يا إخوة، قبل هذا الحدث، الّذي يتكلّم عليه إنجيل اليوم المبارَك، كان الرّبّ يسوع قد أطعم الجموع الّتي تبعته بإصرار، ثلاثة أيّام. وإذ عاين قومٌ – والنّصّ، هنا، يقول النّاس – هذه الآية، قالوا: “هذا هو بالحقيقة النّبيّ الآتي إلى العالم”، ورغبوا في أن يختطفوا يسوع، ليجعلوه ملكًا. لكنّ يسوع عرف قلوبهم، فانصرف من دون أن يفسح في المجال لهم أن يتمّموا قصدهم. الرّومان كانوا، في ذلك الزّمان، يمارسون سياسة القمع تجاه اليهود. وقد جرت محاولات عدّة للاستقلال؛ فكانت ثورات، لكنّها لم تنجح. لكن، في قلب أكثر اليهود، كانت هناك ثورة على الرّومان. وهذا ما جعل اليهود ينظرون إلى يسوع من منظار واقعهم السّياسيّ. قرأوه، بمعنًى من المعاني، قراءة سياسيّة. وهذا أمر بشريّ. كلّ إنسان يحاول أن يقرأ يسوع وفقًا لحاجاته، وفقًا لأفكاره، وفقًا لرغباته… هَمُّ الإنسان، في الدّرجة الأولى، أن يحقّق مراميه، أن يحقّق مقاصده. هذا، طبعًا، يؤكّد أنّ الآيات والعجائب لا تؤدّي، بالضّرورة، إلى الإيمان بالرّبّ يسوع.
على ضوء هذا الواقع، قال الرّبّ يسوع لأولئك الّذين لاحقوه: “الحقّ الحقّ أقول لكم إنّكم تطلبونني، لا لأنّكم رأيتم آيات، بل لأنّكم أكلتم من الخبز وشبعتم”. الإنسان، إذًا، عنده، بصورة تلقائيّة، هذا الميل إلى استغلال الإلهيّات لمراميه الخاصّة. تذكرون أنّ الرّبّ يسوع، بعدما اعتمد على يد يوحنّا المعمدان، أَخرجه الرّوح إلى البرّيّة، حيث صام أربعين يومًا، وجرّبه الرّوح الخبيث بثلاثة أمور: جرّبه بموضوع الطّعام، وبموضوع السّلطة، وبموضوع استغلال ما لله لمرامٍ شخصيّة. بهذا المعنى قال له إبليس أن يلقي بنفسه من أعلى الهيكل: “ألقِ بنفسك إلى تحت، لأنّه مكتوب أنّه يرسل ملائكته ليحفظوك؛ فلا تصدم بحجر رجلك” (متّى4: 6)؛ فقال له الرّبّ يسوع، يومها: “مكتوب أيضًا: لا تجرّب الرّبّ إلهك” (متّى4: 7). بكلام آخر، الرّبّ يسوع يشاء أن يبيّن لنا أنّ الإنسان المؤمن لا يجوز له أن يستغلّ ما لله لمراميه الخاصّة، الشـّخصيّة. هذا، طبعًا، يستدعي أسلوبًا خاصًّا في التّعامل مع الله، وإلاّ فإنّ تعاملنا معه يكون فاسدًا، ولا نجني منه شيئًا. علينا أن نُفرغ أنفسنا من كلّ رغبة في سلطة؛ وعلينا أن نلتزم روح الفقر، مكتفين بما هو ضروريّ لمعيشتنا؛ وعلينا، أيضًا، أن نُلقي بأنفسنا بين يدي الله الحيّ، نُسلم أنفسنا إليه في كلّ ما يخصّنا، في كلّ ما يجري لنا؛ ولا نحاول، لا سيّما في الأوقات الحرجة، أن نستغلّ ما لله لأغراض دهريّة. هذا، طبعًا، يستدعي وعيًا، وجهدًا؛ ويستدعي، في الدّرجة الأولى، استقامة القلب. إذا لم يكن القلب مستقيمًا، فليس باستطاعة الإنسان أن يؤمن، ولا أن يقيم علاقة سليمة مع الله. استقامة القلب تأتي، أوّلاً وأخيرًا، من كون الإنسان لا يطلب شيئًا من عند الله، على الإطلاق. الرّبّ يسوع قال لنا: “اطلبوا ملكوت السّموات وبرّه” (متّى6: 33). ملكوت السّموات هو روح الرّبّ القدّوس. هذا نطلبه، ونسعى لأن يسكن فينا؛ إذ ذاك، نكون في سعي إلى ملكوت السّموات. في ما عدا ذلك، نحن لا نطلب شيئًا، على الإطلاق؛ لأنّ الرّبّ الإله وعدنا بأنّ كلّ شيء نحتاج إليه، في هذا الزّمن، يُعطى لنا من دون أن نطلبه، إن طلبنا الملكوت من كلّ القلب، ومن كلّ النّفس، ومن كلّ القدرة؛ لأنّ الرّبّ الإله، العالم بكلّ شيء، يعرف حاجة الإنسان في معيشته، أكثر ممّا يعرفها الإنسان نفسه. الإنسان، بكلّ أسف، لا يعرف، تمامًا، ما يحتاج إليه، حتّى في مستوى المعيشة. اليوم، مثلاً، نحن نخلط بين حاجات هي بالفعل حاجات، وحاجات وهميّة يلتزمها الإنسان ويطلبها؛ وهو، في الحقيقة، لا يحتاج إليها. هناك أمور كثيرة جدًّا، في حياتنا اليوم، نحن لسنا نحتاج إليها. لنبدأ بملابسنا، مثلاً. إذا نظر الواحد منّا في خزانته، وجد أنّ هناك كمّيّة من الملابس المختلفة، الّتي لا يحتاج إليها، أبدًا؛ وقد تبقى ألبسةٌ في الخزانة سنة بعد سنة، وقد يأكلها العثّ؛ وقد ننسى ما عندنا ولا نستعمله، أبدًا؛ وإذا ما خطر في بالنا أن نستعمله، يكون قد فات الأوان، لأنّه يكون، إذ ذاك، غير مناسب لِما يتماشى وذوق العصر الّذي نكون فيه. هكذا، نكون قد أنفقنا أموالاً، ليست بقليلة، على ما لا نحتاج إليه. لماذا يحتاج الإنسان، مثلاً، إلى الكثير من المفروشات في بيته؟! كثيرون، مثلاً، يقتنون طاولة سفرة ولا يستعملونها، إلاّ ربّما مرّة في السّنة؛ وإذا أرادوا أن يتناولوا الطّعام، فإنّهم يتناولونه في المطبخ. كذلك الأمر بالنّسبة إلى الصّالون! النّاس لا يحتاجون إلى صالونات، بكلّ معنى الكلمة. قد ينفقون أموالاً طائلة على ذلك، هذا إذا حسبنا السّجّاد، واللّوحات، والزّينة… هل يحتاج الإنسان إلى كلّ هذه الأمور؟! ربّما غروره يحتاج إلى هذه الأمور! ربّما لأنّ الحسد يدفعه إلى هذه الأمور! حين نرى أنّ هناك أناسًا يفعلون ذلك، نشعر بأنّنا يجب علينا، نحن أيضًا، أن نفعل هذا الأمر! لكن، هل هذه حاجة، بكلّ معنى الكلمة؟! هل هذه حاجة لا يمكننا أن نعيش من دونها؟! هذا غير صحيح! وحَدِّثْ ولا حرج عن الكثير من المقتنيات الّتي في البيت. أليس بإمكان الإنسان أن يعيش من دون تلفاز، مثلاً؟! طبعًا، صار، اليوم، البرّاد ضرورة. والإنسان رتّب حياته على أساس هذه الضّرورة. لكن، لا ننسينّ أنّ النّاس قَبْلَنا كانوا يعيشون من دون هذه الأمور. في الحقيقة، أذكر أحاديث كنّا نتعاطاها، نحن الشـّبّان، منذ سنوات. كنّا نقول إنّ تعميم الكهرباء على البيوت سوف يخلق للإنسان مجموعة كبيرة من الحاجات الّتي لا يحتاج إليها، والّتي بإمكانه أن يستغني عنها لو أراد. لكن، هل بإمكان أحد، اليوم، أن يقول لإنسان: لماذا لا تستغني عن الكهرباء؟! هذا غير وارد! لماذا لا تستغني عن البرّاد، أو الغسّالة، أو التّلفاز، أو الهاتف، أو الخلويّ؟!… على العكس، أحيانًا كثيرة، نجد أنّ كلّ واحد من أفراد العائلة لديه خلويّ. هذه صارت حاجة، صارت أمرًا ضروريًّا، في الحياة! صار الإنسان لا يستطيع أن يتصوّر العيش من دون هذه الوسائل. لكنّ الأحداث، مثلاً، أثبتت أنّ الإنسان، خلال الحوادث المؤلمة، الّتي جرت في لبنان بين العام 1975 والعام 1990 من القرن العشرين، كان قادرًا على الاستغناء عن الكثير من الأمور، الّتي كان يتعاطاها قبل ذلك، والّتي استمرّ يتعاطاها بعد ذلك! كنّا، لسنوات، نعيش من دون كهرباء، على ضوء الشـّمعة، وكنّا نشكر الله لأنّ لدينا شمعة! وكان حصولنا على “ربطة” من الخبز شأن عظيم! أمور كثيرة لم تكن متوفّرة، وكنّا نعيش من دونها؛ وكانت طبيعة الحياة نفسها تجعلنا نقدّر كلّ شيء، مهما كان بسيطًا، إذا تمكّنّا من اقتنائه وكنّا نحتاج إليه!
