الاختزال في خدمة الجناز
الأب أنطوان ملكي
في كتاب مختصر الإفخولوجي الذي “يحتوي على جميع الصلوات التي يحتاج إليها الكاهن” ومنه في أنطاكية نسختان قيد التداول. الأقدم هي من مراجعة الخوري نقولا خوري في القدس سنة 1934، والأخرى من مراجعة سرجيوس أسقف سلفكية في 1964. واضح أن الثانية هي اختصار للأولى. كعادة أغلب ما بين يدينا، ليس من دراسة حول سبب الاختصار سوى ما العبارة التي ترد في النسخة المختصرة نفسها “إن العادة الآن لأجل السرعة والاختصار…” أنظر مثلاً ص. 198 حيث يرد “أن العادة الآن لأجل السرعة والاختصار هي أن الكاهن يتلو المزمور 119 “طوباهم الذين بلا عيب” بكامله، وهو المزمور الأطول، على انفراد قبل الابتداء بصلاة الجناز إلى أن يجتمع الناس. وفي حين تلاوة صلاة الجناز يقتصر على ترتيل الاستيخونات الستة فقط الموضوعة هنا“. إذاً، العادة والاختصار اقتضتا أن لا يبقى من كل مزمور إلا ست استيخونات، وفي أيامنا هذه لم تعد تُقال جميعها ولا حتّى الطلبات التي ما بينها. إلى هذا، فإن صلاة الجناز في نسخة 1964 تبدأ بالمزمور الحادي والتسعين “الساكن في عون العلي” وقد أُسقِط. من ثمّ تتبع الإفلوجيتاريا “مبارك أنت يا رب“، فطلبة، فثلاث طروباريات غالباً ما يقرأها اليوم الكاهن الكاثوليكي المشارك، من ثم المزمور الخمسون الذي حُذِف فقانون “على كل قطعة منه يُقال «أرِح يا رب نفس عبدك هذا الراقد»” يتضمن كاثسماتات حُذِفَت، ولم يبقَ منه إلا أرموس وطلبة ومن ثم قنداق وطلبة من دون البيت. من ثم إرموس تمّ حذفه تتبعه طلبة فالدمشقيات، أي القطع التسع التي لا يوجد ما يضاهيها روعة في وصف سر الموت، والتي أُسقِطَت من الخدمة وبقيت مرتلة لمحبي الترتيل البيزنطي حيث أن متري المرّ أبدع في ضبطها وجوقة أبرشية طرابلس أبدعت في أدائها على أحد أقراصها المدمّجة. هذه الدمشقيات صار “أهل الفقيد” يختارون منها ما يريدون سماعه على الآن في المكارزمي الذي اختُصرَت قطعه ولم يبقَ منها إلا الاستيخونات. الرسالة والإنجيل يتبعان المكارزمي، وهنا يسقط السرعة والاختصار حيث قد تمتدّ قراءة الرسالة إلى خمس دقائق ومثلها الإنجيل تتبعهما عظة قد تتخطّى العشر دقائق خاصةً إذا بدأت بالتحية لأصحاب المناصب وممثلي الرؤساء الذي يضّيقون الكنيسة بكراسيهم المفروضة في الصفوف الأولى حتّى ليظن الغريب أن ما يجري هو حفل تكريم لهم لا صلاة من أجل الراقد. من ثم يعود الاختصار فيُحذَف أربعة عشرة طروبارية قد تتفتّق القريحة البشرية عن ما يشبهها في تفصيل سرّ الموت وشرحه وربطه بالحياة الحالية وبالقيامة الآتية وليس من السهل إيجاد ما يوازيها من الكلام المعزّي في أفئدة الناس. من بعد هذا تأتي صلاة الحل فتريصاجيون فالختم. طبعاً هذا التريصاجيون الأخير تمّ حذفه.
