
باختصار ، اليقظة هي الإيمان عاملاً. لا حاجة لمراقبة مستوى الإيمان طوال اليوم وكل يوم، وببساطة متى انخرط الإنسان في اليقظة يتحقق هدف الإيمان. وكما ذكرنا أعلاه، الإيمان ليس مفهوماً عقلياً بل هو نمط وجود. في الإيمان يكون الإنسان على غرار ما يكون في المحبة. لا يمكن أن يتمّ الإيمان إلا من الداخل؛ لا يلاحظ المرء الإيمان من الخارج ويتصوّر عقلياً كيف يعمل. الإيمان سفينة محطمة إذا كان فقط في الدماغ.
وبما أن الإيمان ليس بناءً فكريًا، فلا جدوى من التفكير في أن المرء يقترب من الإيمان بمجرد التفكير فيه. لقد رأيت الكثير من الناس يصابون بالعصبية ﻷن زيادة إيمانهم استحوذت عليهم. كل ما يمكننا فعله هو زيادة يقظتنا، وبهذا نلبّي دعوة الإيمان.
* اليقظة هي أحد أهمّ المواضيع التي يتناولها اﻵباء النسّاك، حتى أن أهمّ الكتب التي تجمع تعاليمهم، أي الفيلوكاليا، اسمه الكامل “فيلوكاليا اﻵباء اليقظين“. اليقظة باليونانية “نيبسيس” (nepsis). وقد عرف تراثنا العربي هذه الكلمة منذ زمن طويل، حيث ترِد في نصوص قداس الذهبي الفم الإلهي “يقظة النفس ومغفرة الخطايا“. أمّا ترجمات اﻵباء في العربية فجميعها ترجمت نيبسيس إلى اليقظة. فالبطريرك الياس الرابع الذي ترجم كتابات مرقس الناسك ودير الحرف الذي ترجم القديس يوحنا السلمي، والأسقف استفانس حداد الذي ترجم القديس دوروثاوس غزة، والأب منيف حمصي الذي ترجم أكثر من كتاب ومنها “اليقظة والصلاة” حيث أفرد فصلاً طويلاً لتحديد اليقظة، جميعهم ترجموا νίψις إلى اليقظة.
مؤخّراً استُعملَت عبارة “النباهة” بدلاً من اليقظة. فكتاب خدمة الكهنة الصادر عام 2000 عن دير الحميراء يذكر “نباهة النفس ومغفرة الخطايا“، وكتاب الفيلوكاليا الصادر مؤخراً عن تعاونية النور أيضاً معنون “فيلوكاليا اﻵباء النبهاء“.
إن النباهة في قاموس المعجم الوسيط هي الشَّرَفُ أو الشُّهْرَةُ أو الفِطنةُ. لمَ قد يحكي اﻵباء عن الشهرة وهم قد هربوا منها؟ أمّا الفطنة فلها عدّة معانٍ لا تنطبق جميعها: البصيرة، حدة الذكاء والتمييز. فالبَصِيرَة باليونانية “οξύνοια”، وحِدّة الذكاء هي “οξύτητα”، والتمييز هي “διάκριση” ويستفيض اﻵباء، بخاصة القديس يوحنا السلمي، بالتعليم عنها. يبقى أن المعنى الأرجح للنباهة هو الشرف. هل القديس نيقوديموس اﻷثوسي آباء الفيلوكاليا بالشرفاء أو المشرّفين؟ ربما، إنما لماذا قد يطلب القديس يوحنا الذهبي الفم شرف النفس ومغفرة الخطايا؟ في اليونانية، الشرف قد يكون “υπεροχή” أو “εξοχότης”.
νίψις لطالما كانت اليقظة. في اﻵتيمولوجيا اليونانية، أي دراسة أصول الكلمات، لا يوجد أي تفسير لهذه الكلمة. كل ما يرد عنها أنها من اليونانية القديمة. التفسير المطوّل لهذه العبارة هو في المراجع اﻵبائية والتي تُرجمَت إلى العربية باليقظة، على يد أشخاص يعرفون اللغتين في زمان كانت اللغتان مستَعمَلتين في أوساطنا، وقد ترجم المذكورون أعلاه عن النص الأصلي وليس عن نص مترجَم إلى لغة أخرى كالإنكليزية أو الفرنسية.
يبقى أخيراً تعليق حول مفعول العبارات وهذا أمر يحمّل المترجم مسؤولية كبيرة. إن استبدال اليقظة بالنباهة خطر. بالمنطق الآبائي، اليقظة حالة والنباهة صفة. الحالة يبلغها الإنسان بالجهاد أما الصفة فقد لا يكتسبها أو قد تكون من صفاته أصلاً (المترجم، الأب أنطوان ملكي)
** آريك هايد أرثوذكسي من أصل مورموني. قضى بعض الوقت يسعى إلى الكمال في الزان. هذه الخبرة وجهته نحو النسك الأرثوذكسي. تحوّل إلى الأرثوذكسيةودرس اللاهوت والرعاية. هو في الأصل متخصص في علم النفس الإرشادي ويعمل في هذا الميدان. لديه مدوّنة غنية لكونه يجمع عدداً من الخبرات في قالب أرثوذكسي رزين.