يا إخوة، لاحظوا الكلام الّذي ورد في إنجيل يوحنّا. “قال الرّبّ لتلاميذه: الكلام الّذي أكلّمكم به لا أتكلّم به من عندي، لكنّ الآب المقيم فيّ هو يعمل الأعمال”
أوّلاً، يقول الرّبّ يسوع إنّ الكلام الّذي يتكلّم به ليس من عنده. هو لا يتكلّم بما هو له، هو لا يعطي رأيًا، هو لا ينظّر، هو لا يتكهّن، هو لا يعبّر عن قناعته الخاصّة كإنسان؛ بل يقول كلام الآب السّماويّ. وطبعًا، لكي يتمكّن الرّبّ يسوع من أن يفعل هذا الأمر، فلا يكفي أن يكون هو والآب واحدًا؛ لأنّه هو كان كذلك، منذ الأزل. لكن، إذا ما تكلّم بهذا الكلام، فهو يتكلّم به كإنسان. فإذا كان، كإنسان، يتكلّم كلام الآب السّماويّ؛ فهذا معناه، أوّلاً، أنّه يتكلّم بهذا الكلام طوعًا، وليس مرغَمًا؛ ثانيًا، هو يتكلّم بكلام الآب السّماويّ، لأنّه قد أخذ صورة عبد؛ أي ليست له، بعدُ، كلمة يقولها. العبد لا يقول شيئًا من عنده، أبدًا؛ بل يسمع ما يقوله سيّده، يردّد ما يقوله سيّده، ينقل ما يقوله سيّده. لذلك، يُقال عن العبد: فلان عبد فلان. هو يتكنّى بكنية سيّده. هويّته من علاقته بسيّده. والرّبّ يسوع، هنا، هو عبد يهوه. هو يتكلّم كلام يهوه، هو يتكلّم كلام الآب السّماويّ، ولا يتكلّم من عنده كإنسان. كإنسان، ليس عنده كلمة يقولها
ثمّ هناك، في هذا القول، شيء آخر لافت. بعد أن قال إنّه لا يتكلّم بهذا الكلام من عنده، قال: “لكنّ الآب المقيم فيّ هو يعمل الأعمال”. هنا، نلاحظ قولَين لافتين
أوّلاً، يقول إنّ الآب مقيم فيه. إذًا، الآب السّماويّ لا فقط يوحي للابن بما عليه أن ينطق به، بل هو مقيم فيه، أيضًا. فإذا كان مقيمًا في الابن، وإذا كان الابن صامتًا من جهة نفسه، أي لا يشاء أن يتكلّم بشيء من عنده؛ فالكلام الّذي يتفوّه به يكون الآبُ، عمليًّا، هو الّذي يتفوّه به؛ إنّما في الابن ومن خلاله، وإلاّ ما معنى أن يكون الآب مقيمًا في الابن؟
ثانيًا، الرّبّ يسوع، هنا، لا يقول: “الآبُ يتكلّم فيّ”، بل يقول: “الآب المقيم فيّ هو يعمل الأعمال”! في الوقت الّذي ينتظر فيه الإنسانُ أن يسمع السّيّد يقول: “الآب هو الّذي يتكلّم”؛ يقول الرّبُّ يسوع: “الآب هو الّذي يعمل الأعمال”. ما معنى ذلك؟! معنى ذلك أنّ الكلام الّّذي يتكلّم به الابن ليس فقط من الآب السّماويّ، بل هو عمل من أعمال الآب السّماويّ. الكلام هو عمل! عند الإنسان، هناك فرق بين الكلام والعمل، هناك مسافة بين الكلام والفعل. عند الله، ليس الأمر كذلك! عند الله، الكلام هو عمل، الكلام هو قوّة. على هذا، نفهم كيف أنّ الله، منذ البدء، حين كان يتكلّم، كان كلامه، بصورة تلقائيّة، يظهر عملاً. مثلاً، قال الرّبّ يسوع للأخرس: “انفتح”، فانفتح لسانه للحال. الكلام هو فعل! ونحن نراه كفعل! وهذا كان، كما قلت، منذ البدء. حين خلق الرّبّ الإله الخليقة، قال، مثلاً: “ليكن نور”، فكان نور. هذا لأنّ كلامه فعل! ولهذا السّبب، قال الرّبّ يسوع لتلاميذه: “الكلام الّذي أكلّمكم به هو روح وحياة” (يو6: 63). هو روح، لأنّ الكلمة الإلهيّة هي روح منبَثٌّ في مَن يكلّمه الرّبُّ الإله. الرّبّ يسوع، متى تكلّم، فإنّه يبثّ روحًا. وفي آن معًا، هو