الكنيسة ليس ما نفكّر به. لقد أخذوا أطفالنا الرضع عن ثدي والدتهم الكنيسة الأرثوذكسية. عّلمونا أشياء أخرى. أعطونا حليباً اصطناعياً للشرب. قطعونا من جذورنا. فصلونا عن التقليد. أبعدونا عن وطننا. جعلونا غرباء في بلادنا. صمموا على أن ننسى لغتنا الأم، لغةاﻷرثوذكسية واللغة الأم للبشرية.
مَن؟ أولئك الذين أرادوا أن يخلّصونا بالقوة: التنويريون، الدعائيون، البافاريون، الماسون. جنباً إلى جنب معهم كلّ مَن يرى أن أضواءهم نورٌ وثقافتهم تقدّمٌ. وهكذا على نحو أعمى، من دون تمييز روحي، أخذنا كل شيء منهم، على أنه متفوّق وأفضل وأكثر تحضراً، في الفن والقانون وتنظيم الحياة والهندسة المعمارية والموسيقى، وما إلى ذلك. لقد عذّبوا كائننا. رفضوا تنظيمنا وزرعوا ضمنه أعضاء غريبة. من ثم ازدرعوا قسراً أعضاء جديدة، ومع السلوك الشخصي يتجلى الطابع الأساسي للعملية الموجَّهة إلى شعبنا.
ليست الكنيسة ما نعتقد أنها عليه. ليست ما نهاجم ولا ما ننوي هدمه. ليس للأرثوذكسية أي علاقة بالقرون وسطية (medievalism) ولا بالباطنية (mysticism) ولا بالكهنوتية (clericalism) ولا بالسكولاستيكية كما نسمع. إن الذين تربوا في الغرب يعتقدون أن للعبارات المعاني نفسها في الشرق كما في الغرب. إنهم يحاولون تحريرنا من مرض لم نكن مصابين به يوماً. باﻷحرى إنهم يسقموننا بعلاجاتهم. وهم يعقّدون اﻷمور بحلولهم.
نحن لا ننكر وجود ضعفات بشرية. لقد كان في الماضي ولم يزل هناك أشخاص ضعفاء ساقطون ومرتدّون. هذا ما يجعل اﻷرثوذكسية أكثر جدارة بالمحبة ويظهر رحابة صدرها المحِبّة وحقيقة رسالتها.
اﻷمر الأهم هو معرفة الكنيسة اﻷرثوذكسية التي نجهلها. أن نعرف قلبها الواحد غير الملوّث غير الفاسد والطاهر. وأنه كياننا اﻷكثر عمقاً واﻷكثر حقيقية، وأن علاقتنا بها أكبر مما نظن، وأن علينا أن نعرفها بعمق حتى من دون أن نفهمها، وأننا نجد أنفسنا ننكرها عن غير وعي ﻷننا لا نعرف حقيقتها وبشريتها اﻹلهية ومجد تواضعها.
كل ما هو ذو قيمة ويسعى إليه الساعون الحقيقيون موجود في اﻷرثوذكسية، لا كفتات جزئي أو وهمي، بل كامل بالعمل والحق. إنها تناسب الأطفال، كما السيدات العجائز، كما الباحثين اﻷكثر تطلباً الذين يريدون أن يروا الله على قدر قدرتهم، ولكن كما هو الله.
اﻷرثوذكسية لاهوت يصل إلى حد اﻹنكار، إنكار لا يتخطّى حيث يستطيع اﻹنسان العبور. إن نعمتها غير مخلوقة وغير مرئية وغير قابلة للفهم، تأتي إلى اﻹنسان في الخلق مجددة ومؤلّهة. اللاهوت ليس السكولاستيكية، والحياة الروحية ليست التزمّت. بمعرفتنا اﻷرثوذكسية وما هي عليه حقاً، نصير في حالة اتّزان، يمكننا أن نرى الجميع بمودّة، نقبل المساعدة من أي كان وبنعمة الرب نساعد أياً كان. أن تصير أرثوذكسياً لا يعني أن تصير منغلقاً بأي شكل، بل فاتحاً نفسك بطريقة ما، بالغاً إلى علو صليب المحبة.
