يمكن إيجاد معنى الإكليسيولوجيا عند فلوروفسكي في آخر مقالة يوراسية كتبها في 1923 وعنوانها “العهدان“. في هذه المقالة تخلّى عن التحليل الفلسفي الثقافي متوجهاً نحو التأمّل الإكليسيولوجي الفعلي مشدداً على أنّه لا الآباء ولا المجامع يعطوننا تحديداً كاملاً للكنيسة، لأن خبرة الكنيسة أوسع وأعمق من العقيدة المحددة. الكنيسة هي خليقة جديدة وحقيقة أخروية.
الاعتراف بالإيمان بالكنيسة هو الاعتراف بهذه الخليقة الجديدة غير المنظورة غير المنفصلة عن الكنيسة المنظورة. فالكنيسة المنظورة ومن ضمنها الرئاسات والأسرار هي الإعلان التاريخي لكنيسة “اللهِ الْحَيِّ، عَمُودُ الْحَقِّ وَقَاعِدَتُهُ“.
يتميّز هذا الإعلان بالوحدة في الحرية والمحبة. يقارن فلوروفسكي بين مثالين من الوحدة التاريخية: الأول هو وحدة الروح وميزته الجرأة الحرّة الشخصية البطولية. والثاني هو محاولة خلق منظمة خالية من الخطأ بشكل سحري تلتزم خارجياً معياراً مجرداً صالحاً عالمياً. تقف وحدة الجنس البشري في الكنيسة في وجه كل البرامج السياسية الكبيرة التي ترنو إلى التغيير الإنساني، التي ما هي سوى خديعة فارغة بمكونات هذا العالم وليست للمسيح.
بالنسبة لفلوروفسكي، إن ترجمة الوحدة المسيحية إلى منظمات سياسية مثل “أخوية الشعوب” و“السلام الدائم“، ليست سوى وهم مروّع وطوباوية غرّقا رجاء الحياة الأبدية وأظهرا بشكل أساسي الطبيعة الدهرية للمثال الديني الاجتماعي. فأهداف هذه المنظمات ما هي إلا محاولات لتنظيم ملكوت الله على الأرض واستباق وقتي لليوم حين سوف يكون الله الكل في الكل. هنا الإسخاتولوجيا تُختَزَل في أنها مرحلة طبيعية من مراحل منطق التطور في التاريخ وتصغير الرجاء المسيحي إلى دائرة العالم المنظور المحدّد بانتظار التحوّل الشامل في المجتمع.
في المقابل يشير فلوروفسكي: “إن الرجاء المسيحي موجّه بالكامل نحو المجيء الثاني“. لا يمكن نشر الإنجيل كقانون لتنظيم المجتمع المثالي. تظهر صورة الله في الشخص وليس في الدولة، دون أن يعني هذا اللامبالاة أو عدم الفعالية في العالم. فالرجاء المسيحي يُعبَّر عنه في محبة القريب، لا كفعل شخصي بل كعمل عام أيضاً. يستلهم الأب فلوروفسكي مثالين هما القديسة يوليانا من دير لازارافو والقديس تيخن الزادونسكي معتبراً إياهما حملة الثقافة الدينية التي هي الشكل الوحيد لحكم الله. فهذه مهمة معيارية من الابداع الشخصي وليست نظاماً تمّ فرضه. الكنيسة الرسولية تتصرّف كمثال لمحبة الأعداء واللطف لا الاضطهاد. هذا ما يميّز الروح الكنسية الأصيلة عن برامج الاستبداد الديني–السياسي. لكن هذه المحبة تختلف عن محبة الكائنات الحية الطبيعية، إنّها ثمرة الروح التي تشكّل الكائن الإلهي – البشري. وهي ليست طوباوية إذ بترجّي المجيء الثاني اعتراف حادّ بالشر.
تعرف الكنيسة أن أبناءها لا يتصارعون مع لحم بل مع رئاسات وسلاطين لا تستطيع أن تتخيّل الله الكلّ في الكلّ قبل الدينونة. هناك أب حقيقي للكذب سوف يتمّ طرده بشكل نهائي في الأيام الأخيرة، هو يُخرَج اليوم بالصلاة والصوم والأسرار ومحبة الآخرين من دون أنانية، إنها وحدة التضحية على الجلجلة. الكنيسة المنظورة هي بذرة مدينة الله التي تُشَيَّد في التاريخ من خلال الأسرار. يستنتج فلوروفسكي أنّ طريقة التدبير الإلهي لملكوت الله هو في الخدمة الأسرارية لا في السياسات المسيحية.
في كل هذا نجد فلوروفسكي مشيراً إلى الاختلاف بين الكنيسة والعالم، بين النعمة والطبيعة، وعلاقة النعمة بين الناس والله. إن رباطات الدم والثقافة العضوية يجب إلغاؤها وتحويل طبيعتها (transubstantiated) بولادة جديدة ضمن الكنيسة. عجز اللحم والدم عن ميراث الحياة الأبدية ينطبق أيضاً على الثقافة.
يرى فلوروفسكي الهرطقة البيلاجية في التشبيه الشعبي للكنيسة بالأمة، وفي مفهوم التطوّر الطبيعي للثقافة المسيحية. قد يكون لثقافة ما أصول مسيحية لكن يستحيل امتصاص المسيحية في مجرى الدم. إن كنسنة (churching) الثقافة هي أمر لا يتحقق بمبدأ طبيعي، وليس كل مكونات ما يسَمّى بالثقافة المسيحية سوف يكون في الملكوت، بل الكثير منه سوف يكون نصيبه الظلمة البرانية. فالكنيسة هي هدف التظر الاجتماعي ولكن هدف ليس من هذا العالم. فالتمييز بين اليوناني والإسكيثي قد أزيل في المعمودية بينما الاختلاف بين العالم المبارَك في الكنيسة والعالم خارج الكنيسة ما زال موجوداً.
إن فلوروفسكي، برفضه لهذه الغواية الأوراسية تشكّل لديه التمييز الحاسم بين “العضوي” و“التاريخي” والذي طوّره لاحقاً في مقالة عنوانها “التطور والتخلّق المتوالي (Epigenesis)” كتبها سنة 1930. إن هذا التمييز هو بداية تكوّن فكر فلوروفسكي الإكليسيولوجي حيث الكنيسة هي كيان إلهي إنساني مركزه المسيح وقادر على توليد الثقافة فقط عندما تتخطّى حقائق العِرق والأمة بأساسها الأسراري ومداها الكوني وتوجهها الأخروي نحو ملكوت الله. إن هذه الرؤية تقلقل كل مخططات الحتمية وتشجّع فلسفة للتاريخ فيها الثقافات تُخلَق بشكل مستمر من خلال النشاط الروحي الحرّ للأشخاص البشريين.