يبثّ حياةً. هذا ليس معنًى مجازيًّا، إنّما هو معنًى روحيّ عميق، يتخطّى فهمَ الإنسان للكلام، وقدرتَه على تعاطي الكلام كأفعال. الإنسان، حين يتكلّم، يحتاج إلى واسطة لكي يتحوّل كلامه إلى فعل. أنا، متى قلتُ، مثلاً، في ذهني: “كرسيًّا”؛ فإنّ الكرسيّ لا يوجد بمجرّد أنّي قلتُ “كرسيًّا”! متى عزمتُ في نفسي على أن أصنع كرسيًّا، فإنّي أحتاج إلى واسطة: أحتاج إلى خشب، وإلى مهارة معيّنة، وإلى مسامير، وإلى طلاء، وإلى نوع من اللاّصق، وإلى وقت… بالنّسبة إلى الرّبّ الإله، الأمر ليس كذلك. الرّبّ الإله يقول “كرسيًّا”، فتصير الكلمة كرسيًّا. لهذا، الكلام الإلهيّ هو الله حاضرًا فيه، وفاعلاً. قيل عن أحد النّسّاك، الّذين كانوا بسطاء ومحبّين لله، إنّه كان، مرّة، يقرأ في الكتاب المقدّس؛ لكنّه لم يكن يقرأه ليفهم المعنى فقط، لم يكن يقرأه كما نقرأ كتابًا عاديًّا لنفهم ماذا يريد الكاتب أن يقول؛ بل كان يقرأه بالرّوح، كان يقرأه باعتباره كلامَ الله، باعتبار أنّ الله حاضر في هذا الكلام. فلمّا وصل إلى المكان الّذي فيه “مَن قال لهذا الجبل: [انتقل، وانطرحْ في البحر]، فإنّه يكون له” (متّى21: 21)، للحال، كان هناك جبل أمامه أخذ يتحرّك من مكانه! أما قرأتم قصّة القدّيس يوحنّا الدّيلميّ؟! يوحنّا الدّيلميّ بنى لرهبانه ديرًا في أعلى الجبل. وكانوا يعانون، لأنّ الماء كان في أسفل الجبل، وكان عليهم أن يتكبّدوا مشاقًّا ليست بقليلة لتأمينه؛ فجعل يوحنّا الدّيلميّ نفسه في الصّلاة، أي جعل نفسه في الرّوح، وسأل الله أن ينقل الدّير من فوق إلى تحت، ليجعله قرب النّهر؛ للحال، تحرّك الدّير، وانتقل إلى قرب النّهر، ولم يتزعزع فيه شيء، على الإطلاق، كأنّ الإنسان أخذ بيتًا من ورق، وأمسكه، ونقله بأصابعه من مكان إلى مكان آخر
إذًا، هذا كلّه يشير إلى قوّة الكلمة الإلهيّة. إذا كنّا نحن لا نشعر بقوّة الكلمة الإلهيّة، فهذا لأنّ قلوبنا بليدة؛ ولأنّنا، في العمق، لسنا، تمامًا، مؤمنين بالله. إيماننا، بالأحرى، إيمان عقلانيّ، نظريّ؛ لكن، مَن كان في الرّوح، وكان مؤمنًا؛ أي مَن كان، في روحه، قد أفرغ نفسه وأخذ صورة عبد؛ فإنّه يدرك قوّة الله الّتي في الكلمة؛ الّتي هي، بخاصّة، في اسم الرّبّ يسوع. اسم الرّبّ يسوع هو قوّة الرّبّ يسوع مقيمةً في اسمه. اليهود، قديمًا، كانوا يدركون هذا الأمر جيّدًا. لهذا السّبب، اسم الله “يهوه” لم يكن أحد يجرؤ على أن يتلفّظ به في العلن. وبالإضافة إلى ذلك، لم يكن أحد يجرؤ على أن يتطلّع إلى الاسم. الاسم كان رهيبًا، في أذهان، على الأقلّ، الأتقياء من اليهود. والّذين كانوا ينسخون النّصوص الكتابيّة، حين كانوا يصلون إلى اسم الله؛ أوّلاً، كانوا يلفّون يمينهم بقماشة خاصّة؛ وكانوا يستعملون ريشة خاصّة لكتابة الاسم؛ وكانوا أيضًا، متى أعدّوا العدّة لكتابة الاسم، يكتبونه وعيونهم مغمَضَة. طبعًا، بالنّسبة إلينا، اليوم، هذا قد لا يعني شيئًا. لكن، بالنّسبة إلى الوجدان العبريّ، هذا كان يعني أنّ الله، في أذهان النّاس، كان حاضرًا في اسمه. وهذا كان السّبب الّذي حدا باليهود إلى أن يستعيضوا عن اسم الله بأسماء