حبل التريودي المشدود
للمتقدم في الكهنة الأب توماس فامفينيس
نقلتها إلى العربية شيم حموي
زمن التريودي هو الحبل المشدود بين الإفراط والحاجة، وبين السلوك الاجتماعي والجوهر الداخلي، وبين التحرر والطاعة. عن طريق ترانيم التريودي وكلمات الآباء القديسين تشجب الكنيسة الإفراط في الطعام دون حدود ولكنها في نفس الوقت تحذر من الإفراط في الصوم لاسيما على سبيل الكبرياء. أنها لا تهدف إلى تعذيب الجسد بل إلى تغيير التفكير من الداخل، والتشجيع على تحويل الأهواء، وجعل الدماغ هو المسيطر على الغضب والشهوة، حاثة على الصمت والصلاة بنفس القدر الذي تحث فيه على أفعال الرحمة. والكنيسة تلهم الطاعة لإرادة الله في المسيح ولكل الخليقة لأن هذه هي حرية المحبة.
إن تقدم الحياة الروحية والطاعة تحت الشروط التي وضعها آباء الكنيسة والانعتاق مما هو ليس لله تأتي جنباً إلى جنب مع تطور العلاقات الاجتماعية وازدهار السلوك الاجتماعي وليسا متضادين. كما أن معيار صحة حياتنا الروحية هو بالحقيقة نجاح علاقاتنا الاجتماعية، واختبار صحة علاقاتنا الاجتماعية هو تجسيد سلام قوانا الروحية المترافقة باستنارة عيون قلوبنا الذهنية والتواضع في أفكارنا والتحرر من عبودية الأفكار بحسب كلمات الصلاة التي نقرأها بعد كل مناولة إلهية.
إلى هذا، الطاعة الحقيقية لنظام الكنيسة وقوانينها التي وضعت بوحي من الروح القدس هو التنسيق بين وجودنا وحرية كوننا أبناء الله. ومع ذلك يوجد في مجتمع المؤمنين حركات تغيير استقلالية حديثة تدمر جامعية طريقة الحياة الكنسية. وبالتالي الحركات التحررية التي هي سلسلة من التغييرات في روح الشعب والإيمان وتقليد الكنيسة الأرثوذكسية الكنسي والليتورجي. وهكذا تتطابق الحياة الداخلية مع التراخي والكسل ويُستَخَفّ بها وتُستبدَل بالنشاطات الاجتماعية. وعلى العكس، إن الخدمة والأعمال الاجتماعية تأتي في مرتبة أدنى من الحياة الهدوئية وتعد تعبيراً عن حالة روحية مزيفة. أمّا الطاعة فتعتبر انضباطاً والتفلت يعتبر تمرداً.
يرتبط الإيمان في الكنيسة الأرثوذكسية بالعبادة التي تفترض الحياة النسكية والطاعة لرئاسات الكنيسة. فالرؤساء في الكنيسة هم أولئك الذين يعلمون الحياة في المسيح لشعب الله. هكذا فإن الحياة الاجتماعية والحياة الروحية، الطاعة والحرية في الحياة وتعاليم كنيستنا ليست حصرياً تبادلية ولا مربكة ولا تقصي الواحدة منها الأخرى بل على العكس من ذلك الواحدة منها تفترض الثانية.
لهذا هم يسمون الحياة الروحية تدميراً للأعمال الخارجية، ما يدفع بالنوس إلى التحرر من كل شيء مخلوق في الرحلة إلى صلاته المستدامة باحثاً عنها من خلال الأعمال المادية والمحدودة الخاضعة لقوانين الفساد وأحكام الدولة. إنهم ينسون أن المسيح قد تجسد طوعاً خاضعاً ليس للأب السماوي وحسب بل أيضاً لقوانين قابلية الفساد وضرائب الدولة.
