لكي نبلغ مستوى المحبّة الإلهيّة!
الأرشمندريت توما بيطار
يا إخوة، في الإنجيل الّذي تُلي على مسامعكم، الرّبّ يسوع يتكلّم على محبّة كلّ واحد منّا لأبيه وأمّه، أو لابنه وابنته؛ ويقارن هذه المحبّة بمحبّتنا له هو. حين يقول الرّبّ يسوع: “إن كان أحد يحبّ أبًا أو أمًّا أكثر منّي، فلا يستحقّني“؛ فهو لا يطالبنا بأن نحبّه أكثر، حرفيًّا، من آبائنا وأمّهاتنا، أو أكثر من أبنائنا وبناتنا. محبّتنا، في الحقيقة، للرّبّ يسوع ليست، أبدًا، كمحبّتنا بعضنا لبعضنا الآخر. بشريًّا، يمكن الإنسان أن يحبّ أكثر أو أقلّ. أمّا في العلاقة مع الله، فالمحبّة تكون كاملة كلّيّة. لذلك قيل: “أَحـِبَّ الرّبَّ إلهك من كلّ قلبك، ومن كلّ نفسك، ومن كلّ قدرتك” (مر12: 30).
إذًا، هذه الكلّيّة أساسيّة جدًّا، في تعاطي المحبّة مع الله. إن لم نتعاطَ المحبّة مع الله بهذه الطّريقة، فلا يمكننا أن نتعاطى المحبّة الحقّ في تعاملنا بعضنا مع بعضنا الآخر. من دون الله، مستحيل على الإنسان أن يذوق المحبّة الحقّ! ما نسمّيه نحن “محبّة“، فيما بيننا، من دون الله، هو، في الحقيقة، محبّة للذّات في الآخرين؛ هو محبّة مُشبَعَة بالقـِنية! نحبّ الآخرين، لأنّنا نحبّ أنفسنا فيهم! نحبّ الآخرين، لأنّهم لنا! نعتبرهم مِلكًا لنا! نحبّ الآخرين، لأنّهم يشبهوننا! نحبّ الآخرين، لأنّهم على صورتنا، أو لأنّنا نريد أن يكونوا ما نحن عليه! في العمق، الإنسان، من دون الله، يحبّ نفسه في الآخرين؛ ولا يحبّ الآخرين لذواتهم! لهذا السّبب، المحبّة لا تبدأ أفقيًّا بين إنسان وإنسان. المحبّة، في الحقيقة، تبدأ عموديًّا بين الإنسان وربّه؛ ومن ثمّ، تنزل، بالله، إلى الآخرين. إذًا، كما هو التّعبير المستعمَل في كنيستنا، نحن نحبّ الآخرين في المسيح. نعبر، أوّلاً، بالمسيح! نحبّ، أوّلاً، الرّبّ يسوع المسيح! نحبّ، أوّلاً، الرّبّ الإله! وفي الله، في الرّبّ يسوع المسيح، يصير بإمكاننا أن يحبّ أحدُنا الآخر. إذا استغنى الإنسان عن محبّة الله، فإنّه يظنّ، متوهِّمًا، أنّ بإمكانه أن يحبّ الآخرين. لكن، لو انتبهنا للطّريقة الّتي نتعاطى بها مع الآخرين، لاكـْتَشفنا أنّنا نطلب، دائمًا، ما لأنفسنا في بعضنا بعضًا. محبّتنا محبّة قِنـْيَوِيَّة، نابعة من رغبتنا في أن يكون الآخرون لنا! إذا كان هذا الأمر واضحًا لنا، في أعماق نفوسنا؛ وإذا كنّا لنطلب المحبّة الحقيقيّة بمحبّة الله أوّلاً؛ فهذا سوف يكون مُكلِّفًا جدًّا.
