اختزال الشعب
الأب أنطوان ملكي
هذا العنوان مثير للرهبة لأن اختزال الإنسان هو أكبر الخطايا. “هل أنا حارس لأخي؟” لم يكن القتل خطيئة قايين الكبرى بل الإنكار. واليوم أين يأتي الاختزال في الكنيسة؟ أهو خطيئة؟ لقد بيّننا مخاطر الاختزال في الأكاليل والجنانيز. لن نتطرق إلى الاختزال في القداس، بل سوف نعبر مباشرة إلى الحديث عن اختزال الشعب.
لمَ قد ينتبه إلى أنه يختزل الشعب مَن اختزل الطقوس؟ الطقوس أصلاً قنوات لتقديس الشعب. إذا اختزلناها يعني أننا ضيّقنا القناة التي تعبر فيها القداسة وصار المستفيدون منها أقلّ. إذا كنّا فعلاً نهتمّ بالمستفيدين من القناة، الطالبين القداسة، فإننا لا نضيّقها، يعني لا نختزل. الأمر بسيط ويمكن شرحه بمَثَل. عندما كان يأتي البعض طالبين إذناً للإكليل مساء السبت، كان مطران طرابلس يحاول إقناعهم بأن الإكليل مساء السبت لا بَرَكة فيه. هو لم يحكِ معهم بقوانين بل بالبَرَكة. مَن يريد البَرَكة يلتزم القانون. اليوم ماذا لدى المطران ليقوله للشعب؟ اليوم لا شيء يردع المتردد عن اختيار الوقت الذي يناسب مصفف الشعر والمطعم والمصوّر وبائع الزهر. لم يعد هناك عوائق كنسية، ولكنه لن يلحظ أنه لم يعد هناك برَكة. وبحجة القانون الجديد سوف تنهار دفاعات الكهنة المتمسّكين بعدم جواز الإكليل مساء السبت. ومن نتائج هذا الانهيار استقواء الشعب على الكاهن المتمسّك بأنه ليس موظّفاً في محكمة عملها إصدار شهادات الزواج بل هو ناقل بَرَكة، ولهذا يرفض أن يقيم الطقس إلا بحسب الأصول. هذا الكاهن سوف يزداد الضغط عليه، أمّا الكاهن المتردد فسوف يسلك بحسب القانون تبريراً لذاته بحجة الطاعة.
أن نحرم الشعب من البركة هو اختزال له. في ظل سيطرة الذهنية غير اللاهوتية، قد يبدو هذا الكلام اجتهاداً نظرياً للكثيرين. لكن ماذا عن الواقع الذي يعكس هذه الذهنية:
– يزيد عدد الأبرشيات والمعتمديات الأنطاكية عن العشرين، فيما عدد الأبرشيات التي تمّ تشكيل مجلس مليّ فيها، أو مؤتمر أبرشية، لا يصل إلى عدد أصابع اليد الواحدة. فأين دور الشعب؟
– ما هو وضع مجالس الرعايا في كل الأبرشيات؟ فأين مساهمة الشعب؟
– كم هو عدد الأبرشيات التي تتشكّى من تفرّد المطارنة، أو من إحاطتهم بمجموعات من المتسلّطين أو المتنفّعين، الذين يدفعون بالأمور باتّجاه أهوائهم؟
– لماذا تستطيع كنائس رومانيا وصربيا وجورجيا وغيرها إقالة مطارنة بسبب العجز أو التقصير، فيما أنطاكية تستجدي استقالة العاجزين من أقربائهم؟ وهل كان ذلك ممكناً لو أن المجالس التي تنصّ عليها القوانين المتّبعة موضوعة قيد التفعيل؟
– على كافة مستويات الكرسي، كم هو عدد اللجان التي تضم علمانيين وتستمر في عملها حتّى إنجازه؟ أليس كل الرؤساء يفضّلون العمل مع أفراد لا لجان؟
– هل يمكننا الكلام عن أدوات إعلامية أو تواصلية في أنطاكية، في وقت لا تبث الآليات القائمة إلا أخبار الرؤساء؟ وفي أغلب الأحيان من دون حساب دقيق لأبعاد البث وتأثيره على الشعب أو استغلال أعداء الكنيسة له؟ قبل أن يُعلَم الشعب بكل لقاءات الرؤساء فلتُنشَر كل المحاضر والدراسات واجتماعات التخطيط حتى تصير الصورة كاملة. في القرن الحادي والعشرين مات الإعلام ليعيش التواصل، والتواصل يحتاج إلى اتجاهين من تبادل الرسائل. إعلام أرثوذكس أنطاكيا تلقيني وعظي وباتّجاه واحد، ما يزيد من التباعد بين الشعب والرئاسات، أي من الاختزال.
ليس الهدف هنا التركيز على وضع الشركة ولا تحميل الرئاسات وحدهم مسؤولية هذا الوضع. هناك حركات وجمعيات استأثرت تاريخياً بتمثيل الشعب هنا وثمة، في بعض الأبرشيات أو على مستوى الكرسي، وامتطى رؤساؤها المؤسسات الكنسية، فساهمت في إيصال الحالة إلى ما هي عليه. إن الاستئثار هو الوجه الآخر للاختزال. المشكلة ليست في لجنة واحدة أو في قضية محددة، بل في الروح الذي يحرّك الأمور، روح الاختزال والاستئثار والسلطة. في الكثلكة بابا واحد محكوم بشبكة من القوانين، في أنطاكيا كمّ لا يُحصى من البابوات على مستوى الكرسي والأبرشيات والرعايا والمؤسسات وحتّى اللجان في مجالس الرعايا حين تتشكّل. نموذج السلطة التي تبيح لنفسها احتكار “الرؤية” يسهل نسخه.
أين الحلّ؟ في الدرجة الأولى في التزام الكنيسة عملها الحقيقي، أي التقديس. في عهد أستاذ أساتذة الليتورجيا، لا تستقيم الأمور خارج مكانها الصحيح. كل شيء آخر هو قشور. اللجان والمجالس والمحاكم وحتى المجمع لا ثمار لهم خارج عملية التقديس التي تبدأ في هذا الاحتكاك الذي يتحوّل لقاءً في الكنيسة على الصلاة. الكلّ توقّع تمسكاً في تطبيق الأصول لا ازدياداً في التراخي، المنتَظَر كان لا أكاليل في السبت ولا ذكرانيات في الأحد، لأن القداسة هي الهمّ. فإذ بأكاليل السبوت تصير شرعية، وتُلغى الأصوام، وتعود صور الراقدين إلى الكنائس في ذكرانيات الآحاد. لا يمكن التكهّن بالآتي، طالما أن ذهنية التقليد معطّلة. في أنطاكية دعي التلاميذ مسيحيين أولاً، فآخراً ما سوف يُدعَون؟