الاستحقاق
الأب أنطوان ملكي
ما مفعول كلمة مستحق؟ هل حجبُها يؤثّر على السيامة؟ في إطار أوسع، هل يستطيع الشعب أن يردّ بأن المُسام غير مستحق، خاصةً إذا كان يُسام أسقفاً انتخبه المجمع؟ هذه الدراسة السريعة مساهمة في الإجابة على هذه الأسئلة على ضوء تقليد الكنيسة الأرثوذكسية.
إن المشاركة في ترتيل “مستحق“، حدث ينتظره الكثيرون ويثير الحماسة في المؤمنين. الكثلكة ألغت هذه الممارسة من زمان ومنها انتقلت إلى إلغاء دور الشعب بالكليّة. في الكنيسة الأرثوذكسية ما زالت الممارسة قائمة مع بعض الجدل حول فعاليتها خاصةً أن مستوى التعاطي الجدي معها يختلف بين كنيسة وأخرى.
بين الاختيار والسيامة
إن اختيار الأساقفة عملية مختلفة عن سيامتهم. في وقت ما كان الشعب يسمّي أو يشارك في تسمية المرشّحين، لكن الكنيسة عرفت خيارات شعبية غير صحيحة خاصةّ أن الطامحين إلى الأسقفية صاروا يستغلون الناس للمطالبة بهم. أوقفت الكنيسة الاحتكام إلى الشعب في اختيار الأساقفة لكنها أبقَت على هذا الجزء من الخدمة حتّى يكون للشعب كلمة في السيامة.
يذكر القديس كبريانوس القرطاجي أن “الرب ينزل لينتخب ويعيّن لنفسه أساقفة في كنيسته” (الرسالة 4:48). وفي صلاة قديمة محفوظة في التقليد الرسولي لهيبوليتوس روما يقول “أيها الرب، ثبّت هذا الذي هيأتَه لنا“. هل ينفي هذا التعليم دور الشعب ويحوّل الأسقفية إلى خدمة منزَلة؟
التقليد يقول غير ذلك. فقد ورد في القوانين القديمة لبعض الكنائس أنّه يجب انتخاب الأسقف من الشعب. ومثله ورد في الديداخيه: “على هذا الأساس، انتخبوا لكم أساقفة وشمامسة، رجالاً هم شرف للرب… مخلِصون ومجرَّبون” (الفصل الخامس عشر). القديس يوحنا الذهبي الفم في تفسيره الرسالة إلى تيطس يوضِح أنّ على الأسقف “أن يحكم الشعب بإرادتهم“. كيف نفهم كل هذه التعاليم؟
معنى الإعلان
مستحق أو أكسيوس هي تزكية أو إعلان عن موافقة الشعب على السيامة القائمة سواء كانت لشماس أو كاهن أو أسقف. في كتاب الخدمة أن الأسقف يصرخ مستحق ويجيب الشعب بالمثل. يتّضح من تعاليم الآباء أن هذه الصرخة هي تعبير مسموع عن مشاركة الشعب الحقيقية بالسيامة وبالتالي تأكيده على حسن الاختيار. بالتطبيق هي تعني أن هذا الذي وُضعَت عليه الأيدي صار مستحقاً للقيام بالخدمة المنوطة به (هابغود ص. 606) [1].
تنقل هابغود في الملحق الثاني لكتابها عن المصادر القديمة أن هذه الصرخة من الشعب هي شهادة على عيشة المُسام التي لا عيب فيها وأخلاقه الحسنة (هابغود ص 607)، “بما أن اختيار الأسقف قد أُعلِن لهم بهدف الحصول على شهادتهم وإعطائهم الفرصة للتعبير مع أو ضد الاختيار. لقد تمّ الحدّ لاحقاً، بسبب عدد من الصعوبات، من تأثير الشعب على اختيار أساقفته. وحتّى في اختيار الكهنة والشمامسة لم يعد للشعب الكثير لقوله. لكن وجود هذا الإعلان (أكسيوس) حفظ التقليد الذي يحفظ حقهم في التعبير عن ملاءمة المُسام” (هابغود ص 605). إذاً الردّ بـ “غير مستحق” يعني أن بعض الشعب يرى خللاً في عيشة المُسام وأخلاقه وبالتالي هو غير ملائم.
هل توقَف السيامة عند هذه النقطة؟ الأمر يعود إلى ضمير المتقدّم. فالقانون الثاني من المجمع المسكوني السابع يقول: “… ويجب على الميتروبوليت (البطريرك) أن يقوم بفحص دقيق ليتحقق من كون هذا الرجل ذا رغبة في المطالعة بإمعان وتفهّم وأنّه مواظب على مراجعة القوانين الشريفة وقراءة الأناجيل المقدّسة وكتاب الرسائل الإلهي وسائر الكتب المقدسة وأنه يعيش سالكاً بوجب وصايا الله…” (الشرع الكنسي، ص 811). فإذا كان قد تحقق كما هو مطلوب منه عليه أن يشرح للمعترضين ذلك، أمّا إن كان لم يتحقق فعليه سؤالهم. في تاريخ الأرثوذكسية الحديث أكثر من حادثة من هذا النوع. تذكر سجلات الكنيسة الأرثوذكسية في أميركا أن الميتروبوليت ديمتري كان في سيامة أحد الأساقفة في نيويورك فتقدّم أحد الأشخاص وصرخ غير مستحق، فوضع الميتروبوليت كرسياً أمام الباب الملوكي واستدعى الشخص وسأله عن السبب، ولمّا لم يكن سبباً مهماً تمّ تجريده. حالة أخرى في بلغاريا أوقفت السيامة [3].
