قد يجد الأرثوذكسي التقليدي صعوبة في التعامل مع لاهوت التحرير. والسبب يتأتّى من استعمال عبارة لاهوت لتسمية هذه. فأرثوذكسياً، معنى كلمة “اللاهوت” هو طبيعة الله، لذا اللاهوت يبدأ من الله وليس من الإنسان، يبدأ من الوحي ومن ثمّ يظهر أو يتجسّد في الواقع. أمّا لاهوت التحرير فقد عكس الآية والمسار. من هنا أن هذا البحث لن يناقش التسمية، بل سوف يسعى إلى تسليط الضوء على نشوء هذا الفكر وانتظامه وتفاعله، وماآل إليه في حضن الكثلكة، وإرهاصاته في الكنيسة الأرثوذكسية.
اهتمام لاهوت التحرير الأول هو الوضع الاجتماعي للإنسان، فهو دعوة لتحرير الفقراء والمقهورين اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا وتحرير الكنيسة مما لحق بها من شوائب وأساليب تسلطية. إذاً، المحور في لاهوت التحرير هو الإنسان لا الله. وهذا التحوّل في مركز الاهتمام يتيح الاجتهاد والابتداع. يرى بعض المدافعين أن لاهوت التحرير هو لاهوت نبوي لأنه يقوم بعمل الأنبياء كون عمل النبي هو أن يرى الواقع ويعلن رأي الله فيه ويتخذ القرارات العملية لمواجهته. وعليه فإنّ لاهوت التحرير هو تعبير عن الفعل الاجتماعي وليس عن الخدمة الاجتماعية. فالفعل الاجتماعي يبحث في علاج أسباب المشكلة أما الخدمة الاجتماعية فهي مد يد المساعدة للمحتاجين للتخفيف من جوانب المشكلة التي يعانون منها. وهنا يُقدّم المثل التالي: إعطاء السمكة (المال) للمحتاج هو خدمة اجتماعية، بينما إعطاء السنارة (تعليم حرفة) هو فعل اجتماعي يجعل الإنسان يعيش حياة كريمة مستقلة. من جهة أخرى يرى البعض أن لاهوت التحرير هو نتاج التلقيح الفكري بين الكثلكة والماركسية والتفاعل بينهما لإقامة الفردوس على الأرض. فلاهوت التحرير جعل الدين أكثر اهتمامًا بالإنسان وبالمجتمع، وهو يحاول القيام بمهمة مزدوجة تبشر بالفردوس في الأرض وفي السماء ولا يؤجل سعادة الإنسان.
بعض التاريخ
ظهر لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية التي عرفت المسيحية الكاثوليكية عن طريق الاستعمار الأوربي. في القرن العشرين، صارت تلك الأنحاء مركز الكثافة الكاثوليكية، وفي الوقت عينه انتقل استعمارها إلى يد الأميركيين الذين بلغ بهم الأمر حد التدخل العسكري في بعض البلدان. وكسائر الدول المستعمَرة، النتيجة الأولى للاستعمار هي ظهور التفاوت الطبقي الكبير حيث يزداد الأغنياء غنىً ويزداد الفقراء فقرًا وتسيطر القلّة من الناس على ممتلكات الغالبية.
كل هذا ترافق مع انحياز الرئاسة الكاثوليكية إلى المستعمرين منذ وصولهم إلى القارة الجديدة. فروما رأت في الاستعمار وسيلة لنشر الإيمان الكاثوليكي، حتّى أنها أصدرت عدداً من المراسيم البابوية نددت بالحركات الاستقلالية في بدايات القرن التاسع عشر. ومن منتَجات المجمع الفاتيكاني الأول تأكيده على سلطة الكنيسة ضد الحركات الوطنية التي تنادي بالاستقلال. ومع الاستعمار الأميركي دخلت الإرساليات الإنجيلية لتتخذ نفس موقف الكثلكة التي تحولت آنذاك إلى عنصر تهدئة تجنبًا لبطش السلطة وإيثارًا للسلام والسعي إلى إقناع الشعب بالرضا بالأمر الواقع والتسليم للمشيئة الإلهيَّة، إلى أن توالَت الثورات في دول المنطقة وابتدأ التفاعل مع الماركسية والشيوعية. هذا التطور ترافق مع التغير السياسي لصالح الطبقات الوسطى والفقيرة في بعض البلدان وقيام حكومات شعبية وظهور أحزاب مسيحية كحزب الديموقراطية المسيحية في تشيلي الذي وصل إلى الحكم وكان أول نظام ديموقراطي في القارة طبّق نظامًا اشتراكيًا مسيحيًا.
