بصرف النظر عن المعاناة التي يتسبب بها فالألم البدني أو العقلي أو الروحي،الذي دخل حياة الإنسان من خلال المعاناة الإلهية،لديه أيضاً آثار إيجابية على حياة اﻹنسان اﻷرضية ونموه.
من السهل أن يحكي المرء في فلسفة اﻷلم أو ﻻهوته، ولكن من الصعب اتّخاذ الموقف المناسب تجاه الألم عندما يكون هو نفسه في مواجهة ألم عظيم. وأعتقد أن الحديث عن اﻷلم يكون افتراضياً جداً ما لم يكن المتكلّم قد اختبره شخصياً. أنا أفكّر بجميع إخواننا في جميع أنحاء العالم الذين يعانون الألم الجسدي أو النفسي أو الروحي.
من الناس مَن يختبر الألم الجسدي كنتيجة للمرض أوالمشقة أو الجوع. وغيرهم يختبرون الألم النفسي عندما يتعرضون للاضطهاد أو الذم، أو مَن هم مكروهون أو مهمَلون من الذين يحبونهم، أو والأشخاص الذين يعانون من رغبات لم تتحقق أو مرض أو وفاة أحبائهم، من بين أمور أخرى. أمّا الألم الروحي فيختبره جميع أولئك الذين يحبون الله والإنسان ولكنهم يرون أن خطاياهم تحزن الله وتسيء إلى صورة اﻹله–اﻹنسان.
كيف دخل الألم حياتنا؟
بطبيعة الحال، لم يدخل الألم حياتنا لأن الله أراد ذلك ولكن لأنه سمح به عندما فقد اﻹنسان مصدر الحياة، أي خالقه، من خلال عصيانه الأناني. بتخليه عن حالة عدم اﻷلم التي كانت في ملكوت الله، حيث لم تعد الحياة الحقيقية سائدة، وجد اﻹنسان نفسه في حالة أخرى تحت سيطرة حياة الاضمحلال مكبلاً بالموت واﻷهواء والخطيئة.
اﻵثار النافعة للألم
في هذه الحالة الجديدة، بدا للموت والألم معنى إيجابي، كمثل الأثواب الجلدية اﻷخرى التي ألبسها الله ﻵدم وحواء لتعزيتهما في منفاهما عند خروجهما من الفردوس. فقد يتواجد الشرّ على الأرض إلى اﻷبد إن لم يضع الموت حدّاً له.
يحذرّنا الألم الجسدي بأن هناك مرض فنطلب العلاج المناسب. يعرف اﻷطباء منفعة اﻷلم. على المنوال عينه، كل أشكال الألم تساعدنا على أن نعرف هشاشتنا وبالتالي نعرف حدودنا البشرية، وبهذا تنقينا من كل أشكال تأليه الذات. يساعدنا الألم على أن نراجع وجهة حياتنا ويعيدنا إلى مركزه الصحيح الذي هو الثالوث اﻹلهي. يساعدنا الألم على صَقل محبتنا لله حتّى نحبه هو لذاته لا للهبات التي يعطينا إياها، كالصحة والسعادة العائلية.
وهكذا، فإن أيوب المجرّب بمرارة، بمواجهته للمرض وغيره من التجارب التي لا تُحتمَل، أظهر أنه يحب الله لمَن هو عليه وليس لعطاياه. فقد أحب الله عندما كان مرمياً في الوسخ مغطى بالقروح على نفس قدر محبته له عندما كان في البحبوحة.
يساعدنا اﻷلم أيضاً على أن يكون أن نكتسب موقفاً أكثر صحة من البشر اﻵخرين الذين غالباً ما نزدريهم ونظلُمهم ونؤذيهم بتصرفنا اﻷناني، عندما نكون أنفسنا بلا ألم. عندما تتحوّل اللذة التي بها نستغلّ الناس اﻵخرين إلى عذاب نفهم كم أنّ لذتنا محرّمة وهدّامة. في الكثير من الحالات استطاع الناس الذين اختبروا آﻻم كثيرة من أن يكتشفوا ذواتهم التي خلف اﻷقنعة وكانوا ممتنين لله لمنحهم عطية اﻷلم، حتّى ولو كانت اتّخذت شكل المرض المؤلم الذي لا شفاء منه.
