الاستفتاء في اللغة العربية يعني السؤال عن أمر أو عن حُكم في مسألة. ويُسمّى السائلُ المستفتي، والمسئولُ الذي يجيب هو المفتي، وعملية الإجابة هي الإفتاء، ومحتوى الجواب هو الفتوى. إذًا، الإفتاء يتطلّب وجود المستفتي والمفتي والإفتاء والفتوى. وارتبط الإفتاء عند العرب بالمسائل الشرعية أي أن الإفتاء هو حكم شرعي.
هل من فتاوى في المسيحية؟ الجواب ليس نعم أو لا. فالغرب عرف الكثير من الفتاوى. صرخة البابا أوربان الثاني في السابع والعشرين من سنة 1095 حيث دعا كل مسيحيي أوروبا إلى محاربة المسلمين، إي إلى ما سُمي بالحرب الصليبية، خاتماً عظته بعبارة “ Deus vult ” أي “الله يريدها“، هي شكل من أشكال الفتاوى. فكرة العصمة بحد ذاتها هي شكل من أشكال التحضير للإفتاء. في كل مرة يأخذ الدين دور الدولة تصدر فتاوى لتلاحق شؤونها من خلالها، وهذا ينطبق كثيراً على الكثلكة بشكل خاص، وعلى الغرب المسيحي بشكل أكثر عمومية.
لم يعرف الشرق المسيحي هذا الشكل الممنهج من الفتاوى أو اﻷحكام. وتقتضي الدقة أن نشير إلى أن ما لم يعرفه الشرق هو المفتين لا اﻹفتاء. اﻹفتاء كان دوماً بيد المجمع. على اﻷكيد، يوجد هنا وثمّة حالات خرجت عن هذا المبدأ لكنها ليست العُرف المُتّبَع. ما عرفه الشرق هو اﻹرشاد والمرتبط على الأغلب بسرّ المعمودية. يذخر التقليد بقصص عن آباء أو نساك من أصحاب الرؤى الذين يقصدهم الشعب للسؤال عن هذا اﻷمر أو ذاك، لكنهم لم ينتقلوا إلى وضعية المفتي. في أدبنا الأرثوذكسي العديد من الكتابات على شكل سؤال وجواب ولكنها كلها بين مريد ومرشد أو بين أب روحي وابنه. الفرق اﻷساسي أن اﻹرشاد يقوم على منطق نسكي هدوئي علاجي لا على منطق قانوني. نادراً ما نقرأ في كتب المرشدين في الشرق إشارة إلى قانون أو قرار مجمعي، وحتى إذا وُجِد فمرده إلى أن القوانين الكنسية هي علاجات والإشارة إليها هي للتركيز على فعلها الروحي لا النفسي أو العقلي.
لمَ هذا الحديث في أواخر 2016؟ ﻷن الوضع اختلف مع تطور وسائل الاتصالات وشبكات التواصل الاجتماعي. ارتفع عدد “العارفين“. الخط الفاصل بين المرشِد اﻹلكتروني والسفسطائي صار رفيعاً حتى يصعب تبيانه. عطش المؤمنين إلى اﻷجوبة، واستسهالهم الحصول عليها، وتشبههم بغير اﻷرثوذكسيين، جعل بعض المتفرغين للفايسبوك وغيره مرجعيات. في مقابل هذا نرى شيئاً من التقصير في ما تقوم به الجهات المسؤولة عن التعليم في كنائسنا. أغلب صفحات اﻷبرشيات هي محطات ﻷخبار أصحاب السيادة وحاشياتهم. أغلب المحتويات وعظ تقليدي وتكرار لما هو موجود بغزارة على الشبكة العنقودية. كل الصفحات تعرض اﻹنجيل اليومي والسنكسار وبعض اﻷخبار وبعض المواضيع التي لا تُنكَر أهميتها لكن من دون الالتفات إلى ما قد يكون أكثر أهمية منها. كل الصفحات تتعاطى الشؤون “غير الخلافية” ما يفسح بالمجال لصفحات أخرى، غير رسمية، تتطرّق إلى الشؤون التي تحوز اهتمام الشباب والسيدات اللواتي يجدن في شبكات التواصل الاجتماعي متنفّساً من روتينهن اليومي. يكتفي الكثيرون بالكلام عن مخاطر اﻹنترنت دون أن يحددوها، ودون أن يتكلّفوا عناء كيفية الاستفادة منها بشكل إيجابي بنّاء وروحي. أغلب الصفحات يلتزمها أفراد، فتبقى من غير تحديث ولا حديث إذا ما انشغلوا. وهنا يصير مشروعاً السؤال عن وعي رعاتنا لدور اﻹنترنت وما عليها، وعمّا تقدمه لهم من الفرص للنفاذ إلى البيوت والعقول والقلوب. والسؤال نفسه ينطبق على الجهات التي يُفتَرَض بها أن ساهم بالرعاية بشكل أو بآخر وأن تكون مرجعية بشكل أو بآخر، من المركز اﻹعلامي إلى معهد اللاهوت إلى غيرهما من المشاريع هنا وهناك. الكثير قد أُنجِز لكن أكثر منه بكثير ما يزال بحاجة إلى إنجاز.
