فخور بكونِهِ خاطئا*
الأب أفيانيوس تاناسوسكو**
نقلها إلى العربية وعلّق عليها الأب أنطوان ملكي
يقول الكتاب المقدس بشكل لا لبس فيه: المثلية الجنسية خطيئة. هذا لا يعني أن من يخطئ يضيع. على العكس من ذلك، إن الكنيسة تكره الخطيئة ولكنها تحبّ الخطأة وتخلّصهم من خلال إصلاحهم.
ولكن ما الذي يحدث مع الاعتقاد بأن الخطيئة فضيلة؟ إن ما نراه في الشوارع في مسيرات افتخار المثليين (Gay Pride parades) هو بالضبط مديح علني للخطيئة.
في الواقع ، هذه المسيرة هي جزء من استراتيجية أوسع: تنفيذ “المجتمع المفتوح” في المجتمعات الديمقراطية. والسبب بسيط للغاية: إن عولمة الاقتصاد تقود إلى عولمة الأسواق، والتي لا يمكن أن تعمل بدون عولمة المجتمع والسياسات العامة.
وحيث أنه من غير الممكن تسوية (Leveling) [1] كلّ أعضاء المجتمع (كما تريد الأنظمة الدكتاتورية أو المجتمعات “المغلقة“) ، فكّر الديمقراطيون الليبراليون باستراتيجية عكسية: السماح لكلّ شخص بكل ما يريده، لأن الحرية تخدم الاقتصاد أكثر من القيود. إن إنساناً بدون قيود في الاستهلاك هو زبون أفضل بكثير من ذاك الذي يصوم ويمارس ضبط النفس.
وهكذا ، يظهر “إنجيلٌ” جديدٌ للعالم: “إنجيل المجتمع المفتوح” [2]، والذي يجهد منذ بعض الوقت ليحلّ محل إنجيل المسيح. إن جوهر “التبشير” الجديد بسيط: عدم الكمال البشري هو المحرك الاقتصادي الجديد للعالم، ولهذا السبب يجب تشجيعه وحتّى دعمه.
بهذه الطريقة تظهر الحاجة إلى الأخلاق الجديدة، الحاجة إلى “أخلاق عامة جديدة“. يتمّ تحقيق هذا الهدف من خلال دفع الحقوق والحريات الفردية نحو فخ الخلاعة (libertinism). لأن “الحق في الخطيئة” هو مجرد فخ وليس فضيلة.
لهذا، ومنذ القرن الماضي، ظهرت جميع أنواع الحركات (الإيديولوجية، والسياسية، والاقتصادية، والجنسية، الخ) بهدف “تحرير” الإنسان من قواعد القداسة “المقيِّدة“. والعقبة الأخلاقية الأولى التي واجهتها حركات التحرر هذه هي الكنيسة. هذا كان طبيعياً لأن النسبية الأخلاقية تتناقض بشكل مباشر مع الأخلاق المسيحية التي كانت أساس المجتمع حتى تلك اللحظة. وهكذا، بدأت الحرب الأيديولوجية على الكنيسة، أولاً في الديمقراطيات الغربية، وبعد سقوط النظام الشيوعي في أوروبا الشرقية [3].
في إطار حركة “التحرر” الجنسي، هناك اتجاه معين هو رفع الشذوذ الجنسي إلى مرتبة “الوضع الطبيعي“. لتحقيق النجاح، لجأوا إلى أقدم إستراتيجية تلاعب روحانية: إدخال فكرة أن الخطيئة ليست ضررًا روحيًّا، بل هي فضيلة أو مكسب، أو على الأقل هي طبيعية. لذا لم يعد من الضروري أن يذلّ الإنسان نفسه من أجل الخطيئة، لأنها لم تعد موجودة، باﻷحرى يجب أن يكون فخوراً بأنه… خاطئ.
النتيجة المباشرة لهذا الموقف هي إعادة كتابة الأخلاق. عندما يعتقد الإنسان بأن لديه ما يفتخر به، يكفّ السقوط وعدم الكمال عن أن يشكّلا مشكلة لديه. وهكذا، في سقوط الإنسان في هذا الفخ، تصير الروحُ معزولة عن اللهَ، والنهاية ستكون قاسية كما يقول داود في المزامير: “قَالَ الْجَاهِلُ فِي قَلْبِهِ: «لَيْسَ إِلهٌ»”(مزمور 53: 1).
