لا ديناً بل إيماناً
ربيع نصور
وضعتني الكثير من الأحاديث حول الايمان المسيحي مؤخراً في حيرة من أمري، لأنها في مجملها كانت تستخدم عبارة لم أعتد على سماعها إلا في الحوارات مع غير المسيحيين، والعبارة هي “الديانة المسيحية، ديننا المسيحي، أو ديانتنا”. إلا أن اللافت هو أننا نحن المؤمنين بالمسيح تبنيّنا هذه العبارة وزرعناها في عقولنا فأصبحت شجرة متأصلة من الصعب اقتلاعها إلا عند فهمنا الصحيح للإيمان. وفي كلّ مرة كنت أحاول العودة بذاكرتي والتبحّر في كلمات الآباء وكتبهم التي قرأت لم أتذكر يوماً أن أحد الآباء استخدم كلمة دين أو ديانة وربَطَها بالمسيحية، هذا جعلني افتش ملياً علّني أكون مخطئاً، فنّبشت في الكتب الروحية وفي دفاعات الآباء القديسين وفي رسائلهم على قدر ما توفّر بين يديّ لكني لم أجد أيّاً من هذه التعابير. فما مصدر هذه التعابير وكيف يجب أن تصحّح؟
في البداية، لا بدّ من الاعتراف بوجود شرخ الآن بين المسيحيين وفكر آبائهم، وهذا الشرخ له أسبابه ودواعيه ولست هنا بصدد مناقشتها، إلا أنني آثرت قول ذلك لكي أجعل منه منطلقاً واضحاً للإجابة على التساؤل المطروح. فنحن المسيحيون الذين دُعينا على اسم ربنا ومخلصنا يسوع المسيح ابتعدنا بالحقيقة عن فكره (فكر المسيح)، وأحد أسباب هذا الابتعداد هو هذه الهوة بيننا وبين آباء كنيستنا الذين لهم فكر المسيح وقد جاهدوا حسناً ليلبسوا المسيح وارتقوا إلى ملء قامته. فبدأنا نمزج فكرنا بفكر العالم بطريقة خاطئة، بدلاً من أن نقارب فكر العالم ونرتقي به إلى فكرنا الايماني النقي قمنا بعملية معاكسة تماماً، شوّهنا فكرنا بدمجه بطريقة غوغائية انتقائية بفكر العالم المادي، فخرجنا من لبسنا الحقيقة وألبسنا ذواتنا لباساً قرمزياً يُعجب له الجميع. أصبحنا نقرأ ما يحدث في العالم ونسقطه مباشرة بدون أي تنقية أو مراجعة وبحث على ايماننا. فكانت الاتهامات العشوائية لهذا الايمان، وحسبنا هذا الإيمان كأنه ديانة فيه الفروض والواجبات متناسين أن السيد لم يقيدنا بأيّ أمور إلا بالمحبة(1) التي هي أساس عيشنا لإيماننا.
هذا من جهة، أما من جهة ثانية فعلى ما يبدو أننا أصبحنا نزين بمكيالَين أحدهما للعالم والآخر للكنيسة، في الأول نقبل أخطاء العالم تارة وننقضه تارة راضين بكل ما يواجهنا من صعاب في غيرة شديدة حتى الموت لكن في كلتا الحالتين نحيا فيه ليس كمجبَرين بل كراغبين، لأن هذا العالم لنا ولنا الحق فيه فهو بيتنا. أما المكيال الثاني فهو مجبول بالغيرة الحسنة وبالنية الصحيحة. لكن عيب هذا المكيال أننا لا نقبل فيه أخطاء الكنيسة وحتى في نقضنا لها لا نميّز بين نقض الكنيسة أي الجماعة المؤمنة بجميع أفرادها وحتى ممارستهم وبين الإيمان الذي هو بريء من العيب، فنتّجه مباشرة بالنقض واللوم والاتهامات يميناً و شمالاً دون أن نكلّف أنفسنا عناء التفكير ولو للحظة بأنّ لهذا الأمر وجهين: إما أن يكون صحيحاً وهذا يتطلب البحث والدراسة، وإما أن يكون خطأ ولنا الحق في المطالبة بالتصحيح، ولكن للأسف الشديد، في أغلبيتنا ندير ظهورنا ونترك الكنيسة وكأنها ليست بيتنا ونهمل الإيمان متذرعين بحجج كثيرة ولا نقبل أن نواجه حتى أبسط العقبات. من هنا أدعو أولاً وآخراً لأن نتذكر شيئاً هاماً جداً ألا وهو أن الكنيسة من هذا المجتمع الرديء حيث أن جميع العاملين فيها هم نتاج مجتمعاته وليسوا قديسين وملائكة من السماء، بل رغم ضعفاتهم يسعون للقداسة، فعلى هذه القاعدة يجب أن نبدأ قياسنا لما يحدث من ضعفات في الكنيسة، بذلك نستطيع أن نفرّق بين الإيمان النقي من جهة وممارسات بعض الأشخاص العاملين في الكنيسة على اختلاف مراتبهم.
بالعودة للشرخ الذي ذكرته بدايةً، فإني أجد فيه السبب الرئيسي في تبنينا لكلمة ديانة، فإن عدنا للآباء وتمعنّا ملياً سنجد تعبير “إيماننا المسيحي أو الايمان المسيحي” هو التعبير الأكثر ذكراً وهذا نابع من فهمهم لحقيقة المسيحية على أنها لم ولن تكون يوماً ديانة بل هي إيمان، مسلك أو طريقة حياة، باب للاتحاد الدائم بالمسيح الذي هو هو الأمس واليوم وإلى الأبد. إذاً، المسيحية حياة دائمة على مثال ربنا مقتدين به كما عاش فيما بيننا على الأرض راجين العيش معه في ملكوته ومتيقنين بالحياة الأبدية. ومقتدين أيضاً بمن اقتدوا به على أنهم حملوا الأمانة دون مواربة ولا غش وهذا ما تشهد عليه حياتهم المملوءة بالمحبة. من هنا، يجب على المسيحيين أن يعوا جيداً أنهم ليسوا ديناً، فيبحثون عن حقوق خاصة وامتيازات، أو يقيموا تجمعات منعزلة أو حتى ينتموا إلى تكتلات منفردة أياً كانت. بل عليهم أن يعوا أنهم أصحاب إيمان ينطق بالحياة، بالحب، بالأمل، بالفرح، ينطق بيسوع المسيح لكل العالم، بذلك يدركون كيانهم و يسعون إليه من جهة و يخلقون في الحياة المعنى الحقيقي للعيش المشترك من جهة أخرى.
مَن يبحث في الكتب ويتفحصها سيدرك أن إيماننا المسيحي ما هو إلا علاقة شخصية بالرب يسوع المسيح تتكون فيه وتبنى وترتقي في الشركة الكنسية الصحيحة، شركة المؤمنين بالعلاقة السرية العضوية التي تربط الكنيسة بالمسيح كجسد له. بعيداً عن أي مزايدات عقلية وإيمانية، خالية من رواسب الفكر الديني الغريب أصلاً عن التعاليم المسيحية.
1) هنا لا ادعو إلى التخلي عن الممارسات الكنسية بل على العكس تماماً ادعو إلى فهمها الصحيح على أنها ليست فرائض وواجبات بل هي ممارسات محبة بغاية الاتحاد الحقيقي بالله.