والدة الإله الفائقة القداسةعند القديس نيقوديموس الآثوسي
قسطنطين زلالاس
نقلتها إلى العربية رولا الحاج
الجزء الأول والدة الإله معنا
سيادة المطران كيرلّس،
أيّها الآباء القدّيسون، والشمامسة، والرّهبان، وحفظة أيقونة العذراء “نكتاري” المفيضة الطّيب، والإخوة والأخوات، إنّ المسيح ووالدته في وسطنا.
إنّ والدتنا الفائقة القداسة ستظلّ دومًا معنا لأنّنا، وعلى الرّغم من عدم استحقاقنا الكامل، ننتمي إلى أجيال المسيحيين الّذين يدعونها مباركة. إنّ وجودنا هنا في كاتدرائيّة سيّدة “فرح كلّ المحزونين” مع القدّيس يوحنا (مكسيموفيتش) رئيس أساقفة شنغهاي وسان فرانسيسكو، هو استمرار لإتمام الكلمات النّبويّة الّتي تلتها مريم العذراء في نشيدها الرائع بعد البشارة: “ها منذ الآن تطوِّبني جميع الأجيال!” رغم انتمائنا إلى أجيال المسيحيين الأكثر توغّلاً في الخطيئة، فوجود هذه الإيقونة العجائبيّ والعطر أبدًا في ما بيننا يؤكّد ما جاء في النشيد القديم لكنيستنا المقدّسة: “في ميلادك حفظت البتوليّة… وفي رقادك ما أهملت العالم يا والدة الإله“.
هل من برهان أعظم لهذه الحقيقة؟! فخلال السّنوات الخمس الماضية، باركتنا بطيب ابنها الفردوسيّ. مَسَحتنا بالعطر السماويّ للثالوث القدّوس، أي بزيت الإبتهاج، كما جاء في المزمور المسيحانيّ 45 للملك داوود. نعم، يُمكننا أن نفتخر بالرّب، وبوالدته، وبكنيستنا الأمّ، عمود الحقيقة وأساسها! لا نستطيع تذوّق الملكوت في هذه الحياة إلاّ في الأرثوذكسيّة! إنّنا نرى عظائم الله، ونشِّمُّها، ونتذوّقها، ونلمسها، ونعيشها بأجسادنا ونفوسنا! عمّانوئيل، الله معنا! وفي الوقت عينه، نحزن لتيتمّ ملايين المسيحيين غير الأرثوذكسيّين من حولنا، لأنّهم لم يختبروا في الحقيقة الحضن الدافئ لأمٍّ بهذه العظمة – وهو القبلة العذبة لأمّنا السّماويّة. إنّ الطّيب الفائض من هذه الأيقونة الّتي تلامسها شفاهنا غير الطاهرة، هو أعذب قبلة من – أيقونة القبلة العذبة لأمنا العذراء.
لقد نجح داوود النبيّ والملك، جدّ العذراء القدّيسة، ، بنقل وبشكلٍ جميلٍ ما اختبرناه مع طيبها العجائبي، هذا الطّيب الّذي ما انفكّ يفيض ليس في هذا الأسبوع فحسب، بل خلال السنوات الخمس الماضية. فقد كتب منذ حوالى 3060 سنة عن عظائم المسيح، وعروسه الكنيسة، ووالدة الإله – العذراء مريم – لأنّ أمّنا العذراء هي مرادف للكنيسة – وأستشهد هنا بما يلي:
“لذلك مَسحك الله إلهك بزيت الإبتهاج (elaion aggaliaseos)، أفضل من رفاقِكَ.”
يا لها من نبوءةٍ مُدهشةٍ حول السرٍّ الخفيّ – الخفيّ قبل كلّ الدهور! إنّ الزيت مادّيّ، ولا يُمكن المسح بالزيت إلّا في العالم الماديّ! فالرّوح لا يمكن أن تُمسح بالزيت! أيّ إله يمكن أن يُمسح بالزيت؟ إنّه الله الّذي يمكن ان يَخطُبَ لنَفسِه خليقته الماديّة، في الزمن. تشير إذًا عبارة “مسحك الله إلهك…” إلى طبيعة المسيح البشريّة.
لقد أخفى الشيطان هذه الآية عن آريوس ومعاصريه، الّذين حاربوا ألوهيّة المسيح. تذكّروا كيف خاطب الله الثالوث يسوع المسيح كإله منذ 3060 سنة تقريبًا! إنّ الآية التّالية لا تقلّ روعة عن هذه: “المُرّ والمَيْعَة والسَّليخة تفوح من ثيابِكَ… ثيابك كلّها معطّرة بالمرّ…” إنّها نبوءة مدهشة عن الأشخاص المقرَّبين من المسيح: أوّلاً مريم العذراء، ثمّ العذارى القدِّيسات كلّهنّ اللواتي ستقودهنّ إلى هيكل المَلك، بحَسب ما جاء في المزمور نَفسه. لقد تقدّسنا كلّنا وسَتَرنا عُريَنا الرّوحيّ بالرّداء المسمّى المسيح! لأنكم تعَمَّدتُم جميعًا في المسيح فلَبِستُم المسيح، كما يقول القدّيس بولس.
إنّ آدم وحواء أُلبِسا رداءً من نسج الله، رداءً غير ماديّ، رداء النّور غير المخلوق… ولكن بعد عصيانهم المأساويّ، خَسرا ذلك الرّداء العطر، وأُلبسا جلود الحيوانات الميتة. خَسرا رائحة الفردوس، واختارا رائحة الموتِ والفساد… إنّ سوء استخدام أسلافِنا لعطيّة الإرادة الحرّة أزال الله من قلب حياتهم، إذا جاز التّعبير… ومع هذا، تعيَّن على محبّة الحكمة الأقنوميّة وشوقها أن تعيش بين النّاس… فأحد ألقاب المسيح في العهد القديم هو حكمة الله. نقرأ في الفصل الثّامن من سفر الأمثال “كنتُ (الحكمة) عنده صانعًا مبدعاً، ومسرّاتي مع بني البشر…”
لن أقرأ عليكم آياتٍ بعد الآن…إنّها طريقة جيّدة لجعل بعضكم يقرأ الفصل كلّه.
منذ عدّة أسابيع، كنت ألقي حديثًا في إحدى رعاياكم، في كنيسة الرّسل القديسين، في بيلتسفيل– مريلاند، وكانت لنا مفاجأة سارّة مفرّحة… زارنا الميتروبوليت هيلاريون Ilarion وبقي لسماع الحديث. عارضتُه، وحَاولتُ أن أُقنِعَه بأن يُعلّم، ولكنّني لم أنجَح. ذهلتني بساطَته وتواضعه… لا عجب أن يُباركُكَ الله بأيقوناتٍ عجائبيّة عندما تتوفّر مثل هذه القيادة… حَاولتُ أن أقنِعَهُ مُجدّدًا بإلقاء كلمة بَعد حَديثي، فقال بِضعَ كلِمات. مع هذا، لقد كان المعلّم الحقيقي في تلك الأمسيّة. عَلَّمنا جميعًا بتواضعِهِ وبساطتِهِ. نسأل الله أن يمنحه وكَهَنَته كلّهم العمر المديد! وبين المُلاحظات الّتي ذكرها في تلك الأمسيّة أنّه لفَتَ إلى كسلِنا، نحن الأرثوذكسييّن، في قراءة الكتاب المقدّس… لذلك، رأيتُ أنّه من الجيّد، من الآن فصاعدًا، أن أذكر الفصل (فحسب)، وأولئك الّذين يُحبّون كلمة الله فعلاً سَيقرأون الفصل لإيجاد الآية.
فمسرّة الحكمة إذًا – في الفصل الثّامن من سفر الأمثال – كانت في لبس الأردية والعيش مع بني البشر. كانت هذه مسرّة الله (kat’evdokian)– إرادة الله السابقة أو الأوليّة. خَلقَ الله الكون كلّه مِن خِلال صانعه المبدع، الحكمة – كَلِمتَه، وجمّله ليشاركنا محبته.
ولكن بعصيان آدم وحواء إرادة الله، أصبحت الحكمة بلا مأوى. الخطيئة، والموت، والفساد كلّها عزلَت الطّبيعة عن الله. اضطُرّ الله أن يستعير أرديته الماديّة الأولى من هذا العالم الماديّ، ولكنّه لم يجد ما يتلاءم وطهارته الفائقة. وِفقًا للقدّيس غريغوريوس (بالاماس)، رئيس أساقفة تسّالونيكي، لا يستطيع الله أن يَلمس ما كان دنسًا، والسّقوط جَعَل العالم دنسًا. وأمسَت أردية الإنسان ملوّثة بالدمّ والخيانة والشَّر.
يقول آباء الكنيسة والقدّيس نيقوديموس الآثوسي، إنّ تجسّد الله مُستقِّلٌّ عن السّقوط. فالحمكة كان سيتجسّد بغضّ النّظر عن السّقوط. إنّ الهدف الأساسي للإنسان هو أن يبلغ التألّه، ولا يُمكن أن يَتحقّق ذلك من دون الإتحاد الأقنوميّ لطبيعَتَي المسيح. فرغبة الله السّابقة أو الأوليّة إذاً، كانت أن يتجسّد ويعيش مع خليقته. كانت مسرّة الحكمة أن يعيش مع بني البشر.
بفضل معرفته المُسبقة بالسقوط قام الله، قبل الدهور، ببعض التعديلات الطفيفة. هذا ما يُسمّيه شيخي ومُعلّمي أثناسيوس ميتيلناوس ارادة اللهالامتيازيّة أو الثانويّة. إنّه أمرٌ مهمٌ للغاية وخاصّةً بالنسبة إلى أولئك المُهتَدين الّذين قد يقعون في صراع مع عقيدة التحديد المسبَق الغربيّة. فمعرفة الله المُسبقة لا تتعارض ومفهوم إرادة الإنسان الحرّة. الله يسبق فيحدّد، بإرادته الأوّليّة، ولكنّه يصحّح الخيارات السيّئة لإرادة الإنسان الحرّة بإرادته الثانويّة. مثلاً، كانت إرادة الله الأوليّة أن يبقى آدم وحوّاء في الفردوس من دون خطيئة، ويتكاثر الجنس البشريّ، ويتضاعف بعد ذلك بطريقةٍ ملائكيّةٍ.
ولكن نظرًا إلى السقوط، تلك الخطيئة الجديّة المأساويّة، عيَّنَ الله بفضل معرفته المُسبقَة شبكة أمان تُعرف بالجنس أو الزواج. إنّ الزّواج بين الرّجل والمرأة هو إذاً شبكة الأمان الّتي تحمي الإنسان من نتائج السّقوط الأوّل الموروثة. كانت البتوليّة والطهارة ارادة الله الأوليّة، أي حالة ملكوته. بارك الله بالتأكيد الزّواج، إلّا أنّ الزّواج يشكّل ارادة الله الثانوية، وبالتّالي، لن يكون موجودًا في ملكوت الله، حيث لا يسود إلاّ رغبته الأوليّة.
فيما كنت أكتب هذه السطور، ألقيت نظرة سريعة إلى الفصول الأولى لسفر التّكوين. في نهاية كلّ يوم من أيام الخلق، استخدم الله العبارة التالية:” ورأى الله أنه حسنٌ“. كرَّر ذلك مع مخلوقاتِه الطبيعيّة كلّها ولكن ليس مع مخلوقاته البشريّة.
وهنا نقرأ: “خَلَق الله الإنسان على صورَتِهِ، على صورة الله خلق البشر، ذكرًا وأنثى خَلقَهُم“. هنا لا نجد عبارة ورأى الله أنه حسنٌ.
غير أنّنا نقرأ في نهاية الفصل نَفسه: ” ونَظَر الله إلى كُلِّ ما صَنَعَهُ، فرأى أنَّهُ حَسَنٌ جِدًا“. فوِفقًا للقديس نيقوديموس، الّذي غالبًا ما يَستشهد بأقوال القدّيسَين غريغوريوس بالاماس ومكسيموس المعترف، تتضمَّن عبارة أنَّهُ حَسَنٌ جدًّا مُساهمة العذراء الكليّة القداسة. إنّ عفّتها وطهارتها المذهلتين تؤازران الله في معاكسة سقوط آدم. فهي قد أصلَحَت بكلماتها ” ليكن لي بحسب مشيئتك” إرادة آدم السّقيمة. وقع اختيار الله عليها ليجدّد الإنسان من خلالها عندما قال أنَّ كل شيء، كان حقًّا حسنٌ جدًا.
إنّ الخطيئة، الّتي استمرّت في آدم ونسله، جعلت الحكمة بلا مأوى وعاجزةً عن امتلاك أردية (أي طبيعته البشريّة). كان يحتاج إلى بيت بحسب ما جاء في الفصل التاسع من سفر الأمثال: “الحكمَة بَنَت بيتها. نَحَتت أعمِدتها السَّبعة“… إنّ بيت الحكمة وهيكلها الحقيقيّ هما مريم الناصريّة. كانت الحكمة تحتاج إلى عذراء طاهرة لتجعل منها رداءً لها، وتتمكّن بالتالي من أن تلِد عروسها الكنيسة، وتؤسسها على الأعمدة السبعة – أي أسرار الكنيسة المُقدَّسة – وتهتف: تعالوا، كُلوا مِن طعامي واشربوا الخمر الّتي مزجتها بالماء!… ذاك الماء هو إناء الماء الحارّ، يَحمله خدّام المذبح إلى الكاهن الّذي يُقيم الذبيحة.
ما كان أيّ من هذه الأسرار ليتمّ لولا عبارة عذرائنا المفيضة الطّيب: ” ليكن لي بحسب قولك“.