التطور جعل الكتابة على وسائل التواصل الاجتماعي علماً ومهنة، ما يعني أنها لها معايير ليست للجميع. في الوقت عينه الانتقال إلى العالم الافتراضي فتح الباب أمام كثيرين من المحرومين من التعبير إلى إطلاق العنان لأفكارهم. الكثير من اﻷفكار والمواقف التي كانت تولَد وتموت في أماكنها صارت تبلغ آخر الدنيا قبل أن ينتهي مطلقها من عمله وقد لا ينتهي. سيل الفتاوى التكفيرية أقام الدنيا ولم يقعدها بعد. دوائر محاربة اﻹرهاب واﻷمن السيبراني تتابع أخبار الفتاوى كما تتابع أخبار التسلّح ﻷن الفتاوى سلاح ممكن استغلاله.
وفي العودة إلى الكنيسة اﻷرثوذكسية اﻷنطاكية، غياب المرجعية فتح باباً للبعض ﻷن يصيروا مفتين. تصفُّح الفايسبوك يثير الغضب أحياناً. هناك مَن لم تتخطَّ مواهبهم النسخ واللصق (copy & paste) قد صاروا دور نشر إلكتروني. وهناك أصحاب نوايا أو أمراض نفسية يتلطّون وراء أمثالهم ليقدحوا هذا ويذمّوا ذاك، ومن ثمّ يدّعون الدفاع عن التقليد واﻵباء. أحياناً تُكتَب أمور إن دلّت على شيء فعلى افتقاد كاتبها للحسّ الكنسي وللمنطق الاجتماعي وحتّى للأخلاق. كلّ هذا طبيعي في العالم الافتراضي، على ما يثبته علم اﻹنترنت. لكن الكنيسة كنيسة سواء على اﻷرض أو في الفضاء السيبراني. وفوق هذا، إن ادّعاء المعرفة والجهوزية للإجابة على كل اﻷسئلة، التاريخي والعقائدي والليتورجي والتَقَوي والنفسي والسياسي والاجتماعي، هو أمر خطير روحياً ورعائياً ﻷنه يؤدّي إلى حالة عمى حيث عميان يقودون عميان.
هذا الوضع يتحمّل مسؤوليته الرعاة، من أصغرهم إلى الرأس. ليس مسموحاً أن لا يُلجَم المضللين، أو أقلّه أن تتمّ محاولة لجمِهم. ليس مسموحاً للرعاة من كل درجاتهم بأن يكتفوا بأن تكون شبكات التواصل الاجتماعي قناة ذات اتجاه واحد يبدأ بهم، فيسكبون عليها صورهم ونشاطاتهم وما يروقهم من اﻷمور بغض النظر عن ما يجري عليها من التضليل. منذ سنوات غير قليلة كان من غير المسموح أن يكون الراعي ناشطاً في العالم الافتراضي فيما يهمل الرعاية في العالم الطبيعي. اليوم العكس صار صحيحاً أيضاً، فالراعي الراعي لا يستطيع أن يهمل أيّاً من العالمَين، حتى يكون أميناً على ما يُطلَب منه يوم الدينونة. لا فتاوى في الكنيسة اﻷرثوذكسية ولا مفتين.