لقد شكّل الإنسان الدهريّ تهديدًا كبيرًا على الإيمان المسيحي منذ قرنين أو أكثر. فهو يتستّر بتصرّفاتٍ “عاديّة” بينما يعيش في عالمٍ بلا إله، حيث يتمّ تحفيز الآخرين على أن يحيوا كما لو أنّه لا وجود لإله. بحسب بردياييف، “إذا لم يكن الله موجودًا، فالإنسان ليس موجودًا“. وأودّ أن أضيف إلى ذلك أنّ الإله الكائن يجب أن يكون حاضرًا في كلّ شيء ومالئًا إياه، وإلاّ فهو ليس إلهًا وإلهٌ مزيّف. فلنرفض “الإلحاد اللطيف” الذي ينتهجه الإنسان الدهريّ ونحيا لله دائمًا وفي كلّ مكان.
لقد تكلّم العديد من الكتّاب الأرثوذكسيين حول طبيعة العالم الدهريّ الذي يشكّل الهيئة المحدّدة للحداثة. أغتنم الفرصة هنا لأجري مقارنةً صغيرةً بين الإنسانين الدهريّ والمسيحيّ.
الإنسان الدهريّ يؤمن بوجود إلهٍ، لكنه يؤمن أيضًا أنّ وضع العالم وصيرورته يرتبطان بأفعال البشر. أمّا الإنسان المسيحيّ، فيؤمن بوجود إلهٍ، وبأنّ كلّ شيء بين يديه.
يؤمن الدهريّ بالتطوّر، أي أنّ الحياة تتغيّر وتتحوّل، بواسطة السلوك الصحيح للإنسان، نحو الأفضل. كلّ اكتشافٍ جديدٍ يتّكئ على كتفي اكتشافٍ سبقه، وهكذا تتحسّن الحياة نحو الأفضل. أمّا المسيحيّ، فيؤمن أنّ عمل الإنسان يمكن أن يبدّل ظروفه لكنّه لا يغيّر الإنسان. الإنسان الحديث ليس أعلى شأنًا من الذين سبقوه، والخير ليس نتيجةً للتطوّر.
يؤمن الدهريّ بقدرة البشر، وبأنّ استعمال العقل بمنطقٍ في أيّ ظرفٍ سيؤول إلى نتيجةٍ أفضل. أمّا المسيحيّ، فيؤمن بالله، لكنّه يشكّك بصلاح الإنسان، فحلول الإنسان دومًا ما تكون محلّ تساؤل ومعرّضة للفشل.
بالمطلَق، يؤمن الدهريّ بسبيل التطوّر السهل. وحتى لو اعترته بعض العوائق، يعتقد أنّ السلوك فيه سيؤدي في النهاية إلى عالمٍ أفضل، وحتى إلى عالمٍ كاملٍ تقريبًا. إلاّ أنّ المسيحي، إذ يؤمن بالله، يثق بأنّ حصيلة التاريخ ملكُ الله لا الإنسان. إذًا، حتى الصلاح الذي يصنعه الإنسان يدينه إلهٌ صالحٌ هدفه دومًا أبعد ممّا يمكن أن نطلب أو نفكّر.
الدهريّ، ورغم الإخفاقات المتنوّعة، يعتقد باستمرارٍ أنّ مجرّد خطةٍ بديلةٍ كفيلةٌ بتحسين الوضع، فالمشاكل كلّها تُحلّ بالتسوية والمفاوضة والرغبة بالتغيير. أمّا المسيحيّ، فيدرك ميل البشرية نحو الخطيئة، ويعرف أنّ الأمور ستفشل وتتبدّد من دون الله، وأنّ وضع البشر يمكن أن يتحسّن فقط بواسطة الثقة بالله والطاعة له، وهذا التحسّن يأتي دومًا كمعجزة من الله.
لا يؤمن الإنسان الدهريّ بعدم معصوميّته، ولا يتعلّم من التاريخ، بل يطمح مرارًا وتكرارًا إلى نجاحٍ لم يصل إليه أحدٌ قبله. ونجاحه (مثلاً في معالجة المرض…) يُترجم سياسيًّا بشكلٍ تلقائيّ، والخطأ من وجهة نظر السياسة يُستأصل بالسهولة التي يُستأصل بها الملاريا. أمّا المسيحيّ فيعلم أنّ المشاكل لا تكمن في العالم بقدر ما تكمن فيه. وإذا لم يتغيّر الإنسان بواسطة إلهٍ صالحٍ، سيكون الصلاح في العالم ضئيلاً. الدهريّ يعلم كيف يعالج الملاريا، لكنّه لا يستطيع أن يشارك هذا الخير مع العالم. إنّ العالم (العالم الثالث) يموت، وقد كان يموت دومًا، والدهريّ عاجزٌ لأنه يفتقد إلى الصلاح الحقيقيّ.
إنّ المسيحيّ مهمّش بشدّة في عالمنا الحديث، يعتبرونه قطعةً أثريةً من الماضي. إلاّ أنه ليس قطعةً دينية، فالحقيقة التي يعرفها أبديّة تنطبق على أسواء العالم بقدر ما ينطبق أيّ جزء من حقيقة الله.
على هذا الجيل أن يفهم ما يعنيه أن يكون الإنسان مسيحيًّا وأن لا يساوم مع الإنسان الدهري. الله صالحٌ ويريد الخير للناس أجمعين. هو ليس نفعيًّا يتمنى الخير الأعظم للعدد الأكبر، بل يريد الخير لكلّ نفس.
عسى أن يكون المسيحيّون منظورين وأمينين لملكوت الله في كلّ مكان.