وجد بعض رجال الكثلكة أن ما تفعله السلطات الجديدة يتطابق مع الدعوة الإنجيلية إلى الحرية والعدل والحق والمساواة. فبدأت بعض المواقف من كهنة هنا وهناك بالظهور إلى أن تبلورت في ما سُمي لاهوت التحرير حيث تكرّس مئات الرهبان والكهنة لخدمة المطالب الشعبية والبحث عن دور الكنيسة في التحوُّل الاجتماعي الجديد.
بدأت بذور لاهوت التحرير بالظهور منذ 1955، في لقاء لأساقفة أمريكا اللاتينية في ريو دي جانيرو حيث بدأ اهتمام رجال الكثلكة بمشاكل الفقراء وتكونت عدة حركات شعبية مثل حركة الطلبة المسيحيين، وحركة العمال المسيحيين، وحركة الفلاحين المسيحيين، وحركة التعليم الأساسي. على عكس المجمع الفاتيكاني الأول، اهتم المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 – 1965م) بالنقد الذاتي في هذا الإطار ومن بين الستة عشر وثيقة التي أصدرها عدد منها اهتمّ بإعادة تنظيم الكثلكة وناقش قضايا العدالة الاجتماعية والتنمية وبهذا أعطى شيئاً من الشرعية للاهوت التحرير. من المهم الإشارة إلى قرار الرئيس العام للرهبنة اليسوعية في 1966 بالانخراط الجاد في العمل الاجتماعي، كون اليسوعيين تاريخياً هم ذراع الاستعمار الفكري والديني.
في 1968 انعقد مؤتمر ميديللين في كولومبيا وهو محطة تاريخية في الكثلكة. رأى المؤتمر أن كل شعوب أميركا اللاتينية تعيش في سجن كبير وبالتالي هناك ضرورة لتحرير هذه الشعوب من هذا السجن الكبير المظلم. وهكذا صار لاهوت العبودية مقدمة للاهوت التحرير وابتدأ التبشير بإنجيل الفقراء. وقد حاضر جوستافو جوتييريز واستعمل تعبير “لاهوت التحرير”. صدر عن المؤتمر وثيقتان باسم العدالة والسلام، واعتبر المؤتمرون أنها ليست ساعة الكلام بل ساعة الفعل والعمل، ارتكازاً إلى ثلاث مفاهيم لبناء المجتمع الجديد:
1. إثارة الوعي لدى الجماهير لكيما تدرك أهمية التغيير.
2. التحرير من الظلم والفقر والقهر.
3. المشاركة في الإصلاح.
في 1969، طُلب من جوتييريز إعداد تقرير عن لاهوت التنمية لكنه رأى استحالة الحديث عن لاهوت التنمية بدون الحديث عن لاهوت التحرير. في الوقت عينه، كان ليوناردو بوف، متأثراً بالكاريزماتيك، ينتقد علناً انغلاق الكنيسة وجمودها في مواجهة مشاكل الفقراء ما عرّضه إلى المحاكمة على يد راتزينجر، الذي صار لاحقاً البابا بندكتوس، وأجبر على الصمت إلى 1986 حيث عاد إلى الكلام عم لاهوت التحرير بحرية.
في 1971 صدر كتاب جوتييريز بعنوان “لاهوت التحرير” الذي اعتبر أن التحرير يتحقق على ثلاث مراحل:
1. مرحلة التحرير الاجتماعي الاقتصادي للمجتمع حتى تتساوى الطبقات
2. مرحلة تحرير الفقراء حتى يساهموا في توجيه دفة الأمور في البلاد
3. مرحلة تحقيق الأخوة الإنسانية بين الجميع بناء على الإيمان المشترك للكل
وهنا لا بد من التعليق على أن خلو هذه النقاط من أي إشارة لاهوتية أو عقدية أو دينية، فما شدد عليه هو إدانة وقوف الكنيسة إلى جانب الأغنياء وأعاد قراءة الكتاب المقدَّس مركزاً على المقاطع التي تهتم بقضايا الفقراء والظلم والحرية، وفي الفصل الأخير حكى عن الفقر الروحي والفقر المادي معتبراً أن الفقر (المادي) هو “وضع فاضح” يهدم كرامة الإنسانية وضد الإرادة الإلهية.
