إن حياتنا عابرة ومحفوفة بالمخاطر بسبب عدم التيقن من ساعة الموت. فبالرغم من أننا نعرف جيداً أننا سوف نموت إلا إننا لا نعرف متى، اليوم أو غداً، عاجلاً أم آجلاً، في الليل أو في النهار. لا أحد يعرف ساعة الإنسان، عندما يدركه منجل الموت، وبأي حالة سوف يجده، أمستعد بالأعمال الصالحة أم غير مهيئ وممتلئ بالأعمال الشريرة. إذ أنه سوف يقدمه إلى الدينونة أمام الله في الحالة التي يجده بها، وبحسب أعماله كلٌ سوف يتمجّد أو يخزى. وما من أحد سوف يساعدنا عند ساعة الموت تلك، إلا الأعمال الصالحة التي أتممناها بحسب الله.
هنا علينا أن نناقش الأعمال الصالحة أو الشريرة ونتيجة كل منها. نحن نعرف من الكتاب المقدس أننا لم نُخلَق لتلذذ بالأكل والشرب وحَسْب، ولا لكي نستمتع بأوقاتنا سالكين بإهمال. نحن مخلوقون للأعمال الصالحة، التي من خلالها نبلغ في هذه الحياة القصيرة الحياةَ الأبدية المباركة التي نحن مدعوين إليها بنعمة الله.
وهكذا، فإن حياتنا هنا هي زمان عمل جسدي ورحي لا يتوقف، والحياة الآتية هي للمكافأة بحسب أعمالنا. لكن ينبغي بنا أن نميّز أيّ نوع الأعمال يثمِر أبدية مبارَكة وأيّ يغلّ المرارة، لكي نجتنب الأخيرة ونتمسّك بالأولى. الإنسان ذو وجهين، جسد ونفس، ومثله أعماله. الوجه الأول هو الإنسان الخارجي والآخر هو الداخلي. هذان الإثنان، متحدين في أقنوم الإنسان الواحد، معزولان عن بعضهما البعض كما السماء عن الأرض، وهما معارضان لبعضهما البعض حتّى أنّ مَن هو غير مستنير بنعمة المسيح لا يستطيع أن يتوصّل إلى معرفة نفسه ولا أن يتجنّب الكارثة. فالإنسان الخارجي هو جسد فانٍ، مصمَّم من الله ليخدم النفس، وهو يطلب إشباعه الذاتي؛ الإنسان الداخلي هو نفس لا تعرف الموت، مخلوقة على صورة الله ومثاله للأعمال الصالحة، وهي تطلب اهتمامها الخاص ورضاها.
أعمالنا تسمّى بذاراً وهي أيضاً نوعان: البعض للإنسان الداخلي والبعض الآخر للخارجي، والثمار المختلفة لكل منها جلية. ” أَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ الْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَادًا، وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ الرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً” (غلاطية 8:6). بذار الإنسان الخارجي وجناه في هذه الحياة لها ثلاثة أوجه: شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ (أنظر 1يوحنا 16:2). ما لم يتأمّل الإنسان الداخلي بناموس الله ويتغذّى منه، وما لم يتقوَّ بالقراءة والصلاة، فإن الإنسان الخارجي يغلبه ويصيّره له خادماً ومرؤوساً. لهذا، هناك أعمال ظاهرة ترضي الجسد ولكنها مبغوضة من الله كالكبرياء والبخل والنهم وإشباع أنواع الشهوات والكلام البطّال والضحك، والملاهي، والسكر، والخبث، والنفاق، والكذب، والحسد والكسل وغيرها. هذه ثمار البذار بحسب الجسد ولهذا لا يستطيع اللحم والدم أن يرثا ملكوت الله (أنظر 1كورنثوس 50:15).
لكن عندما تستغرق النفس في التأمّل بناموس الله ويخضع الجسد إلى حكمة النفس، عندها تظهر الأعمال التالية: محبة الله والقريب، المسالمة، الاتضاع، العطف، الرحمة نحو الجميع، التواضع، الاعتدال، العفة، والبراءة وغيرها من أعمال الروح القدس المعروفة ببذار الروح.
إن أعمالنا في هذه الحياة هي البذار، والحياة الآتية هي جنى ما نبذره اليوم. ما يبذره الإنسان هنا هو ما سوف يجنيه هناك. إذا سارع الإنسان إلى الاهتمام بحقل قلبه وتسميده ورشّ البذار الأبدي فيه، فيمكنه أن يتوقّع بثقة حصاداً مطابقاً من الراحة والسعادة الأبديتين. إن مَن يزرع بدموع التوبة سوف يحصد بالابتهاج كما يقول النبي (مزمور 5:126)، لأن الراحة اللذيذة تتبع أعمال التقوى. أما الراحة والانتعاش فمحروم منهما مَن لم يجهد في أعمال البِرّ لأنه “إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضًا” (2تسالونيكي 10:3).