“الكنيسة، في حالتها الحاضرة… يأكلها الضّعف مع الجهل والكسل… لقد أصبحت عالميّة، اجتماعيّة. لم يعد روح الله يحرّكها. أصبحت مجتمعًا مدنيًّا غارقًا في المظاهر والكسب!”.
المتروبوليت أفرام (كيرياكوس)، رسالة الميلاد ٢٠١٥
في نفوس كثيرة، يولد المسيح ميتًا!. ثمّة أحشاء لا تحفظ الجنين!. تلفظه خارجًا!. روح الموت فيها!. ما يظنّه الكثيرون أنّهم إيّاه ليسوا ما هم عليه!. يكذبون ويصدّقون كذبهم لأنّ قلبهم غير نقيّ!. الكنيسة ملأى بالمؤمنين الّذين لا يؤمنون!. لا سيّما اليوم!. لم تعد الجماعة هي المقياس!. كلّ صار، بالأكثر، مقياس نفسه!. المسيحيّة أضحت، على نحو متزايد، مسيحيّات، بمقدار ما في الكنيسة من مسيحيّين!. مسألةَ ذوق ومزاج وقناعات خاصّة!. العقائد المخطوطة على صحائف الورق، في جهة، والعقائد المخطوطة على صحائف القلب، في جهة أخرى!. مسيحيّات استنسابيّة تلائم النّزعات الأهوائيّة الفردانيّة للنّاس!. لم يعد الخطّ الفاصل واضحًا بين الإيمان وعدم الإيمان!. بين الصّالح والطّالح!. بين الفساد وعدم الفساد!. بين القويم والمعوّج!. ولا عدنا حسّاسين له!. أضحت القاعدة التّلفيق!. الظّاهر يطغى على الحقّ!. كلّ يزكّي نفسه، في كلّ حال، ويتّخذ مسيح الرّبّ لنفسه داعمًا، متى شعر بالقصور، ومبرِّرًا متى خيّبته حجّته، ومنتصرًا متى دخل في صراع مع غيره!. مسيح لكلّ الأذواق والحاجات يُفصَّل على قَدر الحاجة: من الصّغير المهضوم، والمهضوم، في العربيّة، هو الطِّيبُ يُخلَط بالمسك والبان، إلى القاتول صاحب العيون الّتي يتطاير منها شرار الغضب!.
المسيح الّذي لا تراه في إنسان لا يمكنك أن تؤمن به!. لله تدابيره، طبعًا، لكنّه دبَّر، أيضًا، أنّ الإنسان بالإنسان يخلص!. أعطني مؤمنًا واحدًا مشعًّا أُعْطِك قلوبًا كثيرة تشعّ بالإيمان؛ وأعطني “مؤمنًا” واحدًا منطفئًا أُرِكَ، بتأثير منه، نفوسًا عديدة منطفئة!. ليس أحد إلّا يؤثّر ويتأثّر بمَن حوله، حتّى إلى البعيد، فكيف إذا كان الأمرُ متعلِّقًا برعاة الخراف، نورًا أو عتمة؟!. لذا ويل لمَن يُعثِر أحد هؤلاء الصّغار المؤمنين بي!. ليس ما تقوله، فقط، بل، بالأكثر، ما تفعله وما أنت عليه!. أي رائحةِ روحٍ تبثّ؟ هذه هي المسألة!
