روح العالم*
الأرشمندريت بولس شاراباشيف
يجد القارئ عدة أسئلة عند القراءة المتأنية المتأمّلة للمقطع الإنجيلي عن مجنونَي كورة الجرجسيين اللذين طرد السيد منهما جيشاً من الشياطين. لماذا يقول إنسان للسيد لا تعذبني؟ أيعذّب السيّد؟ وكم من الناس من حولنا يعانون العذاب والألم وقد افتداهم الرب بآلامه على الصليب؟ لماذا يقع البشر في هذه الهاوية المدمرة؟ لماذا تفقد حياة بعض البشر معناها الرئيسي وهو الجهاد من أجل الشركة مع الله، وهذا من دون أن يلاحظوا هذا الفقدان، فيما حياتهم تذوب في مختلف أشكال الفراغ والغرور؟ ما حدود تأثير الشيطان على تاج خليقة الله؟ تحت أي ظرف من الظروف يستطيع الشيطان أن يتسلّح بكل غضبه وخدعه الكثيرة لاستعباد إنسان مثلنا، فيحرمه من ثوب عدم الفساد، ويجعله مثل ذاك الممسوس الذي لا يرتدي ملابساً أو يعيش في منزل، بل بين القبور، محروماً من حماية أهله؟ لماذا يؤتى بإنسان حي إلى القبور؟ كيف نفهم كلمات الرسول بولس الذي يدعو الشيطان حاكم هذا العالم، بقوله “ فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ عَلَى ظُلْمَةِ هذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ” (أف 6: 12)؟
الرب يسمّي الشياطين حكام هذا العالم، وبحسب القديس يوحنا الذهبي الفم، ليس لأنهم يحكمون العالم ويمسكونه بيمينهم كما يفعل الله، بل لأنهم هم السبب الحقيقي لكل أفعال الشر. الكتاب المقدس يسمّي عادةً الأفعال الخاطئة “العالم“. على سبيل المثال، قول ربنا يسوع المسيح المكتوب في إنجيل يوحنا “لستم من هذا العالم” (يوحنا 15: 19) ، “كما أني أنا لست من هذا العالم” (يوحنا 8:23). بعض الآباء القديسين يستعمل كلمة “العالم” للإشارة إلى تكتل الأهواء.
لاحَظَ القديس باييسيوس الآثوسي بمهارة شديدة أن روح العالم أصبح اليوم أعظم عدو لنا. في عصرنا هذا، دخل الكثير من الدنيوية، والكثير جداً من “روح هذا العالم“. روح العالم هذا يدمّر العالم. إذ يقبل الناس في نفوسهم هذا العالم يصيرون دنيويين في دواخلهم ويخرِجون المسيح من أرواحهم. إن الذين يسلّمون قلوبهم إلى العبث والحياة الدنيوية يعيشون تحت حكم حاكم هذا الدهر. هذا لأن الشيطان يحكم الغرور وأن أولئك الذين يستعبدهم الغرور، يُستَعبَدون لروح هذا العالم، أي للعالم بالمعنى الآبائي.
إن القلب المأسور في هذا العالم الزائف يضبط روحه في حالة من التخلف وعقله في الظلام. من ثمّ يكون الإنسان إنساناً بالمنظر فقط. في الجوهر، هو بالحقيقة طفل خديج روحياً، مختلّ، ميت حي، كمثل ممسوسَي الجرجسيين مدفون حياً في القبور حيث يسكن. ما هي هذه المقبرة؟ كثيرون منا على دراية بها، وليس فقط من الإشاعات. في هذه القبور، يسلك حقًا أولئك الذين اتّخذوا كهدف لهم في هذا الوجود الأرضي التسليات المجنونة، مضحّين من أجلها بقدراتهم ومواهبهم. إنهم يسرقون من ذواتهم الوقت الذي أعطاه الله لنا لتحقيق أشياء سامية، مبددينه بشكل غير معقول، طوافين بين معلومات لا داعي لها على الإطلاق، جلّ ما تعمله هو تشتيت الفكر وإلقاء عالمه الداخلي في الفوضى. اليوم، هذا هو أقوى مولّد لروح هذا العالم. إن الشيطان، المدعو عدو الإنسان ومدمّره، لا يعتبر تدميرَنا جسدياً، كما دمّر قطيع الخنازير، أمراً كثير الأهمية بقدر جذب أرواحنا الخالدة إلى ظلمة هذا الدهر.