أو صفات أخرى. من هنا جاءت، مثلاً، لفظة “سيّد” و”ربّ”، و”كيريوس”، و”إيلوهيم”… هذه كلّها كانت بدائل عن الاسم، لأنّ النّاس يحتاجون إلى أن يتعاطوا الاسم الإلهيّ. وبما أنّهم أعجز من أن يتعاطوه مباشرة، كانوا يشيرون إليه باستعمال بدائل عنه. لهذا، أعود وأقول: إذا كنّا نحن لا نشعر بقوّة كلمة الله؛ وبخاصّة، بقوّة الاسم الإلهيّ؛ فهذا عائد إلى بلادة قلوبنا، وعدم نقاوة نفوسنا. القدّيس سيرافيم ساروفسكي، مثلاً، حين كان يقرأ الكتاب المقدّس، لم يكن يجلس مرتاحًا على أريكة، ويمدّ رجليه، أو يجعل رِجلاً فوق رِجل! حين كان يريد أن يقرأ الكتاب المقدّس، كان يحمله بين يديه، ويُضيء شمعة، وينحني كأنّه في فعل عبادة، وكان يقرأه بخشوع كامل، كأنّه في وضع السّجود والتّسبيح، وليس في وضع القراءة العاديّة! منذ فترة، كنتُ في دار جمعيّة الكتاب المقدّس، فعجبتُ كيف يتعاطون الكتاب المقدّس. بالنّسبة إليهم، العمليّة هي عمليّة بيع وشراء! يأخذون كتابًا، ويعطون كتابًا، ويجعلون كتابًا هنا أو هناك، في مكان لائق، في مكان غير لائق! ويجعلون أشياء وأشياء على الكتاب المقدّس!… بالنّسبة إليهم، أصبح الكتاب المقدّس مجرّد كتاب! وهم يتعاطونه بهذه الطّريقة، بالضّبط، لأنّهم يعتبرون أنّ الشـّيء الأساسيّ المهمّ هو معاني الكتاب. لذلك، لا يخطر في بالهم أنّهم يسيئون بشيء إلى الله، حين يتعاطون الكتاب بالطّريقة الّتي يتعاطونه بها! لكنّ الكتاب المقدّس أكثر من خطوط، وأكثر من معانٍ. الكتاب المقدّس هو حضور الله، بالذّات، بقوّته، طبعًا. الله حاضر، بقوّته، في الكتاب المقدّس. الأرثوذكسيّون لا يزالون، إلى حدّ بعيد، يحافظون، في تراثهم، وليس بالضّرورة في ممارساتهم، على هذا الأمر. مثلاً، حين يمسكون بالكتاب المقدس، فبصورة تلقائيّة، يقبّلونه؛ وحين يريدون أن يردّوه إلى موضع معيّن، يقبّلونه، أيضًا، ويجعلونه في هذا المكان؛ وحين يريدون أن يقرأوا فيه، يصلّون لكي يعطيهم الرّبّ الإله روح الفهم. روح الفهم أكبر بكثير من معاني الكلمات. الإنسان يمكن أن يفهم معنى الكلمات؛ لكنّه لا يفهم، بالضّرورة، الرّوح المنبثّ في هذه الكلمات
إذًا، المطلوب، بالضّبط، هو أن نفهم بالرّوح، لا أن نفهم بالعقل، فقط. طبعًا، الإنسان لا بدّ له من أن يستعمل عقله، ولا بدّ له من أن يفهم الأمور في مستوى العقل. لكن، ما هو أهمّ من ذلك هو الفهم بالرّوح. حين نقرأ، مثلاً، كلمة “يسوع”، نفهم ماذا تعني! تعني “المخلّص”، مَن يخلّص شعبه من خطاياه؛ لهذا السّبب سُمّي الرّبّ بـ”يسوع”. لكن، نحن لا نتوقّف عند هذا الحدّ. نحن، حين نأتي بإزاء الكلمة الإلهيّة، وبخاصّة الاسم الإلهيّ، علينا، داخليًّا، أن نكون في موقف خشوع؛ لأنّنا بإزاء الحضرة الإلهيّة المنبثَّة في كلام، والمعطاة لنا؛ لكي تكون لنا، بهذا الكلام، حياةٌ جديدة، وروحٌ جديد. إذ ذاك، يصير الكلام الإلهيّ، في حياتنا، فعلاً إلهيًّا؛ ولا يبقى مجرّد كلام. فإذا فطنّا لهذا الأمر، وإذا تعاطيناه كما يليق؛ نكون قد أدركنا ما قاله الرّبّ يسوع، حين ردّد أنّ الكلام الّذي يتكلّم به ليس من عنده، لكنّ الآب المقيم فيه هو يعمل الأعمال