وظيفة الأب الروحي
المتقدّم في الكهنة ستافروس تريكاليوتيس
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
المؤمنون مدعوون إلى اختيار مرشد روحي يقودهم إلى خلاص نفوسهم. لا ينبغي أن يتمّ هذا الاختيار عشوائياً أو من دون اعتبارٍ متأنٍّ. لقد زوّدنا الآباء القديسون بتفاصيل عالية المستوى عن هذه الحاجة. ينصحنا القديس سمعان اللاهوتي الحديث بن ننتبه بألاّ نسلّم قيادتنا الروحية إلى معلّم بلا خبرة شهواني يعلّمنا طريقة الحياة الشيطانية بدل تلك الإنجيلية. من ثمّ يحضّ المؤمنين على اللجوء إلى الصلاة الحارّة المصحوبة بالدموع لكي يرسل الله إليهم مرشداً غير انفعالي ورِع. بالحقيقة، أنّه لا يتوقّف هناك حتّى، بل ينصح المؤمنين بأن يباشروا إلى دراسة شخصية للكتاب المقدّس كما للنصائح العملية المعطاة من الآباء القديسين، حتّى يقارنوا ما يقرؤونه بالأمور التي يعلّمهم إياها أبوهم الروحي ويفرضها عليهم، حتّى بعد ذلك، يقبلون بغير تحفّظ كلّ ما يتوافق مع الكتاب بينما ينزعون من رؤوسهم كلّ ما هو زائف وغريب، فلا يضلّون. في الختام، يقول ما يلي: “لأن اليوم يوجد كثيرون ممن صاروا مضِلِّين ومعلمين كذبة”.
ألا نرى في هذه الأيام فعلياً ضحايا كثيرين لمرشدين مضللين شهوانيين؟ أليس هناك بالحقيقة كثيرون ممن انحرفوا عن التعاليم الإنجيلية والآبائية وعلّموا الآخرين خليطاً غيرَ لائق انفصامياً مما هو إنجيلي ودنيوي، لا يؤدّي إلاّ إلى تشويش هؤلاء الناس، لأن هؤلاء المعلمين أنفسهم مشوّشون؟ يشدد الشيخ برفيريوس، الأب الروحي القديس لزماننا، على وجوب الانتباه في اختيار الأب الروحي. وهو يعلّم بطريقة آبائية: “دلائل الأب الروحي لا تحمل صفة الانتقام ولا العقاب، بل القداسة وحدها، ولا علاقة لها بالمناهج التي يفرضها بعض الآباء الروحيون خلال الاعتراف، إذ، إمّا بسبب الإفراط في الغيرة أو الجهل، يستنفدون حدود المعاملة القاسية دون أن يلحظوا ذلك، وبدل أن يكون عملهم حسناً يرتكبون جريمة. أنا دائماً أؤنّبهم وأنصحهم بألاّ يفرضوا عقوبة قاسية بل على العكس أن يعطوا النصيحة المناسبة. هذا لأن العقوبة القاسية تزيد من مجموعة زبائنه (أي زبائن الشيطان). وبالتحديد هذا ما ينتظره هو، هذا هو ما يمكث منتظراً بذراعين ممدودتين لاستقبالهم، وإغراقهم حتّى بالوعود الوحشية. لهذا السبب، ينبغي أن يعطى اختيار الأب الروحي انتباهاً جدياً. تماماً كما نتطلّع غريزياً إلى أفضل الأطباء، كذلك علينا أن نتصرّف عند بحثنا عن أب روحي. كلا الاثنين طبيب، الأول للجسد والآخر للروح”.
صلاة القديس سمعان اللاهوتي الحديث الحارّة كانت: “أرسل إليّ رجلاً يعرفك”. هناك الكثيرون اليوم ممن، تحت تأثير وجود آباء روحين معاصرين بعيدي النظر، يميلون إلى البحث عن آباء روحيين متزينين بنعمة البصيرة، وبذلك يتعاطون مع هذه النعمة الاستثنائية التي يعطيها الله انتقائياً إلى بعض الناس، وكأنها الكمال. هذه الوسيلة غير ملائمة، بحسب ما يخبرنا البار يوحنا السلمي في كلماته التاريخية: “لا نسعيّنّ إلى أصحاب معرفة المستقبلات بل قبل كل شيء إلى أصحاب الطلعة المتواضعة المناسبين لشفاء جراحنا”. الأب الروحي ملهَم على مثال المرشد الأكثر روعة: الله نفسه. وكما اعتاد الأنبياء القول: “هكذا تكلّم الرب” كذلك ينطق الأب الروحي ويعطي النصائح. الرسول بولس يحض مسيحيي أفسس على الصلاة كثيراً من أجله حتى يُزوَّد بالكلمات المناسبة للقول: “وَلأَجْلِي، لِكَيْ يُعْطَى لِي كَلاَمٌ عِنْدَ افْتِتَاحِ فَمِي، لأُعْلِمَ جِهَارًا بِسِرِّ الإِنْجِيلِ” (أفسس 19:6).