تنتشر اليوم بين يدي الكهنة نسخة هي اختصار الاختصار لعدد من الخدم صادرة عن أبرشية بيروت، كما بين يدي كهنة طرابلس والكورة نسخة للجناز جمعها الإيكونوموس جبران اللاطي عن طريق قطع صور من مختصر الإفخولوجي ولصقها. هذه النسخة تعطينا فكرة من الناحية الإحصائية، ففيما خدمة الجناز في كتاب مختصر الإفخولوجي لعام 1964 هي في 43 صفحة، أمّا نسخة اللاطي فهي في 18 صفحة، إذا أسقطنا منها صفحة المزمور الخمسين الذي يرتّل على الطريق لا في الكنيسة، وأنه كرر الطلبة لا الإشارة إليها مقتطعاً صفحة كاملة لكل مرة وأبقى على طروباريات المكارزمي، كما أفرد صفحة كاملة لصلاة الحل، لا يبقى في هذه النسخة إلا 12 صفحة. بغض النظر عن حجم الصفحات وقول علم المطبوعات، فإنّنا نحكي عملياً على ربع الخدمة.
لا يوجد في اللغة العربية أي دراسة تشرح خدمة الجناز، ولا أي دراسة تشرح مراحل “زمّه“. مبرر الاختزال الوحيد هو “السرعة والاختصار“. أليس معيباً الكلام عن السرعة والاختصار في خدمة الجناز فيما معدل حضور التلفزيون عالمياً لمَن أعمارهم بين 33 و59 هو 33 ساعة في الأسبوع أي ما يزيد عن 4 ساعات في اليوم؟ أليس معيباً أن يكون السرعة والاختصار سبباً لاختصار خدمة الجناز إلى ما دون العشرين دقيقة فيما لا تقلّ عدد ساعات تقبّل التعازي، رسمياً، لأي فقيد عن 32 ساعة؟
طبعاً، ليس إيراد هذه الأرقام أن تكون هدفاً بذاتها. أن تكون ساعات تقبّل التعازي غير خاضعة للاختزال فيما فقط الصلاة خاضعة، معناه المباشر أننا لم نعد نؤمن بأن العزاء الفعلي يأتي من الله بل من الناس والتفافهم وتعاضدهم. أن تقبل الكنيسة بذلك معناه أنه ترضى أن تتحوّل مكتباً للتجنيز قد يأتي يوم يحدد فيه أهل الفقيد ماذا يريدون من الصلوات، كما يحددون اليوم مَن يريدون من الكهنة وعدد باقات الزهر وساعات تقبّل التعازي. أن يقبل الإكليروس هذا الكلام معناه أنه استقال من دور نقل وجه المسيح المسيح إلى الناس وصار منخرطاً في تقديم إلى كل واحد المسيح الذي يناسبه. وصل الأمر ببعض الآباء أن تتحوّل أبوّتهم إلى شرطي سير يقول للناس اجلسوا أو قفوا في خدمة الجناز، طبعاً من دون أن يشمل الأمر أهل الميت الذين يعطيهم حزنهم الحق في عدم الوقوف عند قراءة الإنجيل. لماذا ننمّي الجوقات إن لم تكن لترتّل الدمشقيات في الجنانيز فتحمل فكر الدمشقي إلى قلوب الناس وأولهم أهل الفقيد؟ فبدل أن ينشغلوا في حزنهم وحرمانهم من فقيدهم، أو في اهتمامهم بأن لا يقصّروا مع أحد من الحضور وفي حجم الحضور في جنازهم الذي فاق جناز جارهم، أو في عدد المطارنة والكهنة المنتصبين في الباب الملوكي وحوله، الراكضين إلى التعزية في الكنيسة فيما الشعب يعزّي خارجاً، لأن وقت الإكليروس أثمن وقت الشعب. وبدل أن ينشغل أهل الفقيد بالكلمة التي سوف يلقيها ممثلهم داخل الكنيسة بمخالفة صريحة لكل القوانين الكنسية وحتّى للأعراف الاجتماعية، فإن طروباريات وداع الميت تحمله، وتحمل أهله ومحبيه وكل الذين لبّوا “الواجب” بالحضور إلى الجناز، إلى باب السماء وتضعه بين يدي ملاكه الحارس وتصالحه مع الكثير من الرؤى التي كان خاصمها في حياته.
هذا الاختزال إلى أين؟ إنه اختزال للفكر واللاهوت والدور والرسالة، ولا بدّ في النهاية أن ينعكس اختزالاً للبشر، فيصير التعاطي مع الراقدين على أنهم حالات عابرة وأهلهم زبائن عابرين. هنا العثرة. مطلوب أن تعيد الكنيسة، طبعاً المقصود هنا هو الإدارة الكنسية، ترتيب أمر الاختزال حتى لا نصل إلى ما هو أسوأ.