لهذا السّبب، بعد أن يتكلّم الرّبّ يسوع على محبّة الأب والأمّ، ومحبّة الأمّ والبنت، ويقارن هذه المحبّة بمحبّتنا له؛ يتكلّم على الصّليب: “مَن لا يأخذ صليبه ويتبعني، فلا يستحقّني“! لماذا، يا ترى، يتكلّم، هنا، على الصّليب؟! هذا لأنّ المحبّة الحقّ هي صليب، بكلّ معنى الكلمة! مَن طلب أن يحبّ بالرّوح والحقّ، كان عليه أن يبذل نفسه من أجل مَن يحبّ؛ وكان عليه أن يترك للآخرين أن يحبّوه، أو ألاّ يحبّوه! عليه أن يعطيهم حرّيّتهم، بكلّ معنى الكلمة. هذا ما فعله الرّبّ الإله، منذ البدء. الرّبّ الإله ولدنا من كونه محبّة. لكنّه لم يفرض ذاته علينا في شيء، على الإطلاق. كان، دائمًا، يشير إلى ما هو موافق لنا، وإلى ما ليس موافقًا لنا. لكنّه ترك لنا حرّيّة مبادلته المحبّة بمحبّة، أو أن ندير ظهورنا، وأن نذهب عنه. لو لم يسمح لنا الرّبّ الإله بالخطيئة، لَما كنّا خطـِئنا. وهو سمح لنا بالخطيئة احترامًا لحرّيّتنا؛ لأنّ المحبّة من دون حرّيّة لا قيمة لها، على الإطلاق. الإنسان المُجبَر على محبّة الآخرين يحبّهم في الظّاهر، ولا يحبّهم من أعماق قلبه. لكي يحبّهم من أعماق قلبه، عليه أن يتّخذ القرار الكبير، في حياته، وهو أن يخرج من ذاتيّته باتّجاههم، ليبادلوه هم محبّتَه بمحبّة. هذا رهن بي أنا! ما دام الله محبّة، وما دام الرّبّ الإله خلقني على صورته ومثاله؛ فالرّبّ الإله، بمعنًى من المعاني، جعلني في مستواه! طبعًا، أنا لا أستحقّ ذلك، لأنّي تراب ورماد، والرّبّ الإله هو الإله الأزليّ والأبديّ. ومع ذلك، المحبّة الحقّ هي، دائمًا، محبّة متواضعة. الرّبّ الإله تنازل من عليائه؛ وارتضى أن يخلق كائنًا، هو الإنسان؛ وأن يجعل نفسه وكأنّه يمتدّ إلى الإنسان؛ ويشتاق إلى أن يبادله الإنسانُ، بملء حرّيّته، المحبّةَ بمحبّة. بكلام آخر، الحرّيّة نفسها، الّتي نفحنا إيّاها الرّبّ الإله، جعلتنا في مستوى الله؛ وجعلتنا، بمعنًى من المعاني، في موقع الألوهة! طبعًا، هذا أمر ليس بإمكان أحد أن يستوعبه، بكلّ معنى الكلمة. الإنسان الكبيرُ، الّذي يجعل الصّغيرَ في مستواه، هو، في الحقيقة، لا فقط، يتنازل من كـِبَرِه ليتساوى وصـِغـَر الصّغير؛ بل، أيضًا، يرفع الصّغير ليجعله في كـِبَرِ ذاته، وهو الكبير! الأمر يسير في الاتّجاهَيْن: الله يتواضع بإزاء الإنسان؛ لكي يرفع الإنسانَ، ويجعله بإزائه! وهذه عظمة الله، وعطيّته، الّتي تفوق كلّ تصوّر. طبعًا، هذا ليس كلامًا؛ لأنّ الرّبّ الإله، منذ البدء، أراد أن يكون النّاس آلهة، وهذا ورد في النّصّ الكتابيّ: “أنا قلتُ إنّكم آلهة” (مز61: 6؛ يو10: 34). و هذا الكلام لم يكن كلامًا مجازيًّا، بل كان كلامًا روحيًّا، واقعيًّا جدًّا، نابعًا من قلب الله، ونابعًا من محبّة الله، الّتي لا يُسبَر غورُها. لكن، بإزاء هذا الدّعاء، إلى أن يتعاطى الإنسانُ محبّةَ الله بمحبّة؛ كان على الإنسان أن يتمثّل بالرّبّ الإله. إذا كانت المحبّة، عند الله، قرينةَ الاتّضاع؛ فهذا معناه أنّ علينا، لكي نبلغ مستوى المحبّة الإلهيّة، أن نبلغ مستوى تواضع الله. بالتّواضع نبلغ المحبّة الكبرى. ومن هنا الحديث عن الصّليب، لأنّ الصّليب هو علامة الاتّضاع الأكبر، بامتياز، في حياة الإنسان. والرّبّ الإله، في الحقيقة، بتجسّده، وبقبوله أن يُسمَّر على الصّليب، وأن يموت كإنسان؛ أعطانا المثال الّذي نحتاج إلى الاقتداء به، وشقّ لنا الطّريق الّذي علينا أن نسلكه لكي نلتمس وجه الله، أي لندخل في عشرة الله، أي لندخل في تحاببٍ مع الله. ومن هنا دعوة الرّبِّ يسوع تلاميذَه: “مَن أراد أن يتبعني، فليحمل صليبه، كلّ يوم، ويأتي ورائي” (لو9: 23).