إذًا، في الحقيقة، لو أراد الإنسان أن يكون منصـِفًا، وصادقًا مع نفسه، لَكان بإمكانه أن يستغني، على الأقلّ، عن 75 إلى الـ 90 في المئة ممّا هو في حوزته. بسهولة، بإمكان الإنسان، اليوم، إذا اقتنع، وإذا رتّب حياته على أساس هذه القناعة، أن يكتفي بما يتراوح بين الـ 10 والـ 15 في المئة من الإنفاق الّذي ينفقه، ومن الحاجات الّتي يعتبرها حاجات وليست هي كذلك؛ أو ليست كلّها، على الأقلّ. لهذا السّبب، الإنسان، بكلّ أسف، تحوّل إلى آلة استهلاكيّة. وكلّ عقله صار في ما يستهلكه. الاستهلاك، في ذاته، صار هو، إلى حدٍّ بعيد، الحاجة! إذا أردنا، اليوم، أن نحدد ما هو الإنسان، لَقلنا: الإنسان هو، اليوم، حيوان مستهلِك! في الماضي، ربّما قيل: الإنسان هو حيوان مفكِّر. اليوم، ما يسيطر على حياة الإنسان هو الاستهلاك! وعمليًّا، بإمكان الإنسان أن يعيش بالقليل، وينسى أنّه يحتاج إلى شيء آخر. حين كنّا أطفالاً، كانت الوالدة هي الّتي تخيط بعض الملابس، في المناسبات، فقط! وكنّا نشتري حذاءً واحدًا في السّنة، ونكتفي بحذاء آخر لكلّ يوم. أمّا الحذاء الجديد، فكنّا نلبسه يوم الأحد، أو يوم العيد، وكنّا نفرح بكلّ شيء. لم تكن هناك مشكلة، بالنّسبة إلينا، لأنّنا نعيش بطريقة بسيطة. الإنسان، في الحقيقة، يأتي على نفسه بالكثير من الهموم. ليست الحياة نفسها هي الّتي تلقي عليه بهمومها. الإنسان هو الّذي يجلب الهمّ على نفسه. اليوم، يقولون: “ليس بإمكاننا أن ننجب أكثر من ولد أو ولدين، لأنّ الحياة صارت مكلِّفة”. إذا قابلنا بين دخل الإنسان، بعامّة، اليوم، بدخل الإنسان قبل مئة عام؛ لَوجدنا أنّ الإنسان، قبل مئة عام، كان يُعتبَر فقيرًا جدًّا جدًّا. أكثر النّاس كانوا يعملون موسميًّا. لكنّهم كانوا يفرحون بالأمور البسيطة الّتي عندهم. اليوم، عندنا الكثير، ولا نفرح بشيء! تهتزّ نفوسنا لاقتناء بعض الأمور، الّتي نقتنيها ليوم، أو يومين، أو ثلاثة أيّام، أو أسبوعٍ، أو أسبوعين، ثمّ نلقيها جانبًا، ونطلب شيئًا آخر. وهكذا دواليك. اليوم، أصبحت نفوسنا مرتبطة بما نستهلكه، بما نقتنيه جديدًا! والإنسان يلهث وراء القنية؛ ولا يكتفي بشيء، على الإطلاق؛ ولا يفرح بشيء، على الإطلاق، إلاّ عبورًا. ربحنا الاستهلاك، وخسرنا الفرح!