نذكر حادثة مثيرة للاهتمام وتربوية. في التسعينات كانت إحدى النساء الروسيات مهتمة للغاية بالتلفزيون. في تلك الأيام، كانت البرامج تغمر الناس كمثل محتويات صندوق بندورا المفتوح، أي كان هناك عدد ضخم من البرامج المختلفة. هذه كانت غير ضرورية، فارغة، مبتذلة، تبشّر بالعنف والفساد، وتحمِل إلى الجماهير روح غرور هذا العالم. هذه المرأة شدّتها بشكل خاص برامج الوسطاء والمعالجين. فقد كانت تهتم بها كثيراً وتحاول ألا تفوّت أمسية واحدة منها. ثم فجأةً وبشكل غير متوقع، عرفت أنها مصابة بمرض خطير. اكتشفت أنها مصابة بالسرطان، وقد اخترق هذا السرطان النخاع الشوكي، مما سبب لها ألماً لا يطاق. فوجدت فرصة لزيارة أحد هؤلاء المعالجين وذهبت إليه شخصياً وقالت له: “قمْ بكلّ ما عليك لشفائي من هذا المرض ونجاتي من هذه المعاناة الرهيبة“. قال: “حسناً، سأساعدك إنّما بشرط واحد. سأكتب رسالة وأضعها في مظروف مختوم. عندما تشعرين بالألم، ضعي المظروف على عمودك الفقري فيزول الألم“. فعلت كما علّمها وتراجع الألم بالفعل.
ولكن بعد ذلك وقعت في كارثة أكثر سوءاً. فقد صارت تشعر بثقل عاطفي واكتئاب وبأن لا معنى للحياة، حتى أن فكرة الانتحار صارت تراودها بشكل متكرر. فطلبت المساعدة من إحدى صديقاتها المسيحيات، التي كانت لحسن الحظ ابنة روحية للأرشمندريت كيرللس بافلوف. صديقتها ساعدتها على زيارة الأب كيرللس الذي قال لها: “يا عزيزتي، دعينا نلقِ نظرة على ما في المظروف“. رفضت قائلة: “لا تحت أي ظرف من الظروف! فقد أخبرني ذلك المعالج أنه بمجرد فتح المغلف أموت“. قال الأب:” حسنًا، بكوني كاهنًا ومعرّفًا، أعدك بأنه في حال سوف يموت أي شخص فسيكون أنا. لأني آخذ تلك العقوبة على نفسي“. بعد أن وافقت فتحوا الظرف ووجدوا التالي: “أيها الشيطان، ساعدها بينما هي في هذه الحياة، ولتكُن روحُها لك“.
تخبرنا هذه القصة المخيفة أنه من خلال الحماقة، من خلال الاعتقاد الخرافي، يمكن للشخص أن يصبح ضحية الشيطان ومستعبَدًا له. ومن يدري ما الذي كان سيحدث لتلك المرأة لو أنّ الرب الرحيم لم يقُدْها إلى شيخ الله هذا.
يقول الرسول بولس ” اَللهُ الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ” (أفسس 2: 4-5). لا ننسينّ هذه الكلمات الهامة، أيها الإخوة والأخوات. لنكُن منتبهين إلى كلمات الكتاب المقدس. لنستمع إلى صاحب المزمور النبي داود الذي تكلم بالروح القدس، “حَتَّى مَتَى تُحِبُّونَ الْبَاطِلَ وَتَبْتَغُونَ الْكَذِبَ؟” (مز. 4: 2) في سفر المزامير المقدس، لنهربْ من روح هذا العالم، روح ظلام هذا العصر ولنتشبّث بكل قلوبنا وأرواحنا وكل قوتنا بروح الله القدوس. آمين.
* من عظة الأرشمندريت بولس شاراباشيف من دير ساراتانسكي في روسيا، في الأحد الخامس بعد العنصرة، متى 28:8-1:9