العلاج النفسي الأرثوذكسي
الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس
عند تحليلنا للتعليم الأرثوذكسي عن شفاء الإنسان نستطيع استخدام عبارة “العلاج النفسي الأرثوذكسي” لكي نعني شيئاً مختلفاً تماماً عما يحدث في العلاج النفسي الإنساني.
بحسب التعليم الأرثوذكسي، “العلاج النفسي” هو بالضبط ما تقتضيه الكلمة: شفاء نفس الشخص، وبمعنى أشمل، شفاء كل الكيان الإنساني. لا تتكون نفس الشخص من مجرد ردود أفعاله النفسية لبيئته الاجتماعية؛ إنها العنصر الروحاني في وجوده. للإنسان، المخلوق من قِبَل الله على صورته ومثاله، نفس وجسد، وهما يصنعان معاً شخص واحد وحيد. للنفس ثلاثة جوانب أو قوى: الجانب العاقل، والجانب المريد، والجانب الحسي. توجد نتائج للطريقة الإيجابية أو السلبية التي تعمل بها هذه القوى تؤثر على الجسد وعلى الخليقة. أيضاً، وبحسب طريقة أخرى لتصنيف أجزاء النفس، هي لها نوس وإرادة حرة.
إننا نربط كلمة “العلاج النفسي” بصفة “أرثوذكسي“، ونتكلم عن العلاج النفسي الأرثوذكسي، لأن الطوائف المسيحية المختلفة تتعامل مع هذه المسائل بطريقة مختلفة عن الكنيسة الأرثوذكسية بعلم اللاهوت الخاص بها وبكل تقليدها. تظهر حقيقة أن العلاج النفسي العلماني ظهر في الغرب وانتقل من هناك للشرق أن التقليد وعلم اللاهوت الغربي كانا جاهلين بهذا العنصر الروحاني في الوجود الإنساني.
تعطي السكولاستية، كما ظهرت في العديد من المدارس وتبلورت بواسطة توما الأكويني في كتابه Summa Theologica ، وهو كتاب يشرح التعليم الكاثوليكي السائد، الأولوية للعقل والمنطق البشري. لقد تعامل الكتاب مع موضوع الله بطريقة عقلية منطقية، وتكلم عن الدلائل الوجودية على وجود الله. كنتيجة لذلك، أنكر التنوير الغربي وجود الله والغيبيات بصفة عامة، في إنجلترا من خلال التجريبية الفلسفية كما في فرنسا وألمانيا من خلال المادية والمثالية، وجاء هذا الإنكار كرد فعل مضاد للسكولاستية.
اعتمد المدخل الأخلاقي، الذي أسسه البروتستانت، على التشديد على السلوك الخارجي. يتكلم البروتستانت على الولادة الثانية للشخص بطريقة معجزية وفورية، دون أن تلعب إرادته الحرة دوراً، مما يدخل في الواقع عنصراً من القدرية (determinism). بالتالي، يترك العالم الداخلي للمرء غير مشفي.
إلا أنه في علم اللاهوت الأرثوذكسي، يرتبط العلاج النفسي ارتباطاً وثيقاً بالولادة الثانية للإنسان وتحول كل طاقات نفسه وجسده، الذي يتحقق من خلال نعمة الله، والأسرار، والنسك داخل الكنيسة. توحد الأسرار المسيحي بالمسيح. من خلال المعمودية المقدسة يصبح المرء عضواً في جسد المسيح؛ ومن خلال الميرون يتلقى عطية الروح القدس؛ ومن خلال المناولة المقدسة يتحد مع المسيح. يظهر أيضاً التعليم الأرثوذكسي النسكي، الذي يوصف أيضاً على أنه هدوئي وصحوي، الطريقة التي يستطيع بها الكيان الإنساني الاشتراك في نعمة الله غير المخلوقة. تشكل الأسرار بدون نسك إدراكاً آلياً وسحرياً للحياة المسيحية، على حين يقدم النسك بدون أسرار نوعاً من الأخلاقية والتقوى.
من الممكن أن يكون تعبير “العلاج النفسي” مقبولاً لاهوتياً عندما يُرى من منظور أرثوذكسي ويُستعمل للإشارة لشفاء النفس البشرية، وذلك على الرغم من كونه مستخدماً من قِبَل المعالجين النفسيين المعاصرين في الغرب. على الرغم من أن الآباء لم يستعملوا هذا التعبير، إلا أن هذا لا يعني أننا لا نستطيع استعماله، بشرط ألا نتوه بعيداً عن التعليم الأرثوذكسي. لم يتردد الآباء القديسون في استعمال تعبيرات كان لها معنى مختلف في عصرهم، لكنهم حملوها بمعنى جديد.