أخيراً فإن رجل الكنيسة ليس ببساطة من ينسحب من العالم ولا من يختار العمل في العالم ولا هو مَن يتغير بأدوات محيطه التقنية وليس مَن يرفض وسائل الراحة الحديثة، إنما هو مَن يحوّل قلبه وتجاربه بقوة نعمة الله ويعيش الخليقة بأكملها كهيكل لله. هو ذاك الذي يجعل من نفسه هيكلاً حياً لله من خلال الطاعة المطلقة والطوعية للكنيسة ويساعد من خلال حياته وسلوكه الآخرين ليصيروا هم أيضاً بدورهم هياكل حية لله القدوس.
في هذا العمل العظيم نجعل أنفسنا والخليقة من حولنا كنيسة. ونجد مساعدة فعالة في فترة التريودي بشكل أساسي في الصوم عن الطعام. لكن الصوم غير محدود بالأكل فقط، بل هو يعرض طريقة حياتنا ويعلمنا بتحديد أكثر كيف يتوجب على الناس أن يبحثوا عن الله قبل القيامة العامة. هذا ما يفسر ضرورة أن نجاهد الجهاد الحسن في الصوم وخوض ميدان الفضائل عن طريق الصوم الكبير، لا بسيف الصوم الذي يجتث الشرور من القلب وحسب، بل إلى جانبه كل أسلحة الإيمان الأخرى كالصلاة والصدقة. والصوم عن الطعام لا يعتبر مقبولاً إذا لم يترافق بصراع أقوى ضد الأهواء كما نقرأ في صلاة السحرية في أسبوع البياض.
“يا نفس إذا صمتِ عن الأغذية ولم تتنقي من الآلام فباطلاً تفرحين بترك الأكل لأن الصيام إن لم يصر علة لتقويمك فإنك تمقتين من الله ككاذبة وتضاهين الشياطين الأردياء الذين لا يأكلون بالكلية…”
إلى هذا فإن مضمون الصوم الكنسي الأرثوذكسي يحمل عمقاً واتساعاً يعبر عنه القديس يوحنا السينائي في (السلم) بقول يقرأ عادة في الأديار الأرثوذكسية خلال الصوم الكبير وهو يعطي تعريفاً شاملاً للصوم حيث يكتب:
“الصوم هو اقتسار الطبيعة وإقصاء لكل ما يستلذه الحلق وبتر لالتهاب الشهوة وقطع للأفكار السيئة وتحرر من الأحلام الليلية وتنقية للصلاة ونور للنفس ويقظة للذهن وجلاء لقساوة القلب وباب خشوع وتنهد منسحق وتحسر فرح وتهدئة للثرثرة وسبيل للسكينة وحارس للطاعة وخفة للنوم وعافية للجسد ووسيط للاهوى وغفران الخطايا وباب للفردوس ونعيمه“.
بهذه الكلمات المختصرة الموجزة ليوحنا السلمي نجد المعنى الكامل للصوم الأرثوذكسي. لن أشرح النص ولكنني أريد أن ألفت الانتباه إلى العنف ضد طبيعة الإنسان الساقطة. إن النسك يخضع الجسد للذهن المتحرر من الأفكار الرديئة ويصلي بنقاء.
هذا المقياس الداخلي للصوم يرتبط بالتوبة والتنهد المتواضع والتوبة وندامة القلب التي لا تغرقه باليأس والحزن بل تعطي فرح الأمل بأن الخطايا سوف تغفر وأن باب الفردوس سيكون مفتوحاً للتائبين، وهناك شيء مهم في الصوم هو السكينة وسط الثرثرة وأداة للصمت وحارس للطاعة.
لا تغتذي الكنيسة بالكلمات الكثيرة لا سيما الغامضة والمربكة منها إنما بكلمات الكلمة. نحن وجميع الناس من حولنا نحتاج إلى كلمات قليلة وهذه يجب أن تخرج عن صمت القلب الذي يطيع في عمق اعماقه إرادة الله الصانعة السلام.