نواجه اليوم شكلاً جديدًا من حرب الأيقونات، يتمثّل بالضغط الذي يمارسه المجتمع الدهريّ على الكنيسة لكي تتبنّى مقاييسه وأفكاره، لتصبح بدورها دهريّةً.
تشكّل الدهريّة خطرًا كبيرًا على الكنيسة. فبدلاً من أن تساعدَ الكنيسةُ العالمَ ليصبح مثلها، يحاول العالم أن يسيطر على الكنيسة ويجعلها مثله. وبالنتيجة، تُبقي الكنيسة على أشكالها الخارجيّة، لكنّها تفقد إيمانها. لذلك ستعاني ممّا قاله القدّيس نكتاريوس حين كتب عن البابويّة:
“لقد خسرتْ الكنيسة الغربيّة حريّتها الروحيّة بسبب عقيدة العصمة، خسرتْ زينتها، تزعزعتْ أساساتها، حُرمَتْ من جمال نعمة الروح القدس ومن حضور المسيح. تحوّلتْ من نفسٍ وروحٍ إلى جسدٍ ساكن“.
إنّ جوهر الدهريّة هو التركيز على الإنسان anthropocentrism، بينما جوهر الكنيسة هو التركيز على الإنسان الإله theanthropocentrism. إذا خسرتْ الكنيسة طبيعتها هذه أو حدَّتْ منها، تتحوّل إلى مؤسّسة دينيّة أو إلى واحدةٍ من ديانات الأرض.
ينظر الدهريّون إلى الكنيسة على أنّها إحدى الديانات العالميّة، لا على أنّها الحقيقة الوحيدة التي تخلّص الناس في المسيح. ولهذا يحاولون مساواة الكنيسة الأرثوذكسيّة بالأديان الأخرى، ما يؤدّي إلى قيام دينٍ موحَّد، نتيجة تآزر الأديان كلّها. لا يسعى هذا الدين إلى الحقيقة التي تخلّص، بل إلى السلام في العالم. وبالطبع، يخدم هذا الطموح مصالحَ القوى العالميّة المعاصرة، التي تريد أن يخضع الناس لسلطتها وأن يكونوا في سلامٍ (أي مقموعين)، عن طريق تضافر الأديان.
وبهدف التعايش السلمي، لا يعترف الأرثوذكسيّون بالمسيح في اللقاءات بين الأديان. إنّنا نحتمل أن تُصنَّف الكنيسة ديانةً سماويةً إلى جانب اليهوديّة والإسلام، لكنّ تعليم العهد الجديد والآباء يشدّد على أنّ مَن لا يؤمن بالثالوث القدّوس وبتجسّد الله الكلمة هو ملحد: “من لا يكرِّم الابن لا يكرِّم الآب الذي أرسله” (يو 5: 23)، “الذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله” (يو 3: 36). ويقول القديس باسيليوس الكبير: “من لا يؤمن بالابن لا يؤمن بالآب“.
لقد سبق وبدأت محاكم “اختبار المياه“، حيث يقال للمسيحيّين إنه لا يمكنهم أن يتبعوا ضميرهم بعد الآن. وعلى حدّ تعبير رئيس الوزراء دايفيد كاميرون، فإنّ “المساواة تفوق كلّ شيء“. يُسمح لنا، إلى حدّ الآن، ببعض الحرية، لكن ماذا سنفعل عندما يأتي وقتٌ – وهو حتمًا سيأتي – حيث يَطلب منّا الدهريّون لا أن ننصاع فقط، بل أن نؤيّد بنشاطٍ ابتكاراتهم. “لمَ قد يُحرم زوجٌ من الجنس ذاته من فرصة الاحتفال بحبّهما في إكليلٍ أرثوذكسي جميل؟ هذا ليس عادلاً“. هذا السيناريو ليس غريبًا، إنّه نفوذ “حقوق الإنسان” والتصرّف كضحيّة في عالم اليوم.
في حدثٍ نُظِّم مؤخّرًا في أثينا (25 أيار 2016)، قال المطران نيقولاوس متروبوليت ميسوغيا ولافريوتيكي:
“نسمع اليوم عن اضطهادٍ مخادعٍ جدًّا يتعرّض له كلّ من الإيمان والكنيسة، والأمر يحصل بالفعل. تتردّد على مسامعنا عباراتٌ جميلةٌ جدًّا في الظاهر، مثل التعدّد الثقافي، التعدّد الديني، حقوق الإنسان، ومناهضة العنصريّة. إلاّ أنّها عباراتٌ ماكرةٌ بالحقيقة، فبينما توحي لنا بالحريّة، تكشف في الجوهر رفضنا خطاب الكنيسة وشهادتها، وسعينا إلى استبعادهما بأسلوبٍ حَذرٍ لكن منهجيّ“.
ومنذ بضع سنوات، كتب البروفيسور فلاسيوس فيداس حول المشاكل التي واجهت الكنيسة في القرن الرابع فقال: “رابعًا، اتّخذ بعض الأساقفة الأرثوذكسيّين موقف المجاملة والمساومة تجاه الأساقفة الآريوسيّين، إمّا لخوفهم من الإجراءات القاسية التي قد تتّخذها الدولة في حقّهم، أو لأنّهم غير قادرين على فهم العمق اللاهوتي لضلال الآريوسيّين وهرطقتهم، أو للسببين معًا. وقد سمحوا بالتالي باشتراك الأرثوذكسيّين والآريوسيّين في الليتورجيا“. إذا ما استبدلنا لفظة “آريوسيّين” بلفظة “دهريّين“، وأجرينا التعديل اللازم، نرى فيداس يَصِف وضعًا غير بعيدٍ عنّا، إلاّ في حال تبنّينا موقفًا ثابتًا في دفاعنا عن الإيمان والاكليسيولوجيا.