أيضاً في 1971 صدر كتاب ليوناردو بوف الفرنسيسكاني “يسوع المحرر. ودراسة نقدية لعلم المسيح”. وفي كتابه، انتقد بوف اللاهوت السكولاستيكي الجديد الناتج عن الفاتيكان الثاني، واللاهوت السياسي،ولاهوت الرجاء، وركّز على لاهوت التحرير قارئاً الكتاب المقدَّس قراءة نقدية مركّزاً على الإطار التاريخي الذي كُتب فيه النص، وكيفية تطبيقه على أوضاع أمريكا اللاتينية. كما رأى بوف ضرورة التركيز على المسيح بصفاته الإنسانية ووضعه البشري وتضامنه مع الفقراء أكثر من التركيز على صفاته الإلهية لأن لاهوت التحرير يرتبط بالأرض أكثر من بالسماء. من هنا أن تفسير الكتاب المقدَّس يجب أن يراعي الأولويات التالية:
1. أولوية “علم الإنسان” على “علم الكنيسة” لأن الغاية هي الإنسان الذي سُلبت إنسانيته أكثر من الكنيسة التي لا تقوم بدون الإنسان
2. أولوية الأمل والمستقبل على الأمر الواقع من دون إهمال الواقع بل تجاوزه لما هو أفضل
3. أولوية النظرة النقدية على النظرة العقائدية، لأن العقيدة جامدة تدافع عن المؤسسات وتبررها، بينما النظرة النقدية تعمل على تطوير هذه المؤسسات الكنسية وتطوير فهمها للإنجيل
4. أولوية الأمور الاجتماعية على الأمور الشخصية
من المثير للملاحظة أن بوف يشير إلى أن يسوع المحرر دعا وما زال يدعو إلى التوبة التي هي تحوُّل باطني عند الجماعة والأفراد على السواء، وهذا التحوُّل هو في العقلية كما في المواقف وهو يقتضي أن يتحوَّل الشخص إلى طاقة ثورية تسهم في تثوير العالم.
ومن ثم ما بين 1972 وأواخر الثانينيات انعقد أكثر من مؤتمر ظهر خلالها ما عاشته الكثلكة من صراع سببه انتقال الثقل من أوروبا إلى أميركا اللاتينية ومن تأثر بالماركسية ومن انتشار لاهوت التحرير خاصةً مع نجاح بعض الثورات ووصول بعض الكهنة إلى مراكز سياسية مهمة كنواب ووزراء على الرغم من تحريم الفاتيكان لذلك وربطه بموافقة الرئاسة. وفي المقابل كان المحافظون يعيدون تجميع أنفسهم وتركيب التيار المضاد للاهوت التحرير الذي أوصل يوحنا بولس الثاني ومن بعده بندكتوس إلى عرش الكثلكة.
في 1976، قامت اللجنة اللاهوتية الدولية بتكليف من البابا بولس السادس بدراسة حول لاهوت التحرير وأصدرت وثيقة وأربعة تقارير ملحقة. جاء في مقدمة الوثيقة الإشارة إلى علاقة لاهوت التحرير بالفاتيكان الثاني وظهور تيارات مختلفة تنتمي للاهوت التحرير والخوف من تسييس البشارة والتأثير على وحدة الكنيسة. وأشارت الوثيقة إلى أن نقطة انطلاق لاهوت التحرير هي انتشار الفقر وغياب العدالة. وأن ظهور نمط جديد من اللاهوت يحمل فهماً جديداً للملكوتالذ صار يشمل الأرض ويثير عدداً من الصعوبات كخطر إخضاع كل شيء للمناقشة والتسيّيس والتركيز على التنديد النبوي كما كان يفعل أنبياء العهد القديم في مواجهة الظلم، والتركيز على بعض وجوه اللاهوت الكتابي كقراءة العهد القديم من زاوية علاقته بموضوع التحرير، ودراسة العهد الجديد بما يوصل إلى استخلاص معنى التحرير المسيحي. وأخيراً تطرقت الوثيقة إلى مكانة الله والإنسان في عملية التحرير، ومعنى التحرير الشامل، و العلاقة القائمة بين ترقية الإنسان وخلاصه ورفض الكنيسة التزام الكهنة بالسياسة ورسالة العلماني. واختتمت الوثيقة ببعض التحفظات على لاهوت التحرير.
