أين تُخفِقُ الكنيسة اليوم في تربية الشباب؟ تربية الشباب في يومنا هذا
للمتروبوليت أثناسيوس أسقف ليماسول
ترجمة رولا الحاج
في مفهوم الكنيسة، التّعليم يَعني “التوجيه”، أيّ توجيه النّاس لا لأفكارٍ مُعيّنة أو قِيَم أو مِثاليات، بَل توجِيههم إلى محبة إلهنا يسوع المسيح. التّعليم في الكنيسة يَعني أن نُعلّم النّاس محبة المسيح وهذا أساس كلّ شيء. تتكلّم الكنيسة عن محبة الله. هناك مفهموم علمانيّ للدين، للكنيسة، يتكلّم فقط عن الإيمان بالله لكنّ الكمال في الكنيسة هو الحبّ الّذي سيَبقى إلى الأبد، إذ إنّ الإيمان والرجاء سوف يزولان في اليوم الأخير، والّذي سيَبقى هو الحبّ. لذلك فإنّ التّحدي هو أن يَتعلّم النّاس محبة الله. والخطوة الأولى الأساسيّة هي الإيمان بالله، والّتي تَسمو إلى الخطوة التّالية وما يليها. علينا ألاّ نَحُدَّ أنفسَنا بذلك، لأنّه لا يُمكن لشخصٍ أن يُعطي حياتَه كلّها لشيء يؤمن به فقط. إذا تواجد أشخاصٌ مثاليّون، فباستطاعَتِهم أن يؤمنوا كما يحدث في حالات أخرى من الحياة اليوميّة الّتي نراها من حولنا. أمّا الكنيسة، فقوامها محبة المسيح. بالنسبة إلينا، المسيح هو كلّ شيء، هو مُعلمّ الكلّ. أنظروا كيف يقول الربّ بشكل جميل في الإنجيل: “تعلمّوا منّي…”. هذه هي الحقيقة، يتعلّم النّاس من المسيح نفسِه، من حياتِه، ومِن كلماتِه ولكن فوق كلّ شيء بِعَيش خبرة محبة الله بداخلهم. لهذا السبب، هذه الخبرة مُهمّة جدًّا بحيث تَتغلّب على كلّ محبة أخرى في العالم.
لا يَكفي، يا أحبائي، أن نقول لأولادنا أفكارًا عن الإنجيل، لا يكفي أن نقول أن الإنجيل والكنيسة هُما أفضل ما يُمكن أن يُقدّم لهم وبأن الحبّ والفرح والحرّية والعدالة هي أمور حَسنة. بالطبع هذا كلّه جَيِّد، لكن ما يحتاجُه الشّاب اليوم هو أنّ يَتعلّم محبّة المسيح وكيف أنّ ما تُعطيه الكنيسة هو المسيح، وهذا شيءٌ لا يستطيع العالم أن يُقدّمه لهم. يستطيع الناس أن يتعلّموا دائمًا احترام اخوتهم البشر ومحبّتهم ويكونوا صادقين مَعهم وصريحين وعادلين وديمقراطيّين ومُتسامِحين وكلّ ذلك. الكنيسة لا تَحتاج أن تُعلّم هذه الأمور الّتي تُعلّمها الطبيعة نفسها، لأنّ ذاتنا البشريّة وكيانُنا يُعلّماننا الحريّة والعدالة والديمقراطيّة والإحترام وحبّ الآخرين. ما لدى الكنيسة لتقوله لنا هو محبة المسيح. وهنا، اسمحوا لي أن أقول لكم، ما يُعثّر المسيحيّين اليوم هو أننا نَعتَبِر أنّ الكنيسة نِظامًا إيديولوجيًّا وأنّه يكفي أن نكون أناسًا صالحين، ونُتمّم واجباتنا، ونَضع حدًّا لأولادنا وألاّ نكون شرّيرين ونقوم بأمور سيئة. أحيانًا نلتقي بأشخاصٍ يقولون أشياءً نَسمَعُها، فنَبتسم بتهذيبٍ طبعًا، لكن هذا لا يُعبّر عن الكنيسة. ما الّذي يقولونه؟ “إنّه الأفضل أن نكون في الكنيسة مِن أن نتوّرط بالمخدرات أو أن نكون في السّجن”. كما لو أنّ الكنيسة هي نقيض المخدرات والسِّجن. يُمكن للمرء أن يقول كما قال الجَمَل ذات مرّة “ألاّ يوجد طريق مستقيم، وهو الطريق الوسط” (أيّ خَيرُ الطرق أوسَطُها). إذًا، إمّا الكنيسة أو المخدرات؟ هل يعني هذا أنّ أيّ شخصٍ خارج الكنيسة هو مُدمنٌ على المخدرات؟ بالطبع لا! لستَ بحاجةٍ إلى أن تَلتزم في الكنيسة لتكون شريفًا ونبيلاً وصادقًا وزوجًا صالحًا ووالدًا مُتفانيًا وتلميذًا مُجتهدًا وما سوى ذلك من الخصال الحميدة. لهذا السبب غالبًا لا نستطيع أن نَفهم لماذا تَربِط أولادنا علاقة أخرى بالله. لماذا نحن الأكبر سنًّا منهم لا نستطيع أن نفهم؟ فنقول لهم “لماذا تُريد هذا الشيء؟ ألا يكفيك أنّك أصبحت شخصًا صالحًا وعالمًا ذوو شأنٍ هامّ ولديك عَمَلك لتُقدِّمه للعالم وللمجتمع؟ لماذا تُريد المزيد؟ هذه مغالاة وتطرّف وانحراف ومرض. لماذا نُعبّر عن آراءٍ كهذه؟ لأنّنا لا نقيس حياتنا بالحبّ بل من خلال الواجبات. “قُمّ بواجبك وهذا يكفي”. لكن الحبّ يا إخوتي لا حدود له. عندما تُحبّون الله تزول كلّ الحواجز، مثلما يَحدث تمامًا عندما تَهيمون في حبّ شخصٍ مُعيّن. إذا عَشقتُم شخصًا عندها ترغبون أن تَبقوَا معه وتَتحّد حياتكم بِه. أيمكنكم أن تَضعوا حدودًا لهذا الحبّ؟ إنّ الحبّ نارٌ تُحرِق قلب الإنسان، فلا يأتي بقيود وأشكال المنطق بل يَتحرّك لوحده، من القلب وليس من العقل. الكنيسة تُعلّم وتدعي النّاس إلى محبة المسيح فوق كلّ شيء.
