مقتطف من محاضرة ألقاها الميتروبوليت هيلاريون مطران فولوكولامسك، رئيس دائرة العلاقات الخارجية في البطريركية الروسية، في جامعتي وينشستر وكامبردج في 5 و6 شباط 2015. العنوان الأصلي للمحاضرة الكاملة هو “هل من مستقبل للعمل المسكوني؟”
…
حالياً، الحوار بين المسيحيين بلغ مرحلة حيث السؤال المطروح عليّ كموضوع للمحاضرة، “هل من مستقبل للعمل المسكوني؟” يكتسب موقعاً خاصة. فالظاهر أنّه بعد عقود من الحوار يتوقّع الإنسان التقاءً ملموساً حول بعض المواقف. فبالرغم من كل ذلك، لم يحدث هذا اللقاء، إذ لم تتحقق استعادة الوحدة التي أمر بها الربّ بين المسيحيين. على العكس، في هذه الأثناء، الفروقات بين الأرثوذكس والكاثوليك من جهة، كما الفروقات ضمن العالم البروتستانتي نفسه من جهة أخرى، صارت أكثر خطورة مما كانت عليه قبل خمسين أو سبعين سنة عندما كانت الحركة المسكونية في طفولتها. إلى هذا، فالاختلافات الحالية لا تقتصر على الأمور العقائدية التي تجري مناقشتها في اللجان الخاصة الثنائية والمتعددة الأطراف. الاختلاف اليوم يلامس مجال الأخلاق، وهو المجال الذي يمكن للشهادة المسيحية ألا تتأثّر بالضرورة بالاختلاف العقائدي. ما هو سبب هذه الاختلافات وهل من إمكانية لتخطيها
أحد أهمّ التحديات التي جابهت العالم المسيحي بأكمله في العقود القليلة الأخيرة هي العلمنة (secularism). إن تاريخها يعود إلى الثورة الفرنسية، مع هذا، لم يبلغ الوعي العلماني إلى الهيمنة على كل مستويات المجتمع الغربي إلا في القرن العشرين. إن أفكاره، المرتبطة بلا انفصام بفلسفة المادية والإلحاد، بدأت بأسر أفكار لا الفلاسفة وحسب بل السياسيين أيضاً. إن خطاب العديد من السياسيين والشخصيات الاجتماعية يتحوّل أكثر عدائية للمسيحية في دعواتهم إلى إخراج الدين من الحياة العامة ورفض المعايير الأخلاقية الأساسية المميزة لجميع التقاليد الدينية الأساسية
تحمل العلمانية اليوم في أوروبا طابع التشدد من حيث أنها تشوه الأشياء والرموز الدينية المقدسة. أحد الاتجاهات الرئيسية لهذا النشاط في الوقت الحاضر هو التدمير المنهجي للفهم التقليدي للزواج والأسرة. هذا ما تؤكده الظاهرة المعاصرة للمساواة بين ارتباط مثليي الجنس بالزواج التقليدي، من خلال الدعاية القوية لهذا النوع من العلاقة ومنح الأزواج من نفس الجنس الحق في تبنّي الأطفال وتنشئتهم
لقد تغير أيضاً الموقف من فكرة الحياة الإنسانية كقيمة لا يمكن تعويضها. القتل الرحيم قانوني في عدد من البلدان، والخروج الطوعي من الحياة لأسباب طبية هو أيضاً قيد النظر، حتّى للرضع. الإجهاض، أي قتل الأطفال في رحم الأم، صار قانونياً وهو يشكّل منذ فترة طويلة القاعدة. إن طريقة الحياة المنتشرة في صفوف الشباب: عبادة الاستهلاك، الفوضى الأخلاقية، الإباحية الجنسية والفهم الخاطئ للحرية كلها تُبرَّر بحجة أن من المفتَرَض أن يكون لكل إنسان الحق في السعادة الشخصية
من وجهة نظر تعاليم الكتاب المقدس هذا كلّه دليل على أزمة روحية عميقة في الحضارة المعاصرة. إن مفاهيم الخير والشر صارت أكثر غموضاً من أي وقت مضى في المجتمعات التي كانت، حتى وقت قريب، تعتبر نفسها مسيحية. لقد ضلّ الشخص البشري طريقه في العلاقة مع العالم الخارجي وصار أعزلاً في مواجهة أهوائه. لقد رُفِعَت حقوق الأفراد إلى موضع أعلى من مصالح الغالبية العظمى من السكان، ما يؤدي إلى تعاظم التوتر الاجتماعي
جواب الكنائس المسيحية على هذه التحديات ماذا ينبغي أن يكون؟ فمن الواضح يجب أن يقوم على الوحي الإلهي وحده كما تسلّمناه في الكتاب المقدس. فالكتاب المقدّس هو الأساس المشترك الذي يجمع كل الطوائف المسيحية، بما في ذلك الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت. يجوز لنا اتخاذ مقاربات مختلفة جوهرياً في تفسير الكتاب المقدس، ولكن لدينا كتاب مقدس واحد، وتعليمه الأخلاقي واضح تماماً
في نفس الوقت نرى كيف أنّ بعض الكنائس المسيحية تفضل الاسترشاد بمعايير أخرى في تعاملها مع القضايا الأخلاقية. إن وجود مؤثّرات، غير لاهوتية بل اجتماعية وحتى سياسية، على العقيدة الأخلاقية يجعلها على نحو متزايد بعيدة عن تلك التي نجدها في صفحات العهد الجديد، أي في الرسالة التي حملها المسيح والرسائل التي كتبها القديس بولس
إن التحدث عن نظام واحد من القيم الروحية والأخلاقية المقبولة من جميع المسيحيين أصبح الآن أكثر صعوبة. يوجد اليوم نسخ مختلفة من المسيحية التي يعبّر عنها مختلف الطوائف. من هذا المنظور جميع المسيحيين في هذا العصر يمكن تقسيمهم إلى مجموعتين: التقليدية والليبرالية. إن ثغرة كبيرة تفصل بين التقليديين والليبراليين ليس مثله ما يفصل الأرثوذكس والكاثوليك أو الكاثوليك والبروتستانت. يؤكد بعض القادة المسيحيين أن على الكنيسة أن تكون على قدر كافِ من الشمولية حتى تدرك المعايير السلوكية البديلة وتباركها رسمياً. التقليديون، بدورهم، يتّهمون الليبراليين بنبذ المعايير المسيحية المشتركة الأساسية وتمييع أسس التعاليم الأخلاقية المسيحية
تعتقد الكنيسة الأرثوذكسية بأننا في هذه الحالة لا نتعامل مع تقليدية عفا عنها الزمن بل مع الإخلاص للوحي الإلهي الوارد في الكتاب المقدس، وبالتالي مع أصالة البشارة المسيحية. وإذا كان المسيحيون المسمّون ليبراليين يرفضون الفهم التقليدي للقواعد الأخلاقية، فهذا يعني أننا نواجه مشكلة أكثر خطورة إذ يتّضح أننا منقسمون ليس فقط على القضايا التي تحمل طابعاً “تقنياً”، من وجهة نظر العالم الخارجي، وتتصل حصراً بالحوار المسيحي الداخلي. حالياً نحن منقسمون حول جوهر هذا الشهادة الذي نحن مدعوون لحملها إلى العالم الخارجي. نحن لم نعد نتكلم بصوت واحد، لم نعد نبشّر بتعليم أخلاقي واحد، لم نعد قادرين على تقديم دفاع مشترك موحد من المبادئ الأخلاقية التي تقوم عليها حياة الجماعات المسيحية على مر القرون، وعليها تمّ بناؤها