جاءنا ضيف. أَخبر أَنه قبل الصّيام الكبير، العام الماضي، ٢٠١٤، دعا قومًا إلى العشاء في بيته. بين الحضور كان الرّاعي المارونيّ والرّاعي الأرثوذكسيّ. سيّدة المنزل كانت قد أعدّت سفرة فيها الطّعام الصّياميّ والزّفر، إذ كان صوم الغربيّين قد بدأ دون صوم الشّرقيّين. من الأطباق كان طبق “الكبّة النّيّة“. أبدى الرّاعي المارونيّ انزعاجه لأنّ الوقت صيام!. أجابت ربّة البيت: هناك تشكيلة، بإمكانك أن تختار منها ما ترغب فيه لأنّ الصّوم عندنا لم يبدأ بعد. تدخّل الرّاعي الأرثوذكسيّ فسأل الرّاعي الآخر: أتحبّ “الكبّة النّيّة“؟ أجاب: كثيرًا!. إذ ذاك رسم إشارة الصّليب على طبق الكبّة وقال: كن بطاطا!. ثمّ أردف: تفضّل!. فضحك الأكثرون!. لكن بعضهم استغرب ولم يقل شيئًا، لكنّه شعر، دون أن يدري تمامًا لماذا، أنّ ثمّة أمرًا غير لائق حدث!.
هذه ليست نادرة مسلّية!. أيليق أن تُمسَخ الإلهيّات استظرافًا؟!. صليب المسيح، ومن ثمّ دمه، ليسا للدّعابة، والصّلاةُ ليست للسُّخرة!. ليس هذا أقلّ من تجديف!. ما التّجديف؟ هو الازدراء بالإلهيّات!. لو كان ذاك الرّاعي قد أهان أحدًا، لأقام المُهان الدّنيا ولم يُقعدها، أمّا أن يجعل الصّلاة وعلامة الصّليب مادّة للسّخرية، ويهين السّيّد، فأمر يسير لا يستأهل أن يتحرّك أحد الحاضرين لدرئه!. مسخُ الرّوح القدس، بكلّ أسف، لا يعني لهم شيئًا!. هذا جوّ مألوف تمامًا!. الإحساس بالإلهيّات مصاب بالضّمور!.
في الكنيسة الحيّة، مثل هذا الرّاعي يوقَف عن الخدمة فورًا، ويُحال إلى المحاكمة!. ولكنْ، مَن يحاكم، اليوم، مَن؟ اعتدنا التّجديف والفساد والشّذوذ والمخالفة وتجارة المقدّسات والاختباء وراء الكراسي والمقامات، واعتاد العامّيّون شراء القرارات الكنسيّة وبيعها!. الكلّ يعرف كلّ شيء، تقريبًا، عن كلّ أحد ويغمز من قناته ساخرًا!. هذه صارت أمورًا مشيّعة!. اللّامبالاة تتآكلنا!. لا نريد متاعب!. الإصلاح مكلف!. كنيسة لا تنظّف نفسها بنفسها، إلى أين مآلها؟ كلّ شيء صار مقبولًا بذريعة الضّعف البشريّ وبادّعاء أنّ الله رحيم ودرءًا للفضيحة!. لا مانع أن تكون الموبقات معروفة، المهمّ أن تكون مستّرًا عليها!!!. صار لكلّ فاسد، في فساده، “حقوق الوقاحة“، طالما غيره يفعل الأمر عينه وليس مَن يطاله!. إذا كان بعض مَن فوق متفلّتًا وليس مَن يطالبه، فمن “حقّ” مَن تحت أن يكونوا كذلك وإلّا اعتبروا أنفسهم “مظلومين“، هكذا يظنّون!.
نحيا في كذبة كبيرة وفي باطنيّة أكبر!. نعرف حقيقة فلان وفلان، تمامًا، ولسنا فقط نتصرّف كأنّنا لا نعرف شيئًا، اللّياقة تقضي، بل يطالع أحدنا الآخر بالابتسامات العراض ويأخذ بعضنا البعض بالأحضان ويُمطر أحدنا الآخر بالكرامات الصِّراح والمدائح المِلاح، ولو ثرثر أحدنا على الآخر في خبايا الزّوايا!.
يهمّنا أن يسود “السّلام” ويعمّ “الرّضى“!. أيّ سلام وأيّ رضى؟!. ما هذه التّمثيليّة؟ أهكذا يحلّ سلام المسيح، ويشاع الرّضى الإلهيّ في العباد؟ إن كنتُ، بعد، أُرضي النّاس، فلست، بعد، عبدًا للمسيح!. فكيف إن كانت سيرتُنا التكاذب؟!.
