المثلية بين الرعاية والقانون المدني
الأب أنطوان ملكي
إن قوة الناموس هي الخطيئة. هذا ما يعلّم به الرسول بولس. أما معنى هذا الكلام فهو أن الخطيئة هي التي تستدعي وجود القانون. لو كان كل الناس صالحين أبراراً لما كان من داعٍ للقوانين. أقلّه هذا ما تعتقد به الأديان التي ترى أن لا مكان للقوانين في الحياة السماوية. لكننا على الأرض. من هنا أن القوانين التي تحمل صفة معاقبة المخطئين تحمل في شكل أهم محاولة إصلاحهم والتخفيف من وطأة الخطأ على المجتمع الذي يسعى القانون إلى تنظيمه. ولهذا، هناك فرق بين أن يستند الدستور، أي القانون الأعلى في البلاد، إلى الأديان السماوية أو أن يحترمها وحسب. فإذا استند إليها وجب اعتباره للخطايا جرائم، وهذا موقف صار مرفوضاً منذ عصر النهضة، حيث صار واضحاً الفصل بين نشاط الفكر الإنساني والفكر الديني، مهما تقاربا، وعدم جواز إخضاع أي منهما للآخر. وعليه تمّ الانتقال من الدولة الدينية إلى الدولة المدنية، التي تحترم الأديان وتستوحيها ولا تعاديها.
يستند الحكم في الدولة المدنية إلى العقل بالدرجة الأولى. وهذه العلاقة أنتجت الغطاء الشرعي للحرية العلمية التي أتاحت للعلم ولوج أبواب كانت محرّمة. وهنا ظهر موقفان متضاربان عند العلماء، أولهما موقف رزين يستند إلى أن الكون هو عالم مخلوق ومحكوم بأمور تمّت ترجمتها في رزمة من المبادئ وأخلاقيات العلوم، وموقف آخر انتشى بما حققه العقل فصار متفلّتاً يرى في الدين والأخلاق طاغية يريد كسره.
سبب هذه المقدمة الحديث المفتوح اليوم في لبنان عن المثلية، والمبادرات الفردية لدى بعض القضاة لنقلها من حالة الجرم ووضعها في خانة الحرية الشخصية. بدايةً، ينبغي الفصل بين الموقف المسيحي الواضح في تحريم المثلية، حيث أن الرسول بولس يسمّي المثلية في رأس الخطايا، وبين الموقف المتوقّع من القانون اللبناني أو غيره من القوانين. فالكنيسة لا تستند إلى قانون الدولة لتطبيق تعليمها ولا تحكم على الدول من باب مطابقة قوانينها للإنجيل أو عدمه. قوانين الدول، في أفضل الحالات، تهدف إلى تنظيم المجتمع أما قوانين الكنيسة فتهدف إلى شفائه من مرضه الروحي وتقديسه.
فموقف الكنيسة من المثلية مستند إلى نظرتها بأن المثلية هي تجلٍ لمرض في روح المثلي على الكنيسة معالجته وحمل صاحبه إلى التوبة والعودة عن خطئه. من هنا أن تبنّي بعض مجموعات المسيحيين لزواج المثليين يناقض تماماً الوصايا الإنجيلية وقد صار سبباً إضافياً للانقسام في العالم المسيحي.
بتاريخ 2014/1/28، أصدر القاضي المنفرد الجزائي في جديدة المتن ناجي الدحداح حكماً برّأ فيه إنساناً قد تحوّل جنسياً من تهمة الجنس بخلاف الطبيعة. يظهِر المنطق العلمي هنا فجوة في القانون اللبناني. فقبل السؤال عن قانونية قرار القاضي ينبغي السؤال عن قانونية التحوّل الجنسي. هل يسمح القانون اللبناني به وتحت أي ظروف؟ مَن الجهة الطبية – العلمية – الأخلاقية التي تأذن أو تمنع؟ هنا قد يقوم مَن يقول بأن التصرّف بجسد الإنسان هو من حقوقه، وهنا باتّباع المنطق عينه، يكون الانتحار حقاً للإنسان. هل تقبل الدولة بهذا؟
ومؤخّراً أصدر القاضي ربيع معلوف حكماً بإبطال تعقّبات مستندة إلى المادة 534 من قانون العقوبات بحقّ مثليين ومتحوّلين جنسياً. وقد استند إلى موقف منظمة الصحة العالمية التي تعتبر أن المثليّة الجنسيّة ليست اضطراباً ولا مرضاً ولا تتطلب علاجاً. بهذا ضربت هذه المنظمة كل المدرسة الطبية القائمة لعلاجات إصلاح المثليين والمتحولين جنسياً والمنتشرة في كافة الدول. لذا، من وجهة نظر أكاديمية، يحق لنا التساؤل عن صحة استناد القاضي إلى هذه المنظمة بمقابل تقليد أكاديمي يعود إلى البروز مجدداً وبقوّة.
ليس الهدف مناقشة مقاربة القانون اللبناني ولا تحليل الأحكام التي تصدر عن قضاة منفردين، بل تسليط الضوء على ضحالة السند العلمي في الأحكام. فالنص الذي يورده القاضي معلوف تعليلاً لحكمه مفعَم بالعواطف ولا يحمل أي سند علمي. ما يمكن استنتاجه من القرارين المذكورين أعلاه، هو غياب عمق البحث العلمي لإسناد القرار، أو اكتفاء القضاة بالاستناد إلى بعض المواد أو التقارير الصادرة عن مراجع يغلب عليها التسييس في أغلب الأحوال.