ينصح القديس باسيليوس الكبير بأن يسعى الإنسان لإيجاد “صديق لله” يحسّ بأنّ الله يتكلّم من خلاله. الأب الروحي مدعو لأن يصير أداة للروح القدس. إلى هذا، سبب تسمية الأب بالروحي هي أنّ الروح القدس يحرّكه، وأنه هو نفسه بريء من المرض: “أيها الطبيب طبّب نفسك” (لوقا 23:4)، مَن عَبَر مراحل التطهّر واستنارة النوس والقلب بالروح القدس. على الأقلّ، إن لم يكن الأب الروحي قد بلغ هذه المراحل، عليه أن ينقل كلّ ما يعلّمه الآباء من دون أيّ تحريف أو سوء تفسير، كونه سوف يُسأل عن كل نفس ائتمنه الله عليها للاعتراف. ينبغي أن تكون أقوال الأب الروحي لكل واحد من المؤمنين صافية كالبلّور وصحيحة، من دون أيّ حوافز مخفية أو حسابات إنسانية. كما علّنا الرسول بولس: “لأَنَّنَا لَسْنَا كَالْكَثِيرِينَ غَاشِّينَ كَلِمَةَ اللهِ، لكِنْ كَمَا مِنْ إِخْلاَصٍ، بَلْ كَمَا مِنَ اللهِ نَتَكَلَّمُ أَمَامَ اللهِ فِي الْمَسِيحِ” (2كورنثوس 17:2).
يشدد البار بطرس الدمشقي على أنّ الإنسان، لكي يعطي نصائح، ينبغي أن يُسأل أولاً، وبالحقيقة أن يُسال برغبة وليس تحت الإكراه أو الضغط. ينبغي أن نشدد هنا على احترام الأب الروحي لحرية الأشخاص. ينبغي أن يتمّ الاعتراف بروح من الحرية والراحة. يشبه المعترِف برعماً صغيراً يحتاج إلى الوقت والماء لكي يتفتّح. كل الطرق الأخرى من الضغط أو الحيلة أو التعاطي العام التي قد يفرضها الأب الروحي على المعترفين مدانة من البداية. الاعتراف خدمة تتمّ بالتواضع، وليس عملية إكراه أو خنقاً لضمير الآخر. الله نفسه يكون موجوداً وهو مَن يتقبّل فيض الاعترافات. إلى هذا، بحسب البار بطرس الدمشقي، لكي يعطي الأب الروحي نصائحه، لا بدّ أن يكون قد سبق له أن تلقّى موهبة التمييز واكتسب خلال السنوات النسك “نوساً ثاقب الفكر”. عندما تتوفّر هذه الشروط المسبَقة “تنطبع النصيحة في نفس المستمِع ويدفأ بإيمانه بها، إذ يرى أن مقدّم النصيحة إنسان مطبوع على حب الخير”. إن من واجبات المؤمن، كما يخبرنا البار يوحنا السلّمي، أن يتفحّص ويساءل قائد السفينة قبل أن يتّخذه أباً روحياً، حتّى لا يتّخذ بحّاراً بدل الربّان، ومريضاً بدل الطبيب، وإنساناً شهوانياً بدل البريء من الشهوة. إلى هذا، عندما يختاره عليه ألاّ يحاول يقارنه ممتحناً حتّى ولو رأى فيه، بقدر ما هو إنسان، بعض الهفوات الصغيرة. وإلا فلا فائدة من اتّخاذ أب روحي”.
