“بحسب اﻵباء…” من عادة الكنيسة صياغة التعابير العقائدية مبتدئة بهذه العبارة.من أهمّ اﻷمثلة قرارات مجمع خلقيدونية التي تبدأ بالتحديد بهذه العبارة، قرارات المجمع المسكوني السابع حول اﻷيقونات حيث يذكر بطريقة أكثر وضوحاً: “بحسب تعليم آبائنا القديسين الموحى به من الله وتقليد الكنيسة الجامعة“. بالطبع، لم يكن اﻷمر مجرّد استذكار للقديم بل باﻷحرى هو تشديد على امتداد إيمان الكنيسة عبر اﻷجيال. هذه الهوية والديمومة منذ زمن الرسل هي بالحقيقة الرمز والعلامة اﻷكثر بروزاً والإشارة إلى صحة اﻹيمان. فالقِدَم (antiquity) ليس بحد ذاته دليلاً على صحّة اﻹيمان، وﻻ العادات القديمة تكفل الحقيقة. فالتقليد الصحيح هو تقليد الحقيقة الذي، بحسب القديس إيرينايوس، هو متجذّر في الكنيسة منذ البداية وهي تحمله وتحفظه في تسلسل رسولي غير منقطع. وعليه، فإن التقليد في الكنيسة ليس استمرار الذاكرة البشرية أو ديمومة الطقوس والعادات. بالمطلَق، التقليد هو استمرار المعونة اﻹلهية والحضور الثابت للروح القدس. فالكنيسة ليست مربوطة بالحرف بل هي في حركة دائمة بالروح. والروح نفسه، روح الحق، هو تكلّم في اﻷنبياء وقاد الرسل وأنار اﻹنجيليين وﻻ يزال يسكن في الكنيسة ويوجهها إلى الفهم اﻷكثر كمالاً للحقيقة اﻹلهية، من مجد إلى مجد.
إن عبارة “اتّباع اﻵباء” ليست إشارة إلى تقليد مجرّد، أو إلى صياغات وعبارات وحسب. إنها بالدرجة اﻷولى استدعاء ﻷشخاص أي لشهود قديسين. إن شهادة اﻵباء هي من بنية اﻹيمان اﻷرثوذكسي بشكل عضوي وجوهري. إن الكنيسة تلتزم ببشارة (kerygma) الرسل كما بعقائد (dogmata) اﻵباء.الكنيسة هي بالحقيقة “رسولية” ولكنها أيضاً “آبائية“، وفقط بكونها آبائية تكون رسولية باستمرار، فاﻵباء يشهدون لرسولية التقليد. هناك مرحلتان أساسيتان في إعلان الإيمان المسيحي، من الإيمان البسيط إلى اﻹيمان المُصاغ، فقد كان هناك حاجة داخلية ومنطق داخلي وضرورة في هذا الانتقال من البشارة إلى العقيدة.
في الحقيقة، إن عقائد اﻵباء هي بالجوهر نفسها البشارة “البسيطة التي حملها الرسل ووضعوها مرة وللأبد، لكنها اﻵن البشارة مُصاغَةً بشكل ﻻئق ومطوَّرة إلى جسم مترابط من الشهادات. التعليم الرسولي ليس محفوظاً في الكنيسة وحسب بل هو مُعاش في الكنيسة كوديعة دائمة الحياة (depositum juvenesceris) بحسب تعبير القديس إيرينايوس. بهذا المعنى، تعليم اﻵباء هو فئة ثابتة من الإيمان المسيحي ومقياس ثابت ونهائي أو معيار للمعتقد الحق. بهذا المعنى مرة أخرى، الآباء ليسوا مجرد شهود للإيمان القديم ولكن، وقبل كلّ شيء، وبالدرجة الأولى، شهود للإيمان الحقيقي. وبناءً على ذلك، اﻻحتكام المعاصر للآباء هو أكثر بكثير من مجرد إشارة تاريخية إلى الماضي.
“فكر الآباء” هو مرجعيةجوهرية في اللاهوت الأرثوذكسي، ليس دون كلمة الكتاب المقدس، وبالواقع غير منفصل عنها. كان الآباء أنفسهم دائماً خدام الكلمة، ولاهوتهم كان تفسيرياً في جوهره. وهكذا، وكما قيل أيضا في الآونة الأخيرة، “الكنيسة الجامعة في كل العصور ليست مجرد تابعة لكنيسة الآباء بل هي ولا تزال كنيسة الآباء.”