في الفترة الزمنية الممتدّة ما بين سبعينيات القرن الماضي ونهايته، كان في الأبحاث العلمية المنشورة تركيز على دور الدين في رفض المثلية. قليلة هي الأبحاث التي لاحظت أن المسيحية ترفض المثلية لا المثليين. في موازاة هذه الأبحاث في حقل العلوم الاجتماعية، صُرف الكثير من المال على أبحاث في علوم الحياة والطب، هدفها الأول كان إيجاد هرمون ما أو تشوّه خلقي ما يؤدّي إلى المثلية أو التحوّل الجنسي. وبموازاة هذا أيضاً، كان هناك العديد من الأبحاث على مستوى الطب النفسي، لتحديد أسباب هذا التحوّل، الذي وجد العلم أنه يعود بالدرجة الأولى إلى خلفيات تربوية واجتماعية. ما لم يستطع العلم إثباته هو أن المثلية مفروضة على معتنقيها. وخلال هذا الزمن كله، شكّلت الجمعيات المدافعة عن حقوق المثليين عامل ضغط وترهيب على الباحثين والجامعات وحتّى السياسيين فتمّ ضمّ المثليين إلى مجموعات الأقليات، حتّى أنّهم صاروا واجهة الأقليات على حساب الإثنيات والطوائف والقبائل الأصلية وغيرها.
هنا نذكر تصريح المرشح الجمهوري في الولايات المتحدة الأميركية بن كارسون، وهو جراح أعصاب متقاعد وباحث متميّز، حيث قال أن المثلية هي خيار بالمطلَق. وقد دفع من رصيده السياسي الكثير ثمن هذا التصريح [1]. وهنا نذكر أيضاً آخر الأبحاث الصادرة في أواخر 2016 عن جامعة جون هوبكينز بعنوان “الجنسانية والجنس، نتائج من العلوم البيولوجية والنفسية والاجتماعية“، وفيه يثبت الباحثون وهم من المرجعيات في حقولهم أن ما من شيء يثبت أن الإنسان يُولَد كمثلي أو متحول جنسياً. ففي خاتمة التقرير الوارد في 116 صفحة، يستنتج الباحثون أن: “بعض وجهات النظر المنتشرة على نطاق واسع حول التوجه الجنسي، كمثل فرضية “المولود على هذا الشكل“، هي ببساطة غير قابلة للاعتماد علمياً. تصف الأبحاث المنشورة في هذا المجال عدداً صغيراً من الاختلافات البيولوجية بين ذوي الميول المثلية وأصحاب الميول الطبيعية، ولكن هذه الاختلافات البيولوجية ليست كافية للتنبؤ بالتوجه الجنسي“. هذا التقرير عرّض الجامعة للتهديد من قبل “حملة حقوق الإنسان” التي هددت بتخفيض تصنيف الجامعة على مؤشر المساواة في الرعاية الصحية “Healthcare Equality Index” إذا لم تبادر الجامعة إلى رفض التقرير وسحبه، لكن إدارتها دافعت عن الباحثين ونشرهم من باب التزامها بالحرية الأكاديمية.
من جهتها، جمعية مشروع التوعية الجينية (Genetic Literacy Project) أكّدت أن الاستناد إلى اكتشاف الباحث دايفد جيفن، من جامعة كاليفورنيا لوس أنجلس (UCLA)، عن تعرّض بعض الهرمونات للمثيلة (methylation) للقول بأن المثلية تأتي كنتيجة ممكنة لهذه العملية هو تبسيط وسوء قراءة لنتائج هذا البحث، كونه لم يقل ذلك [3]. الواقع أن الكثير من العيوب تشوب الاستشهاد ببعض الدراسات التي يستند إليها القائلون بأن أصل المثلية هرموني أو أن عيوباً أخرى تشوب الدراسات نفسها [4].
إن فَصل مسألة المثلية عن صحة العائلة والمجتمع خطأ كبير يسرّع بانفراط المجتمع. من هنا، أن الاهتمام بوضع مسألة المثلية في مكانها الصحيح لا ينبغي أن يكون همّ المتدينين وحدهم، إذ أصلاً العائلات غير الملتزمة دينياً هي، نظرياً، الأكثر تعرّضاً لأن ينحرف أبناؤها عمّا هو تقليدي. يكفي قراءة الشعارات التي يرفعها الناشطون خلال التحركات الداعمة للمثلية، في لبنان أو غيره، ليظهر واضحاً أن المهدد فعلياً هو المجتمع برمتّه وأن ما يحرّك هذه الفعاليات ليس مجرد دفاع عن رغبة أو حرية مجموعة من الناس بل هو التفلّت من النظام الذي يتبنّاه المجتمع. من هنا ينبغي أن يتعاطى القضاء مع هذا الموضوع من باب مسؤوليته في حماية المجتمع لا من باب النقاش المتقلّب حول حقوق الإنسان فلا تكون قراراته بتسرّع أو تحت ضغط مجموعات الدفاع عن المثليين. بالمقابل على المؤسسات الدينية والمجتمعية السعي إلى استيعاب مَن تظهر عليه الميول المثلية ورفع الوعي في محيطه لكي يلعب دوراً تربوياً ملطفاً لهذا الانحراف، لا دوراً إدانياً منفّراً.
[1] http://www.livescience.com/50058-being-gay-not-a-choice.html
[3]https://www.geneticliteracyproject.org/2015/10/12/despite-what-you-may-have-read-theres-no-gay-gene/
[4] Rebecca Jordan-Young’s Brain Storm: The Flaws in the Science of Sex Differences (Harvard University Press, 2011).