لقد أشرنا قبلاً إلى أنّ الآباء قد وضعوا مواصفات صارمة لعملية اختيار المؤمن لأبٍ روحي. إن لهذه المواصفات دلالتها وهي تهدف إلى مساعدة المؤمنين على أن يصيروا أكثر تحسساً لما يتعلّق بالمعايير التي تتحكّم بخيارهم. مع هذا، علينا ألاّ نذهب إلى الطرف المعاكس ونقول: “حسناً، ما دام لا يوجد ما يكفي من الآباء الروحيين الذين يستوفون هذه المواصفات، لا حاجة لنا للاعتراف مطلقاً”. الشيخ باييسيوس الأثوسي المستنير أعطى الجواب على هذا الأمر: “هذه مجرّد أعذار، إن لدى كلّ الآباء الروحيين سلطة، ما أن يلبسوا البطرشيل. إنّهم يقيمون السرّ (سر الاعتراف)، إنهم يحملون النعمة الإلهية، لذا عندما يقرؤون بركة المسامحة يمحو الله كل الخطايا التي تمّ الاعتراِف بها بتوبة صادقة. نحن مَن يقرر درجة استفادتنا من سرّ التوبة”.
الأسقف، وهو مَن يعطي الإذن للكاهن لأن يكون معرِّفاً، يحمل المسؤولية الأساسية وهو مَن ينبغي به أن يظهِر الاهتمام عندما يختار الأكفّاء لهذه المهمة. مع هذا، نحن لسنا مجرّدين من المسؤولية بشكل كامل، لأننا ملزّمون بالسعي إلى إيجاد آباء روحيين لهم “شَهَادَةٌ حَسَنَةٌ مِنَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ” (1تيموثاوس 7:3)، بقدر ما ينبغي ألاّ يكونوا غير أخلاقيين؛ ينبغي أن يكونوا أصحاب روح آبائية لا بابويين أوميّالين إلى البابويّة؛ ينبغي أن يكونوا أصحاب ماضٍ لا يرقى إليه الشكّ، جديين، حكماء ومتعقلين. ينبغي أن يكونوا قد درسوا إلى جانب اختبارهم للآباء الروحيين؛ أن يكونوا رحماء بالطبيعة على مثال الآب السماوي؛ بتعابير أخرى، أن يكونوا أمناء على الإحسان الإلهي (على ما يعلّمنا القديس غريغوريوس النزينزي). ينبغي ألاّ يكونوا هم أنفسهم مبتدئين في وظيفة الأبوّة الروحيّة، بل أن يكونوا قد تمتّنوا بحسبها، خلال مرحلة الطاعة لأبيهم الروحي. على أن ننتبه ألاّ نختار “مظليين” (المترجم: الذين ينزلون بالمظلّة) الذين تولّوا المسؤولية الروحيّة دون أن يقسو عودهم بصعوبة الحياة؛ الذين صاروا ربابنة من البداية دون أن يعبروا خدمة سطح المركب. يمكن أن نضيف معياراً إضافياً عندنا هو الخبرة والتتلمّذ اللذين يمكن أن نجنيهما من الذين يعترفون، طالما هم يتميّزون بالرزانة ونموذج الحياة البارّة.
على الرعاة أن يمارسوا بطوعية وحماسة مميزين شموسية الأبوّة الروحية، التي تتطلّب جهادات وتضحيات وتتخطى في بعض الأحيان القوة البشرية. الكلمات التي قالها القديس سمعان اللاهوتي الحديث لأحد البناء الروحيين مميّزة جداً: “لقد أعددناكم من خلال التعليم، لقد اختبرنا آلام الجهاد بالتوبة، لقد ولدناكم بالصبر والوخز والألم الحادّ والدموع كلّ يوم”. (بتعابير أكثر بساطة: لقد حبلنا بكم روحياً من خلال التعليم، وقد عانينا الألم الروحي من أجلكم من خلال التوبة، وقد ولدناكم روحياً بالكثير من الصبر والجهادات والألم القوي وذرف الدموع من أجلكم في كلّ يوم) (الرسالة الثالثة، 1-3). كيف لا تسلّم نفسك إلى أبٍ روحي مثل هذا، يهرِق دمه حقّاً لكي تولَد من جديد روحياً ولكي يقودك إلى حريتك الحقيقية، التي منحك إياها المسيح(غلاطية 1:5)؟ يخبرنا القديس كيرللس الإسكندري أنّ مع المسيح، حلّ سر الأبالابن مكان علاقة السيّدالعبد التي كانت قبلاً. لهذا، الأبوة الروحية، بحسب جوهرها، ما من سبب لوجودها غير قيادة الإنسان من حالة العبودية على حرية ابن الله. بالمعمودية المقدّسة، نصير بالنعمة أبناء الله، وبالاعتراف نصون نعمة التبنّي الإلهي.