مثلاً، في عصر الآباء الكبادوك، كانت الكلمة اليونانية “شخص” (prosopon) تعني “قناعاً“، وكان من السهل أن تخدم أغراض التعليم الهرطوقي الخاص بسابيليوس. إلا أن الآباء القديسين أعطوا جوهراً لكلمة “شخص“، واستعملوها لوصف الآب والابن والروح القدس، داحضين في نفس الوقت تعليم سابيليوس الهرطوقي. لا تكمن المشكلة في المصطلحات بحد ذاتها ولكن في معانيها.
علم اللاهوت الأرثوذكسي تقليدي ولكنه غير محافظ (conservative). إننا نعي جيداً أن التقليد، الذي انتقل إلى يومنا هذا بطريقة ديناميكية، يختلف عن المحافظة، الذي يلتزم بالتكرار الميكانيكي الخارجي لكلمات من الماضي. بالتالي، من الممكن تفسير تعبير “العلاج النفسي الأرثوذكسي” على أنه “الطريقة العلاجية للآباء“.
بالإضافة إلى ذلك، لا يقتصر مصطلح “العلاج النفسي” على النفس، ولكنه يشمل أيضاً الجسد لأنه توجد رابطة قوية بين النفس والجسد. إنه يتعدى تطهير القلب من الأهواء فمجاله أوسع. نحن نعلم أن لاهوت الآباء يتكلم عن الاستنارة، والتنوير، ورؤية الله الدائمة. لا ينتهي الكمال، بالتالي يتلقى الإنسان الشفاء باستمرار. يتعين على الشخص لكي يُشفى أن يُستعلَن النوس الخاص به، وينبغي عليه أن يقتنى تذكر غير منقطع لله وأن يصبح سماءً في قلبه. ينبغي على النوس أن يُضبط بطريقة مناسبة. لذا لا أنظر للشفاء على أنه التخلص من بعض الأفعال الخارجية والأهواء العظمى. لقد أظهرت خبرة الكنيسة أنه كلما رأى المرء الله بنوس نقي، كلما شعر بعدم طهارته.
بالإضافة إلى ذلك، طالما أن رؤية أن علم اللاهوت الأرثوذكسي هو “علم علاجي” قد يساء تفسيرها حيث يحتجون مستندين على حقيقة أن الأرثوذكسية هي إيمان مُعلَن، لابد من تقديم بعض التفسيرات.
المسيحية هي إعلان الله للجنس البشري، فهي إيمان معلَن. لقد أكدت على هذه الحقيقة عدة مرات في كتابي “الطب النفسي الأرثوذكسي“، بالإضافة إلى حقيقة أن عقائد الكنيسة (التي هي في أساسها تعريفات تحدد الحدود بين الحياة والموت) ترتبط بالخلاص والشفاء الحقيقي. لو تأثرت العقائد، تختل على الفور إمكانية الخلاص أي الشفاء. على كل حال، ليس الإيمان شيئاً تجريدياً، ولا هو مجرد نظام من الحقائق ينبغي قبوله خارجياً وبطريقة ميكانيكية. مثل هذا القبول ضروري، لكنه ليس كافياً بذاته. يُقدَم الإعلان للشخص الذي شُفي.
لقد استعد الرسل القديسون على مدار ثلاث سنوات لتلقي “كل الحقيقة” يوم الخمسين. يرتبط الإيمان ارتباطاً وثيقاً بالشفاء، لأنه بدون شفاء يكون لدى حتى الشياطين إيماناً خارجياً بالله، بما في ذلك الإيمان بالثالوث القدوس. يرتبط الإيمان بالحياة ارتباطاً غير منفصل، وإن كان أحد يؤمن بالله فإنه ينبغي عليه أن يتجدد ويولد ثانية. لو آمن الشخص بالطبيب، فإنه يتبع تعليماته لكي يُشفى. بالتالي يؤكد الآباء القديسون على أنه ينبغي علينا أن نجاهد لكي نتقدم من الإيمان الآتي من سماع (الإيمان البسيط) إلى الإيمان المبني على رؤية الله، وبتعبير آخر، إلى الشركة مع الله. تعتمد هذه الرحلة من الإيمان البسيط إلى الإيمان الكامل على شفائنا.
لا تخلق رؤية أن المسيحية هي علم علاجي مشكلة خاصة لأنها لا تستعمل كلمة “علم” بالمعنى الحديث للكلمة، كفرع للتعليم أو النشاط الذهني، أو كتلة من الحقائق المنظمة، ولكن بمعناها الأصلي.
الكلمة اليونانية لكلمة “علم” هي episteme تأتي من فعل “يعرف” ولها معانٍ متنوعة في الكتابات الكلاسيكية والآبائية. يعطي قاموس “ليدل وسكوت” عدة معانٍ للكلمة منها “المعرفة“، “التعرف على مسألة“، “الخبرة“، “المهارة“، “والمعرفة العلمية“. كل هذه المعاني تشترك فيها الكلمة الإنجليزية science . بالتالي أنا أستعمل الكلمة لأشير إلى المعرفة العملية للشفاء، وأعني أن الكنيسة الأرثوذكسية تجاهد من خلال علم اللاهوت الخاص بها وكل تقليدها لكي تشفي الناس روحياً، مما يعني بصورة رئيسية شفاء النوس المريض الخاص بهم وأهوائهم. الأرثوذكسية هي حقيقة معلنة. إنها ليست اكتشافاً لقدرة الإنسان العقلية، ولكنها استعلان الله نفسه للقلب البشري النقي. بالتالي تمتلك الأرثوذكسية معرفة عملية للطريقة التي ينبغي على الشخص اتباعها لكي يُشفى. هنا في هذا المعنى، أؤكد على أن الأرثوذكسية، أو علم اللاهوت، هو علم وتعافي علاجي.
لكي أتجنب أن أعطي انطباعاً أنني أبتكر في هذا الموضوع وأستعمل مصطلحات خاصة بي، ينبغي عليّ أن أشرح أن مصطلح “علم” كمنهج علاجي حقيقي مذكور في كتابات القديس ديونيسيوس الأريوباغي وآباء آخرين استعملوا الكلمة لتحديد كيف ينبغي علينا أن نستعد للشركة والاتحاد بالله وللمعرفة الدقيقة عن الله.
عندما يحلل القديس ديونيسيوس الأريوباغي في كتاباته درجات الكمال الروحي التي هي التطهير، والاستنارة، والاتحاد بالله، فإنه يستعمل كلمة “علم” بصورة متكررة. إنه إذ يتكلم عن كيفية تحقيق الكمال يقول: “يقدم سرا المناولة والميرون معرفة كاملة وعلم معرفة الأعمال الإلهية“. وفي موضع آخر يناقش مسألة البطاركة الذين لهم خبرة الاتحاد بالله والذين يساعدون أيضاً الآخرين على تحقيق الاتحاد بالله ويكتب قائلاً: “إن درجة البطريرك هي التي تمتلك ملء قوة التكميل. قبل كل شيء هي تمارس طقوس الرئاسة المكملة وتحفز الآخرين بشرح علوم الأشياء المقدسة“. بتعبير آخر، يشير القديس ديونيسيوس إلى خبرة الاتحاد بالله وكل حياته، بل وحتى المسيرة المؤدية إليها على أنها علم. في نص آخر، إذ يتكلم عن عمل البطاركة والكهنة، يؤكد على أن درجة البطريرك “قادرة ليس فقط على جلب الكمال ولكن أيضاً على الإنارة والتطهير بمهارة، ودرجة الكهنة هي مدعمة بعلم الإنارة والتطهير“.
يشير أيضاً القديس غريغوريوس النيصي مراراً إلى هذا الموضوع. فهو يتكلم عن “الرعاية العلاجية“، و“المنهج العلاجي“، و“علم التمييز بين الخير والشر“.
أيضاً القديس أندرواس الكريتي يستعمل هذه المصطلحات. إنه يكتب في أحد عظاته قائلاً: “لقد قيل لأحد اللاهوتيين الذي تكلم عن أمور مقدسة وكان مدرباً على أمور الله بحكمة وعلم…..”. ليس كافياً للمرء أن يعرف الله فقط، ولكن ينبغي عليه أن يعرفه “بطريقة علمية” مستعملاً المنهج المقتنى من قِبَل الكنيسة الأرثوذكسية. من الجائز أن يقتني المرء معرفة عن الله فيها ضلالة فلا تكون حقيقية و“علمية” لو أنه لم يستعمل المنهج العلمي والعلاجي المناسب.
ترد عبارة “علم الطب الروحي” في القانون 102 للمجمع المسكوني الخامس–السادس وهي تُستعمَل لتحديد طريقة شفاء الإنسان. من هنا أن أستعمال تعبير “اﻷرثوذكسية كعلم علاجي” هو بمعنى مختلف عن المعنى الذي يستعمله المعاصرون.