إذًا، هناك عمليّة تمثُّل بالرّبّ يسوع، في حَمْلِ الصّليب. وحَمْلُ الصّليب لا يعني، فقط، أن يحمل الإنسان صليبَ المشاقّ، الّتي يمكن أن يتعرّض لها، في الحياة. هذه ليست في مستوى الصّليب الّذي يتحدّث عنه الرّبّ يسوع. الصّليب الّذي يتحدّث عنه الرّبّ يسوع هو، بالضّبط، صليب المحبّة. حين سُمِّر الرّبّ يسوع على الصّليب، وأسلم الرّوح، أيّة علامة كانت المميَّزَة؟! في إقامة الرّبّ يسوع المسيح على الصّليب، كانت هناك قولةٌ معبِّرَة جدًّا، هي في أساس معنى الصّليب الّذي يتحدّث عنه، هنا. حين قال الرّبّ يسوع للآب السّماويّ: “في يديك أستودع روحي” (لو23: 46)، عبّر عن أنّه اقتبل الصّليب إلى المنتهى! هذا منتهى الصّليب! “في يديك أستودع روحي“! في الحقيقة، الصّليب هو علامة الإيمان الحيّ الحقيقيّ. الإيمان هو التّسليم الكامل إلى الله: أن يُسلم الإنسانُ نفسه وحياته وكلّ ما له إلى الله! أن يجعل نفسه بين يدي الله الحيّ، دونما شروط! من هنا، إنّ الرّبّ يسوع، إذ كان يطلب أن نؤمن به؛ كان يطلب، في الحقيقة، أن نُسلم ذواتنا إليه؛ ومن ثمّ، أن ندخل معه في علاقة حبّ حقيقيّة. من دون هذا التّسليم، من دون بذل الذّات للآخر وفي الآخر، لا تكون محبّة، ولا يكون صليب، ولا يكون إيمان!
لهذا السّبب، يا إخوة، الإيمان ليس قضيّة فكريّة، ليس قضيّة عقليّة، ليس مسألة اقتناع! هذا إيمان في مستوى بشريّ، في مستوى أفقيّ. المطلوب أن يكون سعينا إلى الإيمان هو سعي في مستوى الكيان، أن نجعل كياننا بين يدي الله الحيّ. نحن خـُلقنا، أساسًا، من العدم! هنا، الصّليب يعطينا الفرصة أن نمثّل كونَنا جئنا من العدم؛ ومن ثمّ، يجعلنا نسلك وكأنّنا لسنا بموجودين، لأنّنا جئنا من العدم. إذ نفعل ذلك، إذ نُسلم أنفسنا إلى الله؛ نخرج، عمليًّا، من عدميّتنا؛ لأنّنا، في الأساس، قد جئنا من العدم. لكن، في هذا الخروج، الطّوعيّ الإراديّ، من عدميّة الذّات، يلقى الإنسان نفسه في الوجود؛ إنّما في الوجود كما شاءه الرّبّ الإله أن يكون. الرّبّ، في وقت من الأوقات، حين لم نكن موجودين؛ قال كلمة، في الحقيقة؛ وبالكلمة الّتي قالها، خرجنا من العدم إلى الوجود. هنا، بالصّليب، بالإيمان، يجعل الإنسان نفسه وكأنّه في العدم؛ لأنّه، في الحقيقة، قد أتى من هناك، ويُلقي بنفسه بين يدي الله الحيّ. والرّبّ الإله، إذ ذاك، يعطيه، لا فقط حياةً كالحياة الّتي نحياها على الأرض؛ بل أيضًا، يعطيه أن يصير إلهًا! يعطيه حياة أبديّة!
إذًا، الحياة الأبديّة ليست، أبدًا، رهنًا بمشيئة الله. طبعًا، الرّبّ الإله يريدنا جميعًا أن نصير آلهة، أبناء له، آلهة بالتّبنّي. لكنّ هذا رهن بإرادة كلّ واحد منّا، بإيمان كلّ واحد منّا، باتّخاذ كلّ واحد منّا صليبه، بإلقاء كلّ واحد منّا نفسَه بين يدي الله الحيّ. فإن أدركنا هذا الأمر، وإن تعاطيناه؛ أمكننا، مذ ذاك، أن نمتلئ من محبّة الله. وإذ نمتلئ من محبّة الله، يصير بإمكاننا أن يحبّ بعضنا بعضًا محبّةً حقّانيّة، على صورة محبّة الله، محبّةً لا قنية فيها، محبّةً لا تطلب ما لنفسها، كما سبق للرّسول بولس أن ذكر: “المحبّة لا تطلب ما لنفسها“، على الإطلاق (1كور13: 5)! المحبّة تعطي بلا حساب، ولا تطلب لنفسها شيئًا البتّة. بهذا تستقيم أمورنا فيما بيننا؛ وبذلك، أيضًا، نجدُنا، نحن الّذين أُعطينا آنية خزفيّة من تراب، قد امتلأنا ضياءً ونورًا؛ لأنّ روح الرّبّ، إذ ذاك، يقيم فينا إلى الأبد؛ ليجعلنا آلهة، بكلّ معنى الكلمة.
فمَن له أذنان للسّمع، فليسمع.
* عظة حول متّى10: 37- 42؛ 11: 1 في السّبت 30 تمّوز 2011