لإبطال فكرة أن المثلية الجنسية هي خطيئة، تمّ تقديم فكرتين أخيرتين: الله يحب المثليين، وأكثر من ذلك، الله جعلهم هكذا. الهدف هنا تحفيز فكرة عدم لوم المثليين على وضعهم، لأنه لم يكن اختيارهم. من الصعب فهم مصدر الفخر في هذا الوضع، والأصعب هو فهم مواقف “التحول” من الطبيعية (العلاقات الجنسية بين الجنسين) إلى المثلية، والعكس بالعكس. هذا أمر لا يحكي عنه دعاة مجتمع LGBT.
بالحقيقة، المثليون يحبّون أنفسهم. إنهم يريدون بثّ فكرة أن من يعارضهم عديم الإحساس، مصاب برهاب المثلية (homophobe) ، منغلقُ الفكر ومتعصب. هذه الحجة يمكن أن يصدّقها الذين يفتقرون إلى المعرفة الروحية. حب LGBT ليس أول شكل، أو ليس الشكل الوحيد، للحب الذي يُساء تفسيره. على كوكب الأرض هناك أيضاً حب المتعة، حب المال، حب السلطة، حب الذات، والعديد من الفخاخ الأخرى التي تأخذ شكل الحبّ. في المسيحية، حتّى الشَبَق (eros) ضمن الزواج، لا يُنظَر إليه على أنه فضيلة في حدّ ذاته، بل ينبغي تحويله إلى محبة (agape).
إنّ التحريف اللاهوتي، بحسب رغبة LGBT، لا يهدف إلا إلى عزل الكنيسة باعتبارها عاملاً يؤثّر في صناعة الرأي العام. إن بثّ فكرة أن الله يسمح بالشذوذ الجنسي، تظهِر أن الله ليس هو الذي تبشّر به الكنيسة، وأن الكنيسة “تلاعبت” بطريقة ما بحقيقة الله (كم مرة تُتّهم الكنيسة بالتلاعب؟)، وأن الكنيسة تضطهدهم بغير حق.
إن وصف الكنيسة بأنها “عدو” للمثليين هو استراتيجية تلاعب قديمة، لكنها اليوم تخفي سرًا جديدًا هو محاولة تحويل التسامح المسيحي إلى قبول. مثال على ذلك هو الدعاية التي تصوِّر علاقتنا بالطوائف المسيحية الغربية على أنها قبول وتسوية، على الرغم من وقوعهم في الانشقاق القيصروبابوي (Caesaropapism).
وبالتالي، تسعى مسيرات افتخار المثليين إلى الحصول على دعم شعبي لإضفاء الصفة القانونية على العلاقات المثلية. إنهم يطلبون إعادة صياغة الحقيقة وإسكات الكنيسة من خلال قوة “الشارع“، وعن طريق شيطنة الثلاثة ملايين الذين ناصروا، في الاستفتاء، العائلة الطبيعية كما أسّسها الله (“ذكراً وأنثى خلقهم الله” الذي هو جواب يسوع على يأس كل الذين يبوّقون بأنّ يسوع لا يعارض الشذوذ الجنسي)، ولكن أيضاً بدعم السفارات[4].
لسوء الحظ، إن الاستراتيجيين الذين يقفون وراء هذه الحركات يخدعون أنفسهم، كمثل يهوذا في تعاملاته. على الرغم من أن عدد الأصوات يؤثّر في الديمقراطية، إلا أن الحقيقة لا تتحدد باﻷعداد. إن التشجيع المعولم على الإباحية لن يؤدي إلا إلى التدمير الروحي للبشرية.
* تتسابق اليوم العديد من الجمعيات على رعاية المثليين ومتحولي الجنس وصار متعارفاً على تسمية هذه المجموعات LGBT [الكلمة هي الاحرف الاولى لكلمات: lesbian, gay, bisexual, and transgender أي سحاقية، لوطي، ثنائي الجنس، متحوّل جنسياً].