ووحدة الكنيسة!. مسكينة الوحدة!. وحدة لا نريد فيها أن نُحزن أو أن نغيظ أحدًا ممَّن نعتبر رضاه مهمًّا لنا!. أمّا أن نُحزن روح الرّبّ، ونغيظ مسيحه، ونغضّ الطّرف عن رضاه، فأمور تُعتبر ثانويّة!. الله واسع!. عقله كبير!. يكفيك من الوحدة الكلام الببّغائيّ، واللّياقات والطّقوس!. كلٌّ لوحده ومع ذلك نتباهى بالوحدة فيما بيننا!. المهمّ أن يكون ما يظهر مؤاتيًا للمناسبة!. فقط ما يبقى في الخفاء لك أن تتصرّف فيه على سجيّتك، وحاكمك ربّك، الكنيسة لا علاقة لها بخصوصيّاتك!.
لأنّنا، كثيرًا، ما نجدنا مصابين بالإعاقة عن المواجهة بروح الرّبّ، نبيع ونشتري الضّمائر باسم الحكمة الرّعائيّة، نغذّي ونتغذّى بالرّوح الوصوليّة باسم المودّات، ونتصرّف على طريقة المخابرات!.
“بيتي بيت صلاة يُدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص“، قولة قالها يسوع ونردِّدها، ونتشدّق بها، ولا نعي قربانا من الّذين قيلت فيهم!!!.
لا شكّ أن الكنيسة هي المكان الأمثل للفساد في العالم، لأنّه يتسنّى للفاسدين فيها أن ينعموا بالحصانة الإلهيّة في فسادهم؛ فلا النّاس يطالونهم ولا الله لأنّ مخافته ليست فيهم!. كأنّه غير موجود!. بعد ذلك، ليقل كلٌّ ما يشاء!. الحسُّ يرتحل!.
إذا لم تكن مستعدًّا لأن تواجه بروح الرّبّ، إذا لم تكن مستعدًّا لتقول كلمة الحقّ، أو لأن تثبت في الحقّ، ولو قطعوا رأسك، إذا لم تكن مستعدًّا لأن تبذل نفسك مدًّا لمَن بذل نفسه، فأنت في المكان الّذي لا يحقّ لكَ أن تكون فيه!. أنت دخيل عليه!. والمتسلّلون يُطرحون في الظلمة البرانيّة!. مخيف الوقوع بين يديّ الله الحيّ!. ليست الكنيسة للتّفه!. إلهنا نار آكلة!.
كلمة كلّ إنسان صارت وحيَه، إذ قد حرّفتم كلام الإله الحيّ، ربّ الجنود، إلهنا (إرميا 23)!.
لولا أنّ ربّ الجنود أبقى لنا بقيّة صغيرة، لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة (إشعيا 1: 9)!.
إلى أن يتأدّب الكبار ويؤدَّب المخالفون ليكونَ ثمّةَ مثالٌ صالحًا للأصغر منهم، يبقى مسيحكم “نارًا” مرتهنة لأهوائكم، لا تلبث أن تُحرقكم!. الله لا يُشمَخُ عليه!.
طفل المغارة، اليوم، مقفَل عليه في المذود حتّى إشعار آخر!. كُفّوا عنه!. ليس ألعوبةً بين أيديكم!.
ولكنْ، مهلًا!. يعرف الله الّذين هم له، ومتى يقلب الطّاولة!. وحدهم هؤلاء باقون شهودًا يردّدون، مع الرّعاة، بالرّوح والحقّ: المجد لله في العلى وعلى الأرض السّلام وفي النّاس المسرّة!.
* عن نقاط على الحروف (http://holytrinityfamily.org/). اﻷحد، 27 كانون الأول 2015