القديسون اﻷرثوذكسيون والحركة المسكونية
بالنسبة للمسيحيين، معيار الحقيقة هو اﻷمانة للمسيح و“الإِيمَانِ الْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ” (يهوذا 3). الآباء القديسون باتحادهم الكامل بالمسيح بالروح في الكنيسة المقدسة، يصيرون بدورهم المرجع التجريبي الذي به تقاس الحقيقة. لهذا السبب، بالنسبة للأرثوذكسيين، تعاليم الآباء القديسين هي سلطة ينبغي اتباعها وتصديقها، أبعد وفوق أي رأي قد يمتلكه شخص أو مجموعة.
إن هذا الاعتقاد التأسيسي هو بمثابة مقدمة لمناقشة مسألة العلاقات بين الكنيسة الأرثوذكسية وروما، والتي ما زالت مكان نقاش في الأوساط الكنسية.
منذ المجمع الفاتيكاني الثاني، طوّرَت روما فكرة أن الانقسام هو مسألة “كنائس شقيقة” منفصلة، وبأن الكنيسة الأرثوذكسية “ينقصها القليل لتحقيق الملء الذي من شأنه أن يسمح احتفال مشترك من القربان المقدس الرب“. [1] . هل تقبل الكنيسة الأرثوذكسية بهذا الفهم للانشقاق وبوضع الكثلكة؟ للإجابة على هذا السؤال، يجب أن نعود إلى القديسين والقرارات المجمعية، وعندها، فإن الجواب هو “لا” لا لبس فيها.
عندما ندرس الخلافات مع روما في حياة القديس فوتيوس الكبير (القرن التاسع) و القديس مرقس اﻷفسسي (القرن الخامس عشر)، نجد رفضاً واضحاً لروما بسبب ابتداعاتها، طالما أنها تتمسّك بها– وبالتالي رفض إمكانية الوحدة معها لهذا السبب بالذات. الكنيسة الأرثوذكسية، مع أنها لم تعلن قداسة هذين الرجلين، بل اعتبرتهما أيضاً “أعمدة اﻷرثوذكسية“، وتبنّت تعليمهما عن روما ضد البابوية و الفيليوكفيه (انبثاق الروح القدس) والحركة المسكونية. تعليم القديس فوتيوس ضد الفيليوكفيه وأولوية البابا تبنّته الكنيسة اﻷرثوذكسية رسمياً في المجمع المسكوني في القسطنطينية (879-880 م)، كما أن تعليم القديس مرقس قد ثبّتته الكنيسة وأكّدته في رفضها للاتحاد الزائف في بازل–فيرارا –فلورنسا.
في هذه المرحلة، قد يفترض البعض أن الكثير تغيّر منذ القرن الخامس عشر، وأنّ الهيئات غير اﻷرثوذكسية قد تكون اقتربت أكثر إلى التماشي مع العقيدة الأرثوذكسية خلال القرون، وبالتالي، هذه المجموعات صارت أقرب إلى الشركة الإفخارستية الكاملة. لكي يتحقق هذا اﻷمر، ينبغي وجود شيء من الحركة الجديرة بالاعتبار ليس في اﻹيحاء أو المواقف، بل في العقيدة والحياة من ناحية الكثلكة نحو الأرثوذكسية، أقله منذ عهد القديس مرقس الأفسسي. ولكن فكرة أن روما قد تحركت في هذا الاتجاه لا يمكن الدفاع عنها. إذا كان هناك من حركة، فهي ابتعدت أكثر في عدد من الجوانب الهامة.
أوضح فيلاريت رئيس أساقفة نيويورك، تعليقاً على الحج الرسولي في عام 1965 (لقاء البابا والبطريرك المسكوني في القدس): الكثلكة اليوم ليست حتى الكنيسة نفسها التي رفضت الكنيسة الأرثوذكسية بقيادة القديس مرقس الأفسسي الدخول في اتحاد معها. الكثلكة الآن أبعد عن الأرثوذكسية، بعد أن أدخلَت المزيد من العقائد الجديدة وتبنّت المزيد والمزيد من مبادئ الإصلاح والمسكونية، والحداثة.
حتى الكثير من الكاثوليك التقليديين يتّفقون مع هذا التقييم الصادق. ومنذ القرن الخامس عشر، تطرّق إلى قضية روما عدد غير قليل من القديسين الأرثوذكسيين، تعاليمها ومكانتها بالنسبة للأرثوذكسية. ما يلفت النظر في هذه التعاليم هو غياب كل أشكال العواطف المسكونية.
القديس نيقوديموس اﻵثوسي (القرن الثامن عشر)
تسمّى معمودية اللاتين معموديةً زوراً. . . لأنهم هراطقة. . . لقد قال عنهم ما فيه الكفاية المتعلقة القديس مرقس الأفسسي في فلورنسا (في الاجتماع الخامس والعشرين)، حيث تحدث بصراحة على النحو التالي: “لقد انفصلنا عن اللاتين لا لسبب سوى حقيقة أنهم ليسوا منشقين وحسب، بل أيضاً هراطقة “ولهذا السبب يجب علينا أن لا نفكّر في الوحدة معهم.