من ثمّ توالَت الوثائق الصادرة عن مجمع العقيدة الإيمانية والتي تنتقد لاهوت التحرير وتساويه بالماركسية وتتهمه بتحويل المسيحية إلى مجرد عنصر من عناصر التعبئة على الثورة. ووصف راتزينجر لاهوت التحرير بأنه هدام ما أثار ردات فعل. ةمن أهم ما كُتب ضد لاهوت التحرير بحث كتبه البابا يوحنا بولس الثاني شخصياً وفيه إدانة واضحة لهذا التيار. لكن النتيجة الفعلية لهذه المواقف لم تكن في مصلحة الكثلكة فعلياً، بل استغلّها العنصرانيون الكاريزماتيك بتغطية من المستمرين الأميركيين بشكل بات انتشارهم خطراً على الكثلكة، وقد يكون هذا الواقع من أهم أسباب الضغط الذي أدى إلى استقالة بندكتوس المحافظ وانتخاب فرنسيس المتحرر.
وقبل التطرق إلى قراءة أرثوذكسية للاهوت التحرير تنبغي الإشارة إلى أن عدداً من التيارات انضوت تحت راية هذا اللاهوت ومنها:
التيار الروحي الرعوي الذي يلتزم بمبادئ الإنجيل
التيار المنهجي الذي يعتمد على العلوم الإنسانية مثل علم الاجتماع وعلم الإنسان وعلم الاقتصاد.. إلخ
التيار الاجتماعي الذي يركز على التحليل الاجتماعي
التيار التاريخي الذي يدعو لإعادة قراءة تاريخ أمريكا اللاتينية والعلاقة بين النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي والصراع الطبقي والأخذ بالتحليل الماركسي
التيار السياسي الذي يدعو ليس العلمانيين فقط، بل الكهنة أيضًا لممارسة السياسة
تيار الكنيسة الشعبية، والذي يعتبر أن كنيسة الشعب هي مصدر الحرية المسيحية
التيار الخريستولوجي الذي ينظر للسيد المسيح على أنه محرر الإنسان من الظلم والقهر والفقر
التيار التربوي الذي يركز على التعليم، فيسهل للإنسان المتعلم الحصول على حريته
تيار النقد الذاتي وهو مكوَّن من مجموعة غير متجانسة
وقد تفرَّع لاهوت التحرير إلى “لاهوتات” محلية أو مفصّلة بحسب الحاجة ومنها: لاهوت كوريا – لاهوت أفريقيا – لاهوت السود – لاهوت التحرير الفلسطيني – لاهوت المجاعات – لاهوت المجتمعات المسيحية – لاهوت تحرير عربي إسلامي مسيحي – لاهوت تحرير إسلامي.
جدير بالذكر أن حدثين في السنوات الأخيرة حرّكا دعاة لاهوت التحرير إلى العودة إلى الحديث عن لاهوت التحرير وهما 1) الربيع العربي الذي رأوا فيه فرصة للتحرر، ولم يلحظوا مَن يقف وراءه ويحركه، و2) انتخاب الباب فرنسيس.
في الختام، يمكننا أن نلخص أهم مشاكل لاهوت التحرير بما يلي:
– الطريق الذي سلكه لاهوت التحرير معاكس للتقليد وللاهوت، فبدل من أن ينطلق من الوحي الإلهي إلى الواقع البشري قام بالعكس وبهذا هو لاهوت إنسانوي، لا بدّ أن يؤدّي إلى التضليل. وكما أن ظاهرة الظلم هي نتيجة عدم الفهم والالتزام المسيحيين وليس العكس، فالحرية الحقيقية هي الحرية الروحيَّة وليس العكس.
– في المسيحية يأتي البعد الاجتماعي بعد البعد الروحي. فما من مبدأ يعلو على “أحبب قريبك كنفسك”، وما من وصف للقريب أفضل مما قدمه السيد في مثل السامري الشفوق. من هنا أن ما يكثر لاهوتيو التحرير من وصفه هو تكرار وقصور عن المسيحية الفعلية في أغلب الأحوال.
– بمقابل اهتمام لاهوت التحرير بالفقراء والمظلومين اجتماعيًا تهتمّ المسيحية بكل الناس لأن همّها هو الغنى الروحي والتحرير من قهر الخطايا. وهذا مثال زكّا في الكتاب المقدّس كما مثال المرأة التي سكبت الطيب على رجلي السيد، وكثيرة هي القصص في التقليد وسير القديسين عن الأغنياء الذين خلصّهم اهتمام الكنيسة بهم.
– إن دفع التحليل إلى حد الدقّة العلمية، على ما ينتج عنه من جدال، يظهِر أن لاهوت التحرير هو إلحاد صريح لاستبداله الله بالإنسان ورفعه القادة (ومنهم غيفارا مثلاً) إلى درجة الأنبياء، ووصف زعماء حركات التحرير الوطني بالملائكة (ماذا عن الملاك أبو عمار؟)، وتصوير الملكوت على الأرض (بما ينفي الإيمان بالحياة الثانية وبالتالي لا يعود هناك دينونة)، واعتبار الثورة إيماناً ومساواة الصليب بالبندقية والكنيسة بالحزب الثوري والتجسد بالشعب والأرض، وغيرها..
