مقارنة بين النسك في البوذية والديانات الشرقية والنسك في المسيحية الأرثوذكسية
اﻷرشمندريت زخريا
ترجمة ماهر سلوم
من المؤسف انه يوجد التباس واسع النطاق، بل وهم عند قليلي الخبرة ان تُعتبر صلاة يسوع معادلة ل“اليوغا” البوذية و“التأمل التجاوزي” والأساليب الغريبة المماثلة في الديانات الشرقية. التشابه بين صلاة يسوع وهذه الديانات هو خارجي عموماً ولا يوجد اي تقارب يتعدّى “التركيب البنيوي” الطبيعي للنفس البشرية. الفرق الاساسي بين المسيحية والمعتقدات والممارسات الاخرى هو ان صلاة يسوع مبنية على اعلان الاله الحي والشخصي بالثالوث القدوس. لا يوجد اي نهج آخر يعترف بامكانية علاقة حية ومباشرة بين الله والانسان المصلّي.
النسك في الديانات الشرقية يعتمد على تجريد الذهن مما هو زائل ونسبي، كي يستطيع الإنسان ان يتمثل بالإله المطلق والغير شخصي. يُعتقد في هذه الديانات ان هذا المطلق هو طبيعة الإنسان الأصلية، التي كابدت الانحلال والفساد اذ التحقت بالحياة الأرضية المتعددة الأشكال والمتغيّرة باستمرار. ان اي ممارسة نسكية كهذه هي أولاً متمركزة حول الذات وخاضعة تماماً لإرادة الإنسان. ميزتها العقلانية تضلّل كمال الطبيعة البشرية، بحيث انها تزدري بالقلب. الصراع الأساسي عند الانسان هو ان يعود الى ذلك المجهول المطلق الفائق الشخص ويذوب به. يتوجّب عليه إذاً ان يتوق لإزالة النفس لكي يتّحد بذلك المطلق الفائق الشخص والمجهول المدى، من هنا تكمن الغاية السلبية للديانات والممارسات الشرقية.
في صراعه للتجرّد من التقلقل والآلام المرتبطة في الحياة الوقتية، يغمر الناسك الشرقي ذاته في الفلك الذهني التجريدي المُسمّى بالوجود الكامل، الذي هو فلك سلبي وغير شخصي لا يمكن فيه معاينة الله بل رؤية الإنسان لنفسه فقط. ليس هناك اي مكان للقلب في هذه الممارسة. التقدّم على هذا الشكل في الممارسة النسكية يعتمد فقط على إرادة الفرد للنجاح. بالنسبة ل“الأبنشاد“، ليس التكبّر عائقاً البتة في التقدّم الروحي، وليس التواضع فضيلة. من جهة أُخرى، في البعد الإيجابي للنسك المسيحي، يتسربل المرء بالإنسان السماوي من خلال نكران الذات ويرتقي الى حياة تفوق الطبيعة، نحو المصدر الذي هو الإله الواحد الحقيقي الذي يُعلن ذاته. هذا كلّه ليس موجوداً في الديانات والممارسات الشرقية. حتى اذا كان نكران الذات تعبيراً بارزاً في البوذية، إِلَّا انه جزء ضئيل من الغاية الأساسية. عندما يتوق الذهن في البوذية الى العودة لذاته “الطبيعية“، يجد ذاته المجرّدة لكن في “غمامة من التشوّش“. عندئذٍ هناك خطر كبير في الإستحواذ بالنفس والعجب من الجمال المخلوق الذي يظهر مستنيراً، بذلك عبادة المخلوق دون الخالق (رومية 25:1). هكذا يصنع الذهن من نفسه الهاً بل صنماً، عندئذٍ “تصير أواخر ذلك الإنسان أسوأ من أوائله” (متى 45:12) بحسب كلام الرب.
هذه هي أقصى حدود الأساليب الشرقية في التأمّل، التي لا تدّعي انها معاينة لله، والتي بالحقيقة هي تأمّل الإنسان لنفسه. هذه لا تتعدّى حدود الكائنات المخلوقة ولا تضاهي بأي شكل من الأشكال حقيقة الكائن الأزلي، أي الإله الحي الغير المخلوق الذي اعلن ذاته للإنسان. تلك الممارسات ربما تمنح بعض الراحة وتشدّد الوظائف النفسية والفكرية عند الإنسان، لكن “ما يولد من البشر هو بشري” (يوحنا 6:3) و“الذين هم في الجسد لا يستطيعون ان يُرضوا الله” (رومية 8:8).
ان تجريد الذهن من الأهواء التي تربطه بالعناصر الحسّية والوقتية في هذه الحياة يجب ان يتصل بحقيقة الإنسان. هذا يعني انه عندما يرى الإنسان نفسه في حضرة الله، تكون استجابته الوحيدة هي من خلال التوبة.
هذه التوبة بحد ذاتها هي موهبة من الله، انها تنتج عناء في القلب وهذا لا يحرّر الذهن مما هو فاسد فقط، بل ايضاً يوحّده بما لا يُرى وبما هو أبدي من لدن الله. بكلماتٍ أُخرى، التجريد كغاية بحد ذاته هو جزء من المسألة، ويرتكز على الجهد البشري الذي يعمل على مستوى الكائن المخلوق. بالمقابل، المسيحية تُلزم الناسك ان يتوق بالرجاء ان تتسربل نفسه وتتزيّن بالنعمة الإلهية، التي تقوده الى كمال الحياة الغير المائتة التي يعرف انه خُلِق لأجلها.
الكثير من الناس مُعجبون ببوذا ويقارنونه بالمسيح. ان بوذا يجذب الناس خاصة بسبب فهمه الحساس لحالة الانسان وبسبب تعليمه البليغ عن التحرر من المعاناة. لكن المسيحي يعلم ان المسيح، الابن الوحيد المولود من الله، بآلامه وصليبه وموته وقيامته، الطوعية المنزّهة عن الخطيئة، قد اجتاز الألام البشرية بالكلّية، محوّلاً ايّاها الى تعبير عن محبته المطلقة. بالتالي شفى خليقته من جرح الخطيئة الجدّية، وجعلها “خليقة جديدة” للحياة الأبدية. ألم القلب هو بالتالي ذو قيمة عظيمة خلال ممارسة الصلاة، اذ ان وجوده علامة ان الناسك ليس بعيداً عن الطريق الحقيقي والمقدس لمحبة الله. ان كان الله من خلال الآلام قد اظهر محبته المطلقة لنا، فالإنسان بالمثل قادر من خلال المعاناة ان يعود لمحبة الله.
بناء على ذلك، الصلاة هي مسألة محبة. الإنسان يعبّر عن محبته من خلال الصلاة، وان كنا نصلّي فهذه إشارة اننا نحب الله. ان كنا لا نصلّي، هذا يعني اننا لا نحب الله، لأن مقياس صلاتنا هي مقياس حبنا لله. القديس سلوان يطابق محبة الله بالصلاة، ويقول الآباء القديسون ان نسيان الله هي أعظم الأهواء، اذ انه الهوى الوحيد الذي لا يُحارب بالصلاة من خلال اسم الله. إِن نتّضع ونتوسّل عون الله، واثقين بمحبته، سوف نُعطى القدرة ان نتغلّب على اي هوى؛ لكن ان كنا غافلين الله، فإن العدو سوف يرمينا بسهولة.
+المقالة مُقتطفة من الفصل 5 “بناء القلب باليقظة والصلاة” من كتاب “الانسان الغير منظور في القلب: تهذيب القلب في علم الإنسان المسيحي الأرثوذكسي” للأرشمندريت زخريا…