القديس ثيوفانس الحبيس (القرن التاسع عشر)
حقيقة الله، وهي الحقيقة الكاملة النقية والخلاصية، لا يمكن العثور عليها لا عند الكاثوليك ولا عند البروتستانت، ولا في الانجليكانيين. يمكن العثور عليها فقط في الكنيسة الواحدة الحقيقية أي الكنيسة الأرثوذكسية… الكاثوليك هم أول من انشقّ عن الكنيسة“.
القديس يوستينوس بوبوفيتش (القرن العشرون)
أول اعتراض جذري باسم الإنسانية ضد المسيح اﻹله–اﻹنسان، والكائن اﻹلهي–البشري أي الكنيسة، ينبغي البحث عنه في البابوية وليس في اللوثرية. البابوية هو في الواقع أول وأقدم بروتستانتية.
الشيخ صوفروني آسكس (القرن العشرون)
… ولكن “اتحاد الكنائس” صعب، إن لم يكن مستحيلاً. أولئك الذين يتحدثون عن “اتحاد الكنائس” لا يعرفون عقلية غير اﻷرثوذكس ولا سموّ الأرثوذكسية… أنا لا أريد “اتحاد الكنائس“، على الأقل الآن، لأن الكاثوليك لن يتغيروا و الأرثوذكس لن ينحرفوا.
القديس نيقوﻻ فيليميروفيتش (القرن العشرون) وهو كان قد عبّر عن ميول “مسكونية” في شبابه لكنه ﻻحقاً عاد ليوافق غيره من القديسين
إذا كانت كل طائفة ﻻ تحتوي إﻻ جزءً من العقيدة المسيحية فقط، فإن الكنيسة الأرثوذكسية تحوي مجمل الإيمان الحقيقي بوفرة، وهو “الإِيمَانِ الْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ” (يهوذا 3). . . لا يمكن أن تتحقق وحدة جميع الكنائس من خلال التنازلات المتبادلة، بل فقط عن طريق التزام الجميع بالإيمان الواحد الصحيح في مجمله، كما وُرِث من الرسل ووُضع في المجامع المسكونية. بعبارة أخرى، من خلال عودة جميع المسيحيين في الكنيسة الواحدة غير القابلة للتجزئة التي انتمى اليها أسلاف جميع المسيحيين في العالم كله في القرون العشرة اﻷولى بعد المسيح. إنها الكنيسة الأرثوذكسية المقدسة.”
هذا التوافق بين القديسين الجدد نسبياً في معارضة الاتحاد مع روما طالما أنها لا تزال ملتزمة أخطاءها، هو بطبيعة الحال، ما كان ليبدو بارزاً لو كان هناك أيضا قديسون يحبّذون المسكونية أو التعددية الدينية. ولكن في الواقع، هؤﻻء ببساطة لا وجود لهم.
قد يبدو حوار روما اللاهوتي مع الكنيسة الأرثوذكسية حول الفيليوكفيه في العقود الأخيرة أمراً معاكساً لهذا الكلام. ولكن من الصعب أن نرى في هذا أكثر مراوغة، خاصةً مع تبنّي روما لتطوّر العقيدة، الذي هو بحد ذاته إشكالية أساسية بالنسبة للكنيسة الأرثوذكسيةفي التزامها التعليم الرسولي: “وَتَحْفَظُونَ التَّعَالِيمَ كَمَا سَلَّمْتُهَا إِلَيْكُمْ.” (1 كو 11: 2).
هذا الكلام، وبدون أي اعتذار، ليس دعوة للعنف أو سوء المعاملة للكاثوليك. على العكس من ذلك، إنه دعوة إنجيلية أساسية إلى الانخراط في الحوار تقوم على قول الحقيقة في المحبة. هذا يشمل الاستماع بإخلاص إلى المخاوف بوِدّية كما يقول القديس بولس: “صِرْتُ لِلْكُلِّ كُلَّ شَيْءٍ، لأُخَلِّصَ عَلَى كُلِّ حَال قَوْمًا” (1 كو 9: 19-23).
هذا بالتأكيد (وبشكل اضح) لا يشمل المساس برسالة الانجيل حيث الثالوث والكنيسة مركزيان في العقيدة الأرثوذكسية. ما من محبة في أن تترك أخاك يتمادى في الخطأ المدمر، إذا كان يرغب بالحقيقة بجدية. لا بل إن مزاوجة الحقيقة مع الزيف هي قلّة محبة، وبالتالي تجديف ضد الثالوث الأقدس.
يضع القديس باييسيوس اﻷثوسي اﻷمر على هذا الشكل:
لسنا بحاجة لأن نقول بأن المسيحيين غير الأرثوذكسيين ذاهبون إلى الجحيم أو أنهم ضد المسيح. ولكن أيضاً لا ينبغي أن نقول لهم انهم سوف يخلُصون، لأن هذا يمنحهم تطمينات كاذبة، ونحن سوف نُحاسَب على ذلك. علينا أن نعطيهم قدْراً جيداً من عدم الارتياح، وأن نقول لهم أنهم مخطئون.