في حالات أخرى ساعد اﻷلم أشخاصاً متقدمين روحياً على بلوغ مراحل أسمى من الكمال الروحي، ليساعدوا ويعزّوا الكثير من النفوس المحتاجة. أحد اﻷمثلة هو القديس الشيخ باييسيوس الذي قَبِل بفرح حقيقة أنه مصاب بالمرض “الملعون” (السرطان)، مؤمناً أن المرضى في العالم يتعزّون لمعرفتهم أن الرهبان أيضاً يعانون. وهكذا صار المرض الملعون بركةً بالنسبة إليه.
الفهم اللاهوتي للألم
غالباً ما يردد الناس المتألمون السؤال “لماذا يا رب؟ لماذا؟“. لا أرى أن هناك جواباً بشرياً لهذا السؤال. هناك جواب واحد: الله شاركنا ألمنا في صليب المسيح. نحن نؤمن بإله مصلوب، أي أنه إله أذِلّ وأُهين وعُذّب. على جامع عمر في أورشليم مكتوب عبارة: “ﻻ يجدفّن أحد بالقول أن لله إبن“. ليس بعيداً من هناك ترتفع تلة الجلجلة حيث تألّم ابن الله من أجلنا. نحن لا نستحي بالقول بأننا نؤمن بأن اﻹله الذي صار إنساناً صُلِب وقام، نؤمن بإله لمحبته غير المتناهية اشترك في مرضنا ألمنا واتّخذ جسدنا المائت المتألّم لكي يجعله غير مائت. يستحيل اﻹيمان بإله يصعب الوصول إليه وغير اجتماعي، إله يستحيل اﻹحساس به وقبوله. قالت لي مرة إحدى طالبات الثانوية: “أحترم سقراط لتقبّله موته باستقالة فلسفية، لكني أحب المسيح لموته ميتة بشرية“. ﻻ ننسينّ صرخة المسيح: “إيلي إيلي لماذا تركتني“.
إن حساسية الله نحو ألم مخلوقاته يشترك بها شعب الله الذين يؤلمهم كل سوء أو ألم قد يلمّ بخلائق الله. يقول القديس اسحق السرياني: “القلب الرحوم هو قلب يحترق من أجل الخليقة كلها، البشر والطيور والحيوانات والشياطين، ومن أجل كل ما هو مخلوق. وبتذكرها أو رؤيتها تسكب عينا اﻹنسان الرحوم دموعاً غزيرة. إن الرحمة القوية والشديدة ومعها شفقته الكبيرة تمسكانبقلبه وتذلاهحتى لا يستطيع تحمل سماع أو رؤية أي جرح أو الحزن الطفيف في الخليقة. لهذا السبب هو يقدّم صلاة دامعة باستمرار حتى من أجل الحيوانات غير العاقلة، ومن أجل أعداء الحقيقة وحتّى من أجل أولئك الذين يؤذونه، حتى يكونوا محفوظين ومستحقين للرحمة… إن قلبه يكون مملؤاً بالرحمة كتلك التي تملأ قلب الله “(عظة 81).
بالحقيقة، إن الرحمة التي يشعر بها القديسون نحو خلائق الله ليست تعاطفاً سلبياً كالذي يحس به البوذيون بل هي مشاركة فعّالة في ألم إخوانهم. فاﻷبّا أغاثون مثلاً أراد أن يجد أبرصاً يبادله جسده فيعطيه جسده الصحيح.
في المطلَق، الألم سوف يبقى دائماً سرّاً مرتبطاً بشدة بحرية اﻹنسان غير المقيّدة. الآن هذا السر مكشوف جزئياً وحسب ومن جهة اﻵخرين. عندما تنفتح أعيننا بشكل نهائي، سوف نرى بوضوح أكبر. فنقف إلى جانب إخوتنا المتألّمين باحترام وانتباه ومحبة أخوية وتفهّم ولنسأل ربّنا المصلوب ليعطينا النعمة والاستنارة والقوة لمواجهة كل أنواع الألم التي تسمح محبته بأن نعاني منها في حياتنا اﻷرضية على طريقنا إلى الملكوت.