لو كان اللاهوت ما يظن الكثيرون أنه هو أو ما يتمّ تدريسه في الجامعات الرسمية، أو لو كان تقوى خارجية أو كما يتمّ تعريفه على أنه تقوى عقيمة، فأعترف بأنه لم يكن عندي ما أقوله، ولَمَا كان عندنا رجاء وربما لا مسؤولية. ما أقوله لكم اﻵن معزٍّ وصعب في آن:
إن موقعنا متميّز وخطير. لقد حدّده الذين ولدونا ولا يمكننا أن نتصرف بحسب النزوات. نحن كأرثوذكسيين لا يمكننا أن نتصرّف كمفلتين من العقاب كاﻷطفال، متّكلين على بعض اﻷعذار، أو ما هو أسوأ لا يمكننا أن نكون متغطرسين. ما دام الذين سبقونا قد عاشوا ودُفنوا في هذه اﻷرض مرتجلين بحماس، فعلينا أن نتابع في ارتجالهم. إذا كانوا قد عاشوا بشكل مختلف وقرروا الموت وإذا كانت طريقة حياتهم قائمة على قرار الموت، إذا كان خلقهم وأخلاقهم ومنطقهم وأعمالهم وشكلهم وحركاتهم، المرئية وغير المرئية، كلها مولودة من الموت، للتضحية بأي شيء لكي يُولَد ما هو أفضل، طبيعة أخرى وتركيبة أخرى، للآخرين ولنا جميعاً، إذا لا نستطيع اﻹرتجال وكأن لا محاسبة ولا أن نكرر اللعب بالنار.
لو لم تُبنَ اﻷيّا صوفيا بالشكل الذي هي عليه لتَسَع كل الناس. لو لم يوجَد الجبل المقدس بالشكل الي كان عليه ليخلص كل البشر ويسلكون بأخوّة. لو لم يعلّم القديس غريغوريوس بالاماس بالشكل الذي علّم به، ملخِّصاً خبرة اﻷرثوذكسية وحياتها ومبيداً عطش معاصريه الكعذّبين، لو لم يجاهد الكثيرون ممن لا نعرفهم ويبكوا ويصبروا ويضحّوا على الجبال والجزر وافي المدن، لو لم تكن البشرية التي تذبحكم في موسيقاهم، لم لم يعملوا على إعادة بناء الرومية كالقديسين قوزما وماكريانيس، لو لم يكن كل هذا في دمنا، لكنا قبلنا وعملنا كل ما يصل إلينا.
لكن اﻵن اﻷمر مختلف. اليوم نحن في مكان وزمان مقدسَين، لا نستطيع أن نكون تافهين. نحن لا ننتمي لذواتنا، بل للذين ولدونا وللعالم كله. نحن مدينون إلى إرث روحي. ما من عذر ينقذنا. حتّى ولو تعلّمنا كل شيء في مدارسنا، القديم والجديد والمقدس والموقّر، لا يمكننا أن نعذر أيّاً كان لتخلّيه عن دَيننا أو نسيانه له. لا يمكننا أن قدّم أي عذر.
سوف يكون علينا أن نواجه الذين سبقونا والذين سوف يتبعونا. سوف يلقون سلوكنا الزائف في أوجهنا، ﻷن الشباب سوف يستيقظون يوماً وسوف يصرخون لا للكذب لا للاصطناع والتزييف والتزوير والخيانة المفروضة والمصبوبة بشكل إجرامي في البرامج التربوية ووسائل القراءة المساعِدة والبث المتعدد الوسائط.
إن الذين سوف يصرخون “لا” سوف يمتلكون طاقات غير محددة تتخطاهم. أرواح الماضي واﻷطفال الجائعون في كل العالم سوف يكونون معهم. الموجود هنا يخصّ الجميع. ما نكتسبه يحدد سلوكنا.
إن الحق الذي تجسّد من الكلية الطهارة الدائمة البتولية مريم ومات وقام من بين اﻷموات ويقيم العالم والكنيسة كجسد للمسيح. إن النعمة تقدّس كيان البشرية بأكمله. الكنيسة تعمّد كل الشعوب في أعماق سر اﻵب والابن والروح القدس الذي لا يسبَر غوره، تقدّس كل الحواس.
هذه النعمة دخلت في نخاع شعبنا المؤمن، التي تحيك حياتنا وتجعلها محاكة فوق بكل مكونات المادة. إن جسد حياتنا الروحي بأكمله عنده رسائل تخصّ كل واحد، وهي كلها تنتظر إلى نهاية اﻷرض. ونحن مديونون للجميع إذ قد وُضِعنا بالضرورة من قبَل الذين ولدونا بحسب الجسد والروح على مستوى محدد. لا يمكننا أن ننكس العلم أو نرتاح في مكان آخر أو بطريقة أخرى، ما عدا التضحية على الصليب.