من وحي القراءة اﻹنجيلية في اﻷحد التاسع من لوقا (لو 12: 16-21 )
اﻷب أنطوان ملكي
في تقليدنا الكنسي تعليم كثير عن ذِكرين: ذكر الله وذكر الموت. فذكر الله هو الصلاة واستدعاء الاسم اﻹلهي. ففي المزامير يظهر اسم الله كموضوع للصلاة: “ذكرت في الليل اسمك يا رب” (55:119) و“لذلك أعترف لك يا رب بين الأمم ولاسمك أرتل” (50:17)، أو كتعبير عن البركة “هكذا أباركك في حياتي.. وباسمك أرفع يدي” (4:63)، أو لتمجيد الله “يحمدون اسمك العظيم والمهوب. قدوس هو” (3:99). وذكر الله كان المحرّك اﻷساسي لنشوء صلاة يسوع وانتشارها بين المؤمنين. فالقديس إفرام السرياني يربط بين ذكر اسم الله واليقظة: “لأنّ ذكر الله حاضر عند المتيقّظ، وحينما يتلو ذكر الله تكفّ عنه كلّ أفعال الخبيث“. أمّا القديس إسحق السرياني فيعلّم “الصلاة بانتباه هي الصلاة التي تفضي إلى ذكر دائم لله في النفس“. القديس ذياذوخوس أسقف فوتيكي يشدّد على ذكر الله ذكراً داخلياً مستديماً. فالذكر المدعوم بالصمت يحفظ حرارة النفس وتجمّعَها وخشوعها ويأتي بالقلب إلى التوجع والوداعة. أمّا القديس يوحنا السلمي فيخبر عن أناس “تلألأوا بطاعتهم، ولا يتوانون قدر طاقتهم عن ذكر الله في ذهنهم، حالما يقفون في الصلاة يضبطون عقلهم سريعاً“. من بعدهم القديس مكسيموس المعترف يعلّم أنّه “طالما ذكر الله محفوظ فإن بذار الصلاح الإلهي محفوظة من التلف” ويتطرّق إلى ذكر الموت “ليس هناك من عمل أكثر رهبة من ذكر الموت ولا أكثر جمالاً من ذكر الله“. القديس بطرس الدمشقي يعلّم عن ضرورة حفظ ذكر الله باستمرار للتغلّب على الشياطين الذين يهاجمون، حتّى “الذين يكون فكرهم مركّزاً بالكليّة على ذكر الله“، وعليه ينبغي حفظ ذكر الله، أي الصلاة المستمرّة، كما يحفظ المرء نفسه، لأنّ كلّ ما هو حولنا يذكّرنا بالله. [لمزيد من اﻷقوال والاقتباسات اﻵبائية عن ذكر الله العودة إلى كتاب “حوار القلب – ذكر الله في المسيحية الأرثوذكسية والتصوف الإسلامي” تأليف سميرة عوض ملكي، منشورات تعاونية النور للطباعة والنشر].
أمّا ذكر الموت فهو شكلان. الشكل اﻷول يؤدّي إلى الضمير الحي ومن ثمّ إلى التوبة. مَن اكتسب هذا الشكل يرى نفسه واقفاً للدينونة أمام الله، وﻷنه لا توبة بعد الموت يصير الموت حافزاً للتوبة. هذ الذكر مع التقوى يكسِب ذكر الله ويشدد اﻹنسان للتمسّك بذكر الله والصلاة والرحمة. اﻹنسان الذي يذكر الموت كعبور إلى الحياة الفضلى يكون واقعياً، فلا يتحوّل عمله إلى طمع، ولا تتحوّل تقواه إلى توهّم القداسة. بالنسبة إليه لا يجوز أن يزيد اﻷخذ عن العطاء وهو لا يخاف أن يعطي لأنه يعرف أن كل العطايا هي من لدن الله. محبته لا تشترط المبادلة. علاقاته مع الآخرين تكمها صورة الله التي فيهم لا المصلحة التي يوفرونها.
أمّا الشكل الثاني فهو المرتكز إلى التفكير الدهري المادي الذي يرى أن في الموت انتهاء لمرحلة الحياة هذه والانتقال إلى العدم. هذا الفكر يحوّل اﻹنسان إلى كائن جشع تبرر غايته كل الوسائل ولا غاية عنده تعلو على تحقيق أكبر قدر ممكن من خيرات الدنيا ومباهجها قبل أن يدهمنا الموت. فالموت بالنسبة لهؤلاء هو نهاية بحد ذاته. إنهم لا يؤمنون بالقيامة. حتى شؤون اﻷرض صاروا يتعاطونها من خلال مصالحهم. الغني في القراءة الإنجيلية المذكورة أعلاه هو مثال صارخ على هذا. مَن تذكّر الموت بشكل مَرَضي، أي من دون ارتباطه بالتدبير اﻹلهي، يعاني من اتّزانه. لا يحتمل موت أحد، خاصةً أحبائه. الخوف يصير خبزاً يومياً له وحاكماً في الكثير من تصرفاته وقراراته. ليس سهلاً عليه احتمال المرض ﻷنّ فيه إمكانية التطور إلى الموت. اﻷلم، مهما كان بسيطاً، مرعب ما يجعل ألمه مضاعَفاً.