عنوان المقال هو ردّ على الاسم الذي تطلقه LGBT على المظاهرة السنوية التي تُنَظَّم في عدد كبير من عواصم العالم ويطلقون عليها اسم (Gay Pride) “افتخار اللوطيين”. في لبنان جرت محاولات لتنظيم هذا النوع من المظاهرات لكن لم يُعطوا الترخيص فنُظِّمَت في أماكن مغلقة قبل 2017. لكن منذ 2017، خرجت العديد من الأمور إلى العلن، حيث تمّ تنظيم “بيروت برايد 2017” ومن ثم 2018، وهي أسبوع من النشاطات المثلية، وأهمها عرض أزياء مثلي يظهر فيه شبان لبنانيون بالفساتين مع ما يترافق مع هذا العرض من الحركات النسائية، أمسية شعر مثلي، وأمسية كاريوكي (karaoke) مثلية. كما أن عدداً من بيوت الليل في بيروت وغيرها صار معروفاً بأنه للمثليين ويستقبل نشاطات علنية. آخر التطورات هو قرار محكمة الاستئناف الجزائية في جبل لبنان، الغرفة الثانية عشرة، الذي نُشِر في 12 تموز 2018، والذي يرد فيه مرافعة للمحامية يمنى مخلوف دفاعاً عن بعض المثليين الملاحَقين بمخالفتهم للمادة 534 من القانون اللبناني التي تعتبر أن أي ممارسة للجنس بخلاف الطبيعة هي جرم يستحق العقوبة. وقد ورد في مرافعتها: “أن عناصر المادة 534 ق.ع. غير متوافرة لانتفاء الدليل على المجامعة أو أي فعل جنسي علماً بأنه لا يمكن الحكم على الميول وبأن المادة 534 ق.ع. لا تعاقب المثلية الجنسية بصفتها ميلاً، ولعدم توافر المجامعة على خلاف الطبيعة، وأشارت إلى التطور في مقاربة المثلية الجنسية على الصعيد الدولي من خلال تعديل القوانين التي تجرّم العلاقات المثلية وبيان الأمم المتحدة وحقوق الإنسان بما فيه التوجّه الجنسي، وإلى التطور في لبنان في ضوء الاجتهاد، وأضافت أنه يقتضي تفسير النص الجزائي تفسيراً حصرياً وتصديق الحكم الابتدائي الذي قضى بأن العلاقات الجنسية بين راشدين هي ممارسة لحقّ بغير تجاوز طالبة بالنتيجة ردّ الاستئناف شكلاً وأساساً وتصديق الحكم الابتدائي. وترافع الأستاذ نزار صاغية مدلياً بأن من واجبات القاضي شرح وتفسير القانون وحماية الحريات، وبأنّ المادة 534 ق.ع. لم تحدد ما هي العلاقة الغير طبيعية” وعليه فنّد القرار عدداً من النقاط أهمها بالنسبة لنا أن القانون ليس لمعاقبة الشذوذ، وهو موقف صحيح، بل لمعاقبة مخالفة اﻵداب العامة. وفسّر القرار “أن ما يشكّل تعرّضاً للآداب واﻷخلاق العامة في ضوء التطور الاجتماعي هو المجامعة التي تخرج عن المفهوم التقليدي للعلاقة الجنسية الطبيعية بين رجل وامرأة، متى حصلت على مرأى من الغير أو مسمعه أو في مان عام أو متى تناولت قاصراً يجب حمايته. وحيث أن القضية الراهنة… وعن أن ممارسة الجنس بين رجل وآخر تحول جنسياً وجسدياً إلى امرأة يمسي علاقة رجل بامرأة شأنها شأن أية ممارسة طبيعية تقليدية…” (عن المفكرة القانونية).
لا بدّ من التوقف عند الفكرة الأخيرة في القرار وهي في غاية الخطورة وغير محسومة في القانون العالمي، وخاصةً لدى الباحثين في أخلاقيات علم الحياة. إن القرار أعلاه يطرح تحديات كبيرة حول عدة نقاط منها تحديد الأخلاق، وتحديد العلاقة الطبيعية، والحق في تحديد الجنس. هنا يجب أن يكون للكنيسة وللأديان بشكل عام كلمة، إن لم يكن في ﻻالقانون ففي الرعاية، وإلا فالكنيسة في خطر، وما يجري في الكثلكة خير دليل. من الخطير أنه حتّى العلم يتمّ تشويهه وإخضاعه لأجندات سياسية في هذا الموضوع. لمعرفة المزيد عن دور السياسة والأمم المتحدة يمكن العودة إلى المقالة التالية على التراث الأرثوذكسي: المثلية بين الرعاية والقانون المدني.
ملاحظة مهمة حول التطورات في لبنان: يجري التعتيم بشكل مريب على هذه الأخبار. إذ نادراً ما ترد على شاشات التلفزة أو في الجرائد التقليدية. هذا يعني أن الأمور تجري والمجتمع غافل. المؤسف أن الذين ينشطون لدعم هذه المظاهرات يعطون عملهم صفة الدفاع عن حقوق الأقليات والمهمّشين على اعتبار أن صفة الأقلية والتهميش تنطبق على المثليين ومتحولي الجنس، لكن هذه المظاهرات تتحوّل بشكل طبيعي مناسبات للتعبير عن حالة الفجور والضلال التي يتخبّط فيها هؤلاء. وبالتالي بدلاً من رعايتهم الفعلية والتي تبدأ بالاعتراف بحالتهم المرضيّة بهدف علاجهم، تتحوّل نوايا الرعاة، الطيبة أحياناً، إلى تثبيت الحالة المرضية وتشريعها بغض النظر عن الكلام العلمي المتّزن، ما يؤدّي إلى تعميق الهوة التي يكون فيها الأشخاص المجرّبون بهذا المرض، ما يساهم في إبعادهم عن الخلاص وحتى عن الصحة الحقيقيَين.