لكن، لو كان الإنسان ليطلب القليل، لَكان لا فقط يفرح أكثر؛ بل، أيضًا، لَكانت علاقته بالآخرين لتكون مختلفة؛ ولَكانت علاقته بالله، أيضًا، لتكون مختلفة. في الدّرجة الأولى، الإنسان يحتاج إلى روح الفقر. وهذا صحيح اليوم، بصورة خاصّة. اليوم، روح الفقر يكاد يكون غائبًا، بصورة شبه كلّيّة، عن حياة النّاس. حتّى الفقراء ليس عندهم، بالضّرورة، روح الفقر! فإنّ نفوسهم تشتهي ألف شأن وشأن! روح الفقر معناه أن يطلب الإنسان ما يحتاج إليه. الرّسول بولس يقول: “إن كان لنا قوت وكسوة، فلنكتفِ بهما” (1تيمو6: 8)! روح الفقر معناه أن يكون الإنسان قانعًا بما عنده! روح الفقر معناه أن يكون مستعدًّا لأن يشترك بما لديه مع الّذين يعانون صعوبات قد لا يعانيها هو، بالضّرورة! إذًا، روح الفقر يستدعي القناعة، والبساطة، والشـّركة. هذا شيء جميل جدًّا. نحن لا نقول، بالضّرورة، إنّ كلّ واحد منّا عليه أن يبقى أسبوعًا من دون طعام! هذا لا يعني، بالضّرورة، أنّ هذا الإنسان يمارس روح الفقر، إذا فعل ذلك. روح الفقر هو حالة، وليس فعلاً يتمّمه الإنسان. الشـّيء الطّريف، مثلاً، أنّ أكثر النّاس، بعد الصّوم، يعودون إلى عاداتهم الغذائيّة السّابقة. بعد أسبوع، أو أسبوعين، أو ثلاثة أسابيع، من انتهاء الصّوم، ينسون أنّهم كانوا في صيام. لكن، ما الغرض من الصّيام؟! الغرض منه هو أن يقتني الإنسان روح الفقر، الّذي ينبغي أن يلازم كلّ واحد منّا، لكي تستقيم علاقته بربّه، وبالآخرين، وبنفسه. إذًا، من دون روح الفقر، عمليًّا، يستحيل على الإنسان أن يؤمن إيمانًا قويمًا! إذا لم يكن يقتني روح الفقر، فلا بدّ له من أن يستغلّ الإلهيّات، بشكل أو بآخر، لغاياته الشـّخصيّة. وأيضًا، إذا قلنا “روح الفقر”، نمدّ الفقر إلى أبعد ممّا هو حسّيّ. المقصود بالفقر هو إفراغ الذّات. الإنسان، مثلاً، يُفترَض به ألاّ يطلب كرامة لنفسه، وألاّ يسعى لحبّ الظّهور، ولا للمجد الباطل، وألاّ يطلب المقعد الأوّل بين النّاس، ولا سلطةً لنفسه، ولا أن يكون صديقًا للرّؤساء والعظماء… روح الفقر لا يتناول، فقط، ما هو حسّيّ؛ بل ما هو حسّيّ، وما هو نفسيّ، وما هو روحيّ في العمق. روح الفقر، كما يشير الاسم، هو روح. وما دام هو روح، فهو يتناول الإنسان برمّته.
الإنسان، في الحقيقة، إذا سلك في روح الفقر، إذا تروّض على روح الفقر؛ فإنّه يجد، إذ ذاك، أنّ إيمانه بالرّبّ يسوع يصير إيمانًا حيًّا، ولا يبقى إيمانًا نظريًّا، أو فكريًّا، أو أهوائيًّا. الإيمان يصير ضرورة حياة. الإنسان الّذي يلتزم روح الفقر، وقد ألقى بذاته بين يدي الله الحيّ، يجد نفسه في إطار الإيمان الحيّ بيسوع. بغير ذلك، يكون الإنسان انتقائيًّا: يختار ما يناسبه، ويُضفي عليه الصّفات الّتي يريدها، ويسمّي الأشياء بغير أسمائها… وهذا، في العمق، هو السّبب في أنّ الإيمان، بين الّذين يُحسَبون مؤمنين بالرّبّ يسوع المسيح، يتآكل، ويتناقص، بصورة مستديمة. اليوم، بإمكان الإنسان، إذا أراد أن يصدق، أن يسأل بشأن نفسه وبشأن الآخرين: هل نحن مؤمنون، حقًّا، بالرّبّ يسوع؟! ما قيل في الإنجيل الكريم، “متى جاء ابن الإنسان، فهل يجد الإيمان على الأرض؟!” (لو18: 8)، لا شكّ في أنّه ينبغي أن يكون مصدر تأمّل، بالنّسبة إلينا؛ لأنّنا، اليوم، على الصّعيد الشـّخصيّ وعلى الصّعيد العامّ، (وأنا لا أتكلّم على الآخرين، بل على نفسي، أيضًا) نحتاج إلى نسأل أنفسنا: هل نحن، فعلاً، في نطاق الإيمان الحيّ بيسوع؛ أو إنّ إيماننا بات شيئًا نستخدمه، ليكون دعمًا نفسيًّا لنا، وليكون دعمًا طائفيًّا لنا، وليكون دعمًا لقناعة عندنا أنّنا إن آمنّا نقتني الحياة الأبديّة؟!
ما لم نكن في سعي دؤوب، كلّ يوم، لاقتناء روح الفقر