ليست الهرطقةُ مجرّدَ خطأ فكريّ، وليس الهراطقةُ مجرّد مخطئين في إيجاد الحقيقة، فما يحصل في حالتهم أكثر عمقًا وأهميّة. هُم يعرفون الكتاب المقدّس حرفيًّا، وغالبًا بشكلٍ باهر، لكنّهم يفتقدون إلى أمرٍ أساسيّ، وهذا ما يميّزهم بشكلٍ جوهريٍّ عن الآباء: فَهُم يفتقدون إلى خبرة الروح القدس التي يملكها الآباء، وإلى الاستنارة الداخلية للروح، وذلك لأنّهم لم يسلكوا في مسيرة الكنيسة الشفائيّة.
خارجيًّا، قد يكونون بلا عيبٍ من الناحية الأخلاقية، لكنهم لا يملكون الروح في داخلهم. لذلك لا يعاينون ما يعاينه الآباء في الروح، ولو كانوا متقدّمين بشكلٍ مدهشٍ من الناحية الفكرية.
في الواقع، لا يخفى على أحدٍ أنّ جميع الهراطقة العظماء أبهروا العالم بمعرفتهم الواسعة و“حكمتهم“، وما زالوا يفعلون ذلك اليوم! إلاّ أنهم لا يملكون قلبًا نقيًّا، ولم يتحوّلوا إلى هياكلَ للروح القدس.
إنّ الهرطقة تفترض غيابًا للعلاج الشفائي أو ضعفًا فيه. ولهذا السبب، لاهوتُ الهراطقة عقلانيٌّ، هو فرضيّة علميّة منطقيّة ولعبة قياسيّة. ما يفتقد إليه الهراطقة هو خبرة التألّه التي زيّنت الآباء. لهذا لا يستطيعون أن يميّزوا الحقّ من الخداع في المواقف الدقيقة، إذ ليسوا قادرين على رؤية الحقّ في داخلهم، ولا يعرفونه في قلوبهم. من دون مركبةِ “الصلاة الذهنية“، لا يمكنهم الوصول إلى “التمجيد“، الذي هو كشف “الحقّ كلّه” عبر الروح القدس.
وهنا تظهر مأساة الهراطقة كلّهم، بخاصّة رجال الدين الهراطقة. فهؤلاء يريدون أن ينيروا وهم غير مستنيرين، يريدون أن يشفوا وهم غير مشفيّين، يريدون التكلّم باللاهوت وهم ملحدين (أي يعيشون بعيدًا عن الله الحقيقيّ). يمكننا تشبيه الهراطقة بالدجّالين والنصّابين المملوئين غشًّا. إلاّ أنهم أسوأ منهم: إنّهم أطباء يقدّمون علاجًا شفائيًّا مميتًا، ويقتلون الناس من الأبدية.هم صيادلة يبيعون أدويةً مسمَّمةً وفاسدةً وخطيرةً على الصحّة العامّة، لا على المستوى الجسديّ، بل على المستوى الروحيّ والأبديّ.