دور الشعب في سيامة الأساقفة
وضع القديس إكليمندس الإسكندري في الكنيسة الأولى قانوناً باسم الرسل يقول بأن هذه الشهادة يجب أن تُقام بدقة، خاصة في سيامة الأساقفة، كردّ على سؤال محدد، يُطرَح ثلاثاً على الشعب، “أهو بالحقيقة مستحق لهذه الخدمة؟” (هابغود ص 607).
الكنيسة بتركيبتها تمثّل كلاً من الإكليروس والعلمانيين، وعليه فإن اشتراك الشعب في اختيار الأسقف هو من حيث المبدأ مبرر بالكامل. بحسب القانون الأول من مجمع قرطاجة الرابع: “يُنتَخَب الأسقف بالاتفاق مع الإكليروس والشعب“. وهذا الأمر تؤكّده قوانين الرسل: “… لكي يُسام الأسقف يجب أن يكون… بلا لوم، شخصاُ مختاراً، منتقىً من كل الشعب، ومتى سُمّي وتمت الموافقة عليه، فليجتمع الشعب… في يوم الرب، وليعطوا موافقتهم” (VIII:4) وعندما يكون هناك قرار بالإجماع، يعرب الشعب عن حكمه بإعلانه “مستحق” أو “غير مستحق“. [2]
تاريخياً، ساهم تدخل الملوك في تعيين الأساقفة في الحد من دور الشعب في الاختيار. هذا الأمر استحق الإدانة في المجمع المسكوني الثاني سنة 381، حيث صدر القانون الثالث الذي يمنع تدخل الملوك، ولكن من حينه صار الشعب أيضاً خارج اللعبة، لا دور له في الانتخاب.
في أنطاكية، يحفظ قانون مجلس الأبرشية الحق للشعب في تسمية المرشحين من خلال تركيبة محددة. لكن هذا الأمر ينطبق فعلياً على المطارنة وليس على الأساقفة لكونهم بحسب القانون مساعدين للبطريرك. وضع الأساقفة القانوني ليس موضع إجماع وهناك تساؤلات حوله (أنظر الأرشمندريت توما بيطار، نقاط على الحروف، “بيان المجمع المقدّس حول الأساقفة المساعدون“، 12 أيلول 2010). إلى هذا درجت العادة بأن يتمّ تعيينهم من البطريرك بموافقة المجمع لا أن يُنتَخَبوا بحسب القوانين.
خاتمة
لا ينبغي فهم مشاركة الشعب وكأنها عملية ديموقراطية. فاﻷسقف ليس نائباً منتَخباً من الشعب بل هو معيّن من الله، بعمل الروح القدس في المجمع، ليعلّم الشعب ويقوده، ولهذا يضع الله عليه مواهب الروح القدس. المجمع مسؤول أن يسلك بالروح القدس. الشعب مسؤول أن يفهم طبيعة الكنيسة مقتنياً حساً بالشركة وفرادة في الفكر تليق بجسد المسيح، حتى تؤدّي صرخة “مستحق” أو “غير مستحق” القصد الذي وراءها. وفي الممارسة، فإن مسؤولية الإدارة الكنسية تقضي بأن تحفظ حقّ الشعب في التعبير عن نظرته للمُسام وأن تستمع إليه. إنّ غضّ النظر عن صوت فئات محددة من المؤمنين يطال من شفافية الإدارة الكنسية ويهزّ ثقة المؤمنين بها. خطأ المؤمنين في التعبير عن رأيهم لا يفقدهم حقهم بالاستماع إليهم، خاصةً حين يكونون غير مثقّفين كنسياً. فهنا تقع على الإدارة الكنسية مسؤولية تعليم الشعب عن سلوكه في الكنيسة وكيفية التعبير فيها.
خبرة الكنيسة أنّ منهجية التعليم الفضلى فيها هي “تعالَ وانظر“. إن نظرنا ماذا نرى؟
[1] Isabel Hapgood. SERVICE BOOK OF THE HOLY ORTHODOX-CATHOLIC APOSTOLIC (GRECO-RUSSIAN) CHURCH. Cambribge. 1906
[2] Editor. Axios. Orthodox America. Issue 136. Vol XV, No. 4. November – December, 1994
[3] https://www.reddit.com/r/OrthodoxChristianity