كما تعلمون، ويُمكنكم أن تُلاحظوا الظاهرة في الكنيسة في السنين الماضية عندما كانت تَعجُّ بأولاد كُثر. نحن نتذكر، نحن الأكبر سنًّا، أنّه كان أغلب الأولاد حتّى سنٍّ مُعيّنة يذهبون إلى مدارس التّعليم الدينيّ، وإلى الكنيسة وكانت تربطهم علاقة بالله. لكنّهم فقدوها بَعد سنٍّ معيّنة، في الرّابعة عشر أو الخامسة عشر أو الثمانية عشر. بَعضهم التحَق بالجيش وبعضهم تَعلّم، وجهود الناس ذهبت سُدىً مثل التّعليم الدينيّ وغيرها. ما هي هذه الحالة، في رأيكم؟ أين ارتُكِب الخطأ؟ حسنًا، بالطبع يوجد ضُعفٌ بشريّ، وتحديّات، واهتماماتٌ تتكاثر مع نموّ الإنسان لكنّ “غلطة الكنيسة”، أقولُها بين مزدوجين، ليست الكنيسة بحدِّ ذاتها لكنّنا نحن أبناء الكنيسة، للأسف، الّذين لم نُدرِك بأنّه كان علينا أن نُعلّم أولادنا محبّة المسيح. فزوّدناهم بأفكارٍ من الإنجيل “كُن طفلاً مُهذبًا، مُحترمًا، أحبِب الآخرين، قُم بأعمال خيريّة، وكُن نزيهًا” لكنّنا لم نتكلّم عن محبة المسيح وذلك لأنّ اللاهوت بالنسبة إلينا هو مثاليّ، وفلسفيّ، وإنسانويّ. لقد تَجاهلنا محبّة الله وما مِعنى أن نُحبّ المسيح. لهذا السبب لم يَعُد مُهمًّا للنّاس أن يتعلّموا الصوم، ويُشاركوا بالسهرانيات، ويَعتَرفوا، ويَتناولوا، ويَقرأوا سِيَر القدّيسين. فكان يَكفي قراءة كُتب أخرى، أمّا كُتب القديسين فوُضِعت جانبًا وحياة الكنيسة النُسكيّة أُهمِلَت، وقد تَمَّ تهميش الإنسان وهو المدعوّ أن يذوق خبرة المسيح في سرّ الكنيسة. اعترضت سبيلَه أمورًا أخرى لهذا السّبب كنّا نَخسَر النّاس، الواحد تلو الآخر، كلّما بَلغوا سنّ الرشد. طبعًا، للخطيئة إقتدارٌ ولذّة، فهي تَجذبُ النّاس إليها وتأسرهم. من ناحية أخرى، ما الّذي يَستهوي النّاس مرّة أخرى؟ ألافكار؟ فإنّ الأفكار هي ظِلال ميّتة للحقيقة. لا يُمكن لفكرة واحدة أن تحفظك، مهما تكون من أصحاب الإيديولوجييات.
لحسن الحظ تلك الأيّام ولّت، ويبدو اليوم أننا قد شُفينا وأعدنا اكتشاف جذورنا وتقاليدنا. ها نحن نرى شبانًا في الكنيسة، يُحبّون الله، ويدخلون الكنيسة بفكرٍ جديد ورؤيةٍ جديدة. قد تكون لديهم صعوباتهم، ومشاكلهم، وسقطاتهم، وضُعفاتهم مثلنا جميعًا، لكنّهم يَصغون لمحبةً الله. وهذا ما علينا أن نقوله لأولادنا يا إخوتي، أن يتعلّموا أن يُحبّوا الله. وعندما يُحبّون الله، تَنكشِف في داخلهم خبرة محبة الله، حينها يَكتسبون معرفة ويَحصلون على مضادٍ روحيّ قويّ في داخلهم، يوازي ثقل الخطيئة. وبهذه الطريقة، في حال سَقطوا في الخطيئة، سوف يكون لديهم حضور محبة المسيح ليُعزي قلوبهم. إنّهم يعرفون بأنهم لا يَستطيعون أن يَخلُصوا بقوّتهم الخاصّة، ولا برؤيتهم الخاصّة بل بمحبّة الله، ورأفته، ورحمَتِه، وبتضحية المسيح على الصليب من أجلنا جميعًا.
إذا تَحدّثنا عن التربية في الكنيسة اليوم، فنَحنُ نتكلّم بالتّحديد عن هذه الخطوة وهذا التوجّه “ساعدوا النّاس ليُحبّوا الله”.