** الأب أفيانيوس تاناسوسكو كاهن من أبرشية توميسولوي في رومانيا.هو في الأصل مهندس ويعمل في الإعلام الكنسي من خلال راديو دوبروجيا (Radio Dobrogea) الراديو الأرثوذكسي الأول الناطق بالرومانية في رومانيا وخارجها. إلى هذا، للأب أفيانيوس مدوّنة تجتذب تفاعلاً كبيراً لدى المؤمنين.
[1] التسوية الاجتماعية مفهوم سبق العولمة وهيّأ لها. تُمارَس التسوية الاجتماعية بشكل ملحوظ في المجتمعات الكبيرة على الأقليات خاصةً التي تظهِر مقاومة للتغيير الثقافي داخل المجتمع. هذه العملية دفعت العديد من علماء الاجتماع، كدانيال ليرنر، إلى الحديث عن موت المجتمع التقليدي. للتسوية الاجتماعية تأثيرات عديدة، منها اختفاء اللهجات المحلية، مع توجّه المجتمع نحو تبنّي لغة واحدة، والحدّ من التنوع الثقافي حيث يفقد الأفراد أهمية كونهم مختلفين، وفقدان الفرادة الثقافية والتراث الثقافي، والدفع لقبول نتائج التسوية الثقافية.
[2] أول مَن تحدّث عن فكرة المجتمع المفتوح هو الفيلسوف الفرنسي هنري بيرجسون في عام 1932، وتطورت الفكرة خلال الحرب العالمية الثانية مع الفيلسوف البريطاني النمساوي المولد كارل بوبر. يورد بيرجسون القانون والدين كَمَثَلين عن المجتمع المغلق الذي يكون جامداً ويحتفظ بغريزة إقصاء الآخرين حتى لو اختفت كل آثار الحضارة. في المقابل، يصف المجتمع المفتوح بأنه ديناميكي ويميل إلى الأخلاقيات الشمولية. أما بوبر فرأى أن المجتمع المفتوح يتّسم بموقف نقدي للتقاليد. وفي المجتمعات المفتوحة، يُتَوقَّع من الدولة أن تكون مستجيبة ومتسامحة، وآلياتها السياسية شفافة ومرنة.
[3] ولاحقاً إلى كل دول العالم الثالث، فعلى سبيل المثال، دول الشرق الأقصى وتحديداً الهند هي من أكثر المجتمعات التي تتغيّر لاستيفاء شروط “المساواة” وتحقيق حقوق المثليين.
[4] من أسباب تكاثر الجمعيات التي ترعى المثليين هو الترغيب المادي الذي تمارسه بعض السفارات الأوروبية والأميركية. فهي تجذل المساعدات على هذه الجمعيات التي تضمّ بغالبيتها أفراداً يؤمنون فعلاً بالمساواة بين البشر وحقوق الأقليات وغيرها، إنّما تُستَغَلّ غيرتهم لدعم الخطأ. لمعرفة المزيد عن موقف الكنيسة كما عن دور السياسة والأمم المتحدة يمكن العودة إلى المقالتين التاليتين على التراث الأرثوذكسي: موقف الكنيسة الأرثوذكسية من تشريع زواج المثليين و المثلية بين الرعاية والقانون المدني.
تتعرّض رومانيا للكثير من الضغوط بهدف تغيير القوانين فيها بشكل يرضي ويناسب مجموعات الشذوذ الجنسي وذلك كشرط لانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. في 2017، فيما كان 3 ملايين شخص يوقعون عريضة لرفض زواج المثليين، اتُّخذ قرار بإجراء استفتاء حول هذه القضية، إلى اﻵن لم يجرِ.
هذه السنة، شاركت 32 سفارة بشكل مباشر في مسيرة المثليين في بوخارست عاصمة رومانيا. لا يزال المجتمع الروماني إلى اليوم يقاوم هذه المسيرات، أما الدولة فتخشى العقوبات والتصنيف بأنها لا تحترم الأقلّيات والاتّهام بالقمع. الصورة التالية التُقِطَت أثناء المسيرة لرجل متحوّل إلى امرأة وهي تحكي عن ذاتها.