الغاية من وجود الإنسان– 1
من قناع الشخصية الاجتماعية المعاصرة إلى الشخص في المسيح
عند القدّيس غريغوريوس بالاماس
الشيخ أفرام الفاتوبيذي
نقلتها إلى العربية رولا الحاج
تنقيح راهبات دير سيدة كفتون
إنّ لاهوت الشخص، كما تمّ كشفه في التقليد النسكيّ الهدوئيّ، هو أهمّ برهان يناقض الفرديّة ونسبيّة القيَم في المجتمع المعاصر. ليست الطريقة النسكيّة الّتي تعتمد الدخول في الذات والهدوئيّة (hesychia) ضربًا من العلاجات النفسانيّة، بل هي الطريقة الأصيلة الوحيدة لتحويل “القناع المَقيت“ إلى شخص.
لا بدّ من الإشارة إلى أنّ لاهوت القرن الحادي والعشرين سوف يتميّز باهتمامه بعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا)1. فإن كنّا اليوم مقصّرين في تقصّي الحقائق الأنثروبولوجيّة بالنّسبة إلى علم اللاهوت، ماذا نقول عن ميادين الفلسفة، والفكر والعلوم الإجتماعيّة والإنسانيّة.
إنّ أعضاء المجتمع المعاصر اليوم يجهلون ما هو الشخص. ما يعيشونه ويبرزونه هو قناع الشخصيّة الاجتماعيّة persona . ما هو القناع؟ إنه وجه مستعار استخدمه الممثّلون في حضارة الإغريق ليتمكّنوا من أداء أدوارٍ عدّة – شخصيّات– على المسرح. إذًا، ليس هذا القناع حقيقيًّا بل مصطنعًا، إنّه حقيقة وهميّة، إن أردنا استخدام مصطلح تقنيّ حديث. علينا أن ننزع هذا القناع الزائف ونستبدله بالوجه الحقيقيّ الذي هو في هذه الحالة الشخص person.
لم يُعطِ آباء الكنيسة تعريفًا للشخص. ولكنّهم استخدموا هذا المصطلح للإشارة إلى عظمة الإنسان وقيمته الكبيرة. يكتب باسيليوس الكبير أنّ الأشخاص هم الحيوانات الوحيدة الّتي من صنع الله2. ويقول القدّيس غريغوريوس اللاهوتيّ إنّ الله صنع مخلوقًا– الإنسان– هو مزيج الطبيعة المنظورة وغير المنظورة، وهو “عالَم“ آخَر بحدّ ذاته، “مصغّر عن الكون العظيم“3. ويشدّد القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم على أنّ “الشخص هو أفضل ما أتقن الله من المخلوقات الحيّة“4.
إنّ البشر هم ذروة الخليقة، والتوق نحو الكمال فطريّ لديهم. يمكن ملاحظة هذا الأمر خلال القيام بأيّ نشاط أكاديميّ، أو فنّ، أو مهنة. يحاول الناس، بقدر ما يستطيعون، أن يبلغوا الكمال حتّى في أنشطتهم اليوميّة. وهذا الأمر دليل على القدرة التي منحنا الله إيّاها من أجل كمالنا الشخصيّ واكتمال كياننا النفسيّ الجسديّ.
في العالم المخلوق، ليس أسمى منّا نحن البشر. “فأدنى مراتب المخلوقات، رغم بعض الملَكات العقليّة لديها، لا تملك هدفًا مستقلاًّ، بل إنّ الغاية منها التمهيد المادّيّ لوجود الجنس البشريّ. أمّا البشر فيتوقون إلى حقيقة شخصيّة غير محدودة (الله) تسمو عليهم ويمكنها أن تغذّيهم إلى ما لا نهاية. إنّها حقيقة لا يمكنهم امتلاكها، لأنّ قدرتهم محدودة، ولكنّهم لن يذوبوا فيها“5. إن هذا الإله الشخصيّ هو الذي يمنح وجودنا معنًى وهدفًا. وتستطيع طبيعتنا البشريّة، بأقانيمها (أشخاصها) التي لا تعدّ ولا تحصى، التواصل وأشخاص الثالوث القدوس المتمايزة والمتبادلة داخليًّا من خلال القوى الإلهيّة.
بالتوافق والآباء القدّيسين، لا يعطينا الشيخ الراحل صوفروني تعريفًا معيّنًا للشخص، إنّما الأهمّ في لاهوته النسكيّ هو تأكيد وجود الشخص، ممّا يقوده إلى وصف قدراته. الحقّ إنّه لا يمكن تعريف الشخص، ولكن يمكن تحديد ميزاته، بشكل حيويٍّ وجوديٍّ، من خلال قواه الظاهرة6. يَظهر الشخص الكامن في “إِنْسَانَ الْقَلْبِ الْخَفِيَّ“7 عندما يكتشف هذا الكائن، بنعمة الله، ميدان القلب، أي جوهر كياننا.
وللقدّيس غريغوريوس بالاماس كلامٌ مهمٌّ هو محور هذا المقال: عندما يبتعد الذهن، أي العقل الأعلى، عن سائر الأمور المرئيّة من خلال ممارسة النسك الأرثوذكسيّ، ويرتفع فوق الإضطرابات الناجمة عن الإهتمام بالأمور الماديّة، ويراقب بالأحرى الكيان الداخليّ، حينئذٍ يرى “القناع المقيت“. هذا القناع الشنيع ينتج عن التعلّق بالشؤون الدنيويّة بدافع الأهواء، ويغتذي من الخطيئة ويتضخّم بها. إذًا، يسارع الذهن إلى تنقية هذا القناع بالنوح والتوبة، ساعيًا إلى إزالة القناع القبيح بالنسك وحفظ وصايا الله. ويتابع القدّيس غريغوريوس قائلاً إنّ الروح لا تعود تتشتّت بفعل تنوّع الخطيئة، فتكتشف سلام قواها النفسيّة وتناغُمَ العقل والهدوء الداخليّ الحقيقيّ، وبالتالي تتمكّن من معرفة الله ومعرفة ذاتها أكثر8. ثمّ يتحوّل “القناع المَقيت” إلى وجهٍ، والشخصيّة الاجتماعيّة إلى شخص، على صورة شخص المسيح، المتأنس، الحقيقيّ والأزليّ، ووجهه.