طاعة الكهنة للرؤساء
الأب أنطوان ملكي
وجّه أحد الأساقفة الأرثوذكس في بلاد العم سام أكثر من رسالة إلى أحد الكهنة الذين تخطّوا حدود اللياقة في الكلام في السياسة والنشر على وسائل التواصل الاجتماعي وأمور رعائية أخرى، داعياً إياه إلى الهدوء وعدم إثارة العثرات لدى المؤمنين. لم يردّ الكاهن فأوقفه الرئيس عن الخدمة. لم يثنِ التوقيف الرجل عن الاستمرار في ما بدأه فشارك في خدمة حيث لا شركة مع كنيسته الأصلية. فما كان من رئيسه إلا أن جرّده.
في الكنيسة نفسها كهنة يتخطون حدود اللياقة في السياسة، وفي الاشتراك حيث لا شركة، وفي أمور رعائية عديدة، ولا يُجَرَّدون. ما الفرق بين الحالتين؟ الفرق هو الطاعة. ذاك الكاهن لم يُطِع فوصل به الأمر إلى التجريد. الآخرون لم يقل لهم أحد اعملوا أو لا تعملوا، فبالتالي لم يتخطوا كلمة رئيس لذا لا شائبة على وضعهم. أترى مَن الذي عمل مشيئة الأب، الابن الذي قال أذهب ولم يذهب أم الذي رفض الذهاب لكن عاد وذهب (أنظر مثل الابنين في متى 28).
المقارنة تُظهِر أن الكهنة الذين لم يجرّدوا تخطوا قوانين الكنيسة أي لم يطيعوها، أما الذي جُرِّد فتخطّى قوانين الكنيسة وكلمة المطران. وكأنّ في الحالة الأولى لا مشكلة، أمّا في الحالة الثانية فالويل والثبور. هذا واقع يتيح التساؤل حول واقع الطاعة في حياة الكنيسة ومعناها وتطبيقها.
ما لا يُناقشه أحد هو أن الطاعة مصدر بركة للمطيع بغض النظر عن ما تحمل وما ينتج عن فعلها. يزخر الكتاب المقدس بهذا التعليم، ولو لم يكن الحال كذلك لما صارت الطاعة نذراً لدى الرهبان. فالطاعة هي خروج من النفس وتخلٍ عن الإرادة الذاتية لإرادة أخرى نؤمن أنها من الله. فالطاعة يمارسها “بنو الحكمة جماعة الصديقين وذريتهم أهل الطاعة والمحبة” (بن سيراخ 1:3)، وهي تُكسِب الروح القدس “الرُّوحُ الْقُدُسُ أَيْضًا، الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ لِلَّذِينَ يُطِيعُونَهُ” (أعمال 32:5)، والطاعة تحمي من الشهوات ومن الجهالة “كَأَوْلاَدِ الطَّاعَةِ، لاَ تُشَاكِلُوا شَهَوَاتِكُمُ السَّابِقَةَ فِي جَهَالَتِكُمْ” (1بطرس 14). لكن الكتاب المقدّس حدّد بأنّه “يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ اللهُ أَكْثَرَ مِنَ النَّاسِ” (أعمال 29:5)، وبأن الطاعة تطهّر إذا كانت بالحق “طَهِّرُوا نُفُوسَكُمْ فِي طَاعَةِ الْحَقِّ بِالرُّوحِ” (1بطرس 22).
الكنيسة الأرثوذكسية كنيسة نسكية والرهبنة هي النموذج النسكي الأسمى فيها، لكنه ليس الوحيد. لذا من الخطِر استنساخه أو إسقاطه على غير الرهبان، أو حتّى على المتبتلين خارج الدير. فهذا النموذج يعمل متكاملاً في مكانه الطبيعي أي الدير، ومع مكوناته الطبيعية أي رئيس الدير والرهبان والدير بموقعه في الزمان والمكان، مع التشديد على الزمان والمكان معاً. من هنا أن هذا النموذج لم ينجح خارج هذا الإطار الطبيعي إلا مع حالات نادرة جداً، سلكت في تفاعل محدد غير عادي مع الجماعة. وفي حالة الإكليروس، فإن اختيار الرؤساء من الرهبان كان في الكثير من الأحيان عامل حماية للكنيسة وضابطاً لاتزانها، لكنه أيضاً في حالات كثيرة كان عامل تضعضع وعثرة، خاصةً متى تخلى الرؤساء عن مزاج الرهبان وتواضعهم وانفتاحهم وسعة صدرهم. فخارج الدير يفقد الراهب العديد من مقومات “هدوئيته“، لذا قد يصير غضوباً يتلافى الحوار ويتسرع في إصدار الأحكام، متشبثاً في رأيه معتبراً المخالفة له خروجاً على الطاعة. هذا الأمر لم يخفَ على الكنيسة التي في مجمعيتها قالت في القانون الرابع عشر من مجمع سرديقية على لسان الأسقف هوسيوس: “أي أسقف تسرّع في غضبه (ومَن كان مثله يجب ألا يستسلم للغضب) وثار فجأة يريد طرد قس أو شماس من الكنيسة فيجب أن يُوضَع حدٌّ فلا يصدر حكم بسرعة ضد هذا (أو فلا يصدر حكم ضده إذا كان بريئاً) ويُحرَم هكذا من الشركة” (مجموعة الشرع الكنسي ص. )
إذاً، في الرهبنة، عدم الطاعة هو نكث بالنذر. أما خارج الرهبنة فليس من كلام يفيد بأن عدم الطاعة يفقِد البركة، لأن الطاعة هي لله وللحق قبل أي إنسان. كلام الرسول بولس إلى العبرانيين واضح بأن “أَطِيعُوا مُرْشِدِيكُمْ وَاخْضَعُوا، لأَنَّهُمْ يَسْهَرُونَ لأَجْلِ نُفُوسِكُمْ كَأَنَّهُمْ سَوْفَ يُعْطُونَ حِسَابًا” (17:13)، فإذا لم يسهر المدبّرون ﻷجل نفوس الرعية فالطاعة ليست ملزِمة مع التشديد على أن التمرّد هو دينونة “لأَنَّ التَّمَرُّدَ كَخَطِيَّةِ الْعِرَافَةِ، وَالْعِنَادُ كَالْوَثَنِ” (1 صموئيل 23:15). في الكنيسة الاعتراض ممكن وإلا تحوّلت الطاعة إلى غطاء لكل المخالفات، تماماً كما هو حاصل في التدبير الذي صار حجة لكل أشكال التراخي والمسايرة. إن الرؤساء مُطالَبون بالسهر من أجل النفوس حتّى تكون رئاستهم بركة لهم ولكل مَن معهم، ﻷنهم سوف يعطون حساباً.
اﻷبوّة مطلوبة والعدل مفتَقَد والحقّ تحجبه الشهوات. إن طلب الطاعة قبل طلب الحق هو ادّعاء مبطّن للعصمة، كما أن التمرد هو طلب مبطّن لرئاسة مشتهاة. إن الوصية هي بالاتكال على الله قبل الرؤساء. يدعونا قول الذهبي الفم “المذابح التي عمت الكنائس، والخراب الذي حلَّ بالمدن، بسبب التشاحن على الرئاسة” [في الكهنوت] إلى التوبة والتعقّل والاستماع إلى صوت الرب. “هُوَذَا الاسْتِمَاعُ أَفْضَلُ مِنَ الذَّبِيحَةِ، وَالإِصْغَاءُ أَفْضَلُ مِنْ شَحْمِ الْكِبَاشِ” (1صموئيل 22:15).
يا رب يا رب اطّلع من السماء وانظر وألبِس الكهنة البِر فتتهلل الكنيسة.