العلامة المميزة الرئيسية للاهوت الآبائي كانت طابعه “الوجودي“. فالآباء تأمّلوا ﻻهوتياً “على طريقة الرسل، وليس على طريقة أرسطو“، بحسب تعبير القديس غريغوريوس النزينزي. تعليمهم كان دائماً رسالةً، بشارة. ﻻهوتهم كان دائماً ﻻهوتاً بشارياً (kerygmatic theology) حتّى عندما تمّ ترتيبه منطقياً وتأييده بالحجج الفكرية. المرجع النهائي كان دائماً الإيمان والفهم الروحي. يكفي أن نذكر في هذا الصدد أسماء القديسين أثناسيوس، غريغوريوس النزينزي، ومكسيموس المعترف. لاهوتهم كان شهادة. بصرف النظر عن الحياة في المسيح، اللاهوت لا يحمل أي إدانة، وإذا فُصِل عن حياة الإيمان، قد يتحول بسهولة إلى منطق فارغ، وكثرةِ كلام دون جدوى، ومن دون أي نتيجة روحية.اللاهوت الآبائي كان متجذراً في التزام حاسم بالإيمان. لم يكن مجرد فرع من المعرفة لا يحتاج إلى شرح ويمكن تقديمه جدلياً من دون ارتباط روحي مسبق. هذا اللاهوت يمكن فقط أن يُبَشَّر به، أو يُعلَن وألا يُدَرَّس وحسب على طريقة المدرسة؛ فهو يُوعَظ منه على المنبر، ويُعلَن أيضاً في كلمة الصلاة والطقوس المقدسة، ويتجلى في الواقع في مجمل بنيَة الحياة المسيحية. إنّ لاهوتاً من هذا النوع لا يمكن فصله عن حياة الصلاة وعن ممارسة الفضيلة. “قمّة الطهارة هي بداية اللاهوت” بحسب تعبير القديس يوحنا السلّمي(السلّم إلى الله، الدرجة 30). من ناحية أخرى، اللاهوت هو دائماً تمهيدي ﻻ أكثر، لأن هدفه النهائي والغرض منه هو أن يحمل الشهادة على سرّ الله الحي، قولاً وعملاً. “اللاهوت” ليس هدفاً في حد ذاته بل هو دائماً طريقة.
اللاهوت يعرض أي أنه أكثر من مجرد إطار فكري للحقيقة المعلَنة وشهادة “نوسية” لذلك. فقط في فعل الإيمان يمتلئ هذا اﻹطار بمحتوى حيّ. ومع ذلك، فإن هذا اﻹطار أمر لا غنى عنه أيضاً. لا معنى للصيغ الخريستولوجية في الواقع إلا للمؤمنين، أي لأولئك الذين التقوا المسيح الحي، واعترفوا به إلهاً ومخلصاً والذين يسلكون في الإيمان به، في جسده الكنيسة. بهذا المعنى، اللاهوت ليس نظاماً لا يحتاج إلى شرح. إنه يحتكم دائماً إلى النظرة اﻹيمانية. “ما سَمِعْنَاهُ ورَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا نَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ به“. بمعزل عن هذا اﻹعلان اللاهوتي، ﻻ يكون لهذه الصياغات أية نتيجة. ولنفس السبب، لا ينبغي أبداً أن تؤخذ هذه الصيغ من سياقها الروحي. من المضلّ تماماً ذكر بعض المسائل العقائدية أو التعليمية وتجريدها من المنظور الكلي الوحيد حيث هي مفيدة وصالحة. إن التعامل مع “اقتباسات” من الآباء وحتى من الكتاب المقدس، خارج بنية اﻹيمان الكاملة حيث تكون هذه اﻻقتباسات على قيد الحياة حقاً، هي عادةٌ خطيرة.
إن اتّباع اﻵباء ﻻ يعني اقتباس عباراتهم وحسب. إنه يعني اكتساب فكرهم (φρόνημα). تدّعي الكنيسة اﻷرثوذكسية أنها حفظت هذا الفكر وأن ﻻهوتها هو بحسب اﻵباء. عند هذه النقطة بالذات يمكن التشكيك بشكل كبير. إن اسم “آباء الكنيسة” هو بالعادة محصور بمعلمي الكنيسة القديمة. ومن المفترض حالياً أن سلطتهم، حيث يُعتَرَف بها، تأتي من قدمهم، أي من قربهم الزمني من الكنيسة اﻷولى أي من عصر الرسل في التاريخ المسيحي. القديس ييرونيموس، أحس أنه ملزَم بتحدي هذا الرأي: الروح يُبَث في كل اﻷجيال. بالحقيقة، ما من تناقص في سلطة وما من تناقص في فورية المعرفة الروحية عبر تاريخ الكنيسة، طبعاً ودوماً تحت حكم الشهادة واﻹعلان الأولين. للأسف، إن مبدأ التناقص، أو حتّى الاضمحلال الصارخ، صار أحد المبادئ العادية في التفكير التاريخي. حيث من المفتَرَض بشكل واسع، عن وعي أو عن عدمه، أن الكنيسة اﻷولى كانت أكثر قرباً من نبع الحقيقة.
في الترتيب الزمني، وبطبيعة الحال، هذا واضح وحقيقي. لكن هل هذا يعني أن الكنيسة في وقت مبكر عرفت فعلاً سر الوحي وفهمته، على ما كانت عليه، “أفضل” و “أكمل” من جميع اﻷجيال اللاحقة، بحيث أنها لم تترك شيئا إلا “التكرار” إلى “العصور اللاحقة“؟ في الواقع، كاعتراف بالنقص فينا وبالفشل، كفِعل نقد ذاتي متواضع، وكتمجيد للماضي، قد يكون هذا القول سليماً وصحياً. ولكن من الخطورة بمكان أن يُجعل منه نقطة انطلاق لاهوتنا لتاريخ الكنيسة، أو حتى لاهوتنا للكنيسة.