– من أكبر مشكلات دعاة لاهوت التحرير (في الكثلكة كما في الأرثوذكسية) أنهم عندما يباشرون بانتقاد الكنيسة يتكلّمون وكأنهم لا ينتمون إليها ويصل بعض المتحمسين منهم إلى حد عدم الاعتراف بها كبُنية وإطار، وبهذا يلتقون كثيراً مع المنطق الماركسي الذي يكون قاسياً وغير عادل تجاه الكنيسة
– ينادي لاهوت التحرير بقبول التحليل الماركسي، وبالتالي الفلسفة الماركسية بكل مكوناتها ومنها أن الدين أفيون الشعوب. ما يعني أن لاهوت التحرير ضمنياً هو ضد الأديان وضد المسيحية بشكل خاص. إلى هذا يتبع قبول منطق لاهوت التحرير قبول كل المنطق الإنسانوي الذي يقوم فعلياً على ما يسمّى “ثالوث الهدم” المكوّن من ماركس ونيتشه وفرويد، الذي يستدعي تفصيل تأثيره فصولاً ليس هذا مكانها الآن.
– لا تستطيع المسيحية التي تحترم حرية الإنسان وممتلكاته أن توافق تحت أي مسمى على إجبار الأغنياء على التوزيع للفقراء وإلا يكون عملها اغتصاباً لثروتهم، كما أنها لا تستطيع أن تقرّ العنف حتّى من أجل تحرير الفقراء والمظلومين بل تسعى إلى أن يدرك كل إنسان دوره.
– أخيراً، في أميركا اللاتينية لم يحقق لاهوت التحرير أهدافه، بل تحوَّل إلى حركة مواهبية (كاريزماتيك) رأى فيها الناس تطبيقاً للاهوت التحرير. أمّا في مناطق أخرى من العالم، ومنها لبنان، فقد تحوّل قسم كبير من دعاة لاهوت التحرير إلى أبواق تنادي بما لا تفعل حتّى أن بعضهم استزلم لأصحاب رؤوس الأموال من أجل المركز والصفة السياسية.
خاتمة
التطور الأخير هو أن أعلن البابا فرنسيس قداسة المطران السلفادوري أوسكار روميرو الذي قتله مجهول أثناء ترؤسه للقداس في 24 آذار 1980. لم يصل التحقيق إلى تحديد القاتل إنما أبرز المتهمين هو النظام السلفادوري في ذلك الحين الذي كان تابعاً للأميركيين، والذي ارتكب جرائم لا تقلّ بشاعة عن قتل أسقف أثناء القداس. روميرو كان رمزاً من رموز لاهوت التحرير وقد أدانه الفاتيكان في أكثر من مناسبة، ورفض البابا يوحنا بولس الثاني اعتباره شهيداً من أجل إيمانه، لأنه كان يعتبر أن لاهوت التحرير ليس إيماناً مسيحياً، وقد كرر هذا الرفض البابا بندكتوس. إلا إن البابا فرنسيس في مسيرته، التي تظهر أنه من خط لاهوت التحرير، طوّب روميرو قديساً ومن بعده راهبتين من فلسطين. من هنا يمكننا توقع أن تكرّ سبحة المطوّبين من كوريا والصين وغيرها من المناطق حيث يختلط الاضطهاد الديني بالاضطهاد الاجتماعي والسياسي، وبالتالي يصير تمييز الشهادة عن الاغتيال أكثر صعوبة.
رأى عدد من المحللين، من مسيحيين وغير مسيحيين، أن البابا فرنسيس يصالح الفاتيكان مع أميركا اللاتينية وأن ما يقوم به هو اعتذار مباشر للحرب التي شنّتها الكنيسة ضد “لاهوت التحرير”. إذا صحّ هذا التحليل ففي المستقبل القريب سوف يصير ممكناً الكلام علناً، عمّا هو قائم بتخفٍّ في الكثلكة، من كهنوت نسائي وزواج مثليين وقبول بالإجهاض لكونه حاجة اقتصادية وبالجنس قبل الزواج لأنه نتيجة طبيعية للنمو الجسدي عند الشاب والفتاة.
هل الأرثوذكس معزولين عن هذه التطورات؟ الجواب يأتي.