إن مَن يكتسب ذكر الله، لا بد أن يكتسب ذكر الموت الصحيح. طبعاً لا يعود الموت يخيفه كَحَدَث. مَن يذكر الله، يعرف أن الموت مرحلة ويتعاطى معه على هذا اﻷساس. همّه اﻷول يصير أن يكون تائباً عند وصول الموت ﻷنه يعرف أن لا توبة من بعده. كل الأمور اﻷخرى لا تعود موضوع تعلّق عنده لأنّ تعلّقه صار بما هو أبعد. كل أفعاله تصير من ضمن هذه الرؤية. هو لا يحتقر هذه الدنيا بمعنى التكبّر عليها، بل بمعنى عدم تعلّقه بها. حتّى أحباؤه، فتصير شهوته أن يراهم قدّيسين لا أن يراهم أغنياء وميسورين ومستقبلهم مؤمّن، ﻷنّه يعرف أن المستقبل الحقيقي هو في رضى الله. يؤلمه أن ينتقل أحدهم لكنه لا يرميه في اليأس ولا يحمله على إعادة النظر في نظرته إلى الدنيا، لا بلّ يثبّته في نظرته وينير له دربه. مَن اكتسب ذكر الله ومن ثمّ ذكر الموت يصير أعلى من المصالِح ﻷنّه يعرف أن مصلحته ليست عند أي إنسان مهما علا شأنه وازداد جبروته.
نقرأ في أكثر من مكان في تقليدنا أنّ الكنيسة “أبيمارستان“، أي مستشفى. وهذا صحيح بأنها مستشفى في تكامل عملها الروحي – الرعائي الذي يتحقق بانخراط أبنائها في حياتها النسكية وممارستها اﻷسرارية. يتحقق الشفاء عند المؤمن بتكامل أوجه حياته الواحدة. من أسوأ نتائج الحضارة أنها أقنعت إنسان اليوم أن له حيوات (اجتماعية وسياسية وعائلية ومهنية وغيرها). هذه القناعة هي بذور الانفصام الذي يعذّب البشرية إذ ينسى الناس أنهم على الصورة والمثال.
النسك بلا أسرار هو ديانة شرقية، واﻷسرار بلا نسك هو ديانة غربية. اﻷرثوذكسية هي الاثنان في تكامل يظهر فيه عمل النعمة وجهاد اﻹنسان. إذا ظنّ اﻹنسان أنّ ما هو عليه هو بسبب جهاده، يبطِل عمل النعمة ويكون مصيره كالغني في المثل. وإذا تراخى اﻹنسان عن جهاده تاركاً كل شيء للنعمة، يصير كالعبد الذي طمر الوزنات متوقعاً مكسباً لا يستحقه ﻷنه لم يعمل له. من هنا يُفهم كون التمييز من أعلى مظاهر النعمة.
إن كثافة اهتمامات الإنسان المعاصر، ضغط متطلبات الحياة، واﻷنظمة التربوية القائمة تنقل تركيز اﻹنسان. لم يعد الله مركز الجاذبية (center of gravity) في اﻹنسان. أرثوذكسي القرن الحادي والعشرين ليس لديه متّسع من الوقت للتأمّل، فصار يستورده بوصفات مُعَدّة. إنه لا يبحث عن شيء يقرؤه فيقرأ ما يضعونه أمامه، لذا متى قيل له أن التأمّل اﻵتي من الهند هو وصفة ناجحة يتهافت عليه لأنه لا يعرف التقليد الهدوئي الذي تختزنه الكنيسة. حتّى الأعشاب والتوابل صارت علاجات نفسية عند إنسان هذا العصر، الذي تمنعه كبرياؤه من الاعتراف. صار يتوقّع نظافة داخله من كبسولة، لأنه متعَب ومشوّش لا يستطيع أن يقف في الليل ولا أن يفتح يديه ولا أن يطلب الرحمة. وهذا انسحب على اﻷسرار. فصارت المعمودية طقساً للدخول في الجماعة، من دون الخوض بمتطلبات الانتماء إلى هذه الجماعة، والمناولة صارت كبسولة تُضاف إلى غيرها من الكبسولات. فإذا مرض إنسان وادّهن بالزيت أو تناول ولم يشفَ يفقد إيمانه ويبتعد عن الكنيسة.
لم تعد الكنيسة تصبغ العالم بل العكس صحيح. من هنا تأتي أهمية أن يعود ذكر الله والموت إلى حياة الناس فلا تكون تقواهم وهماً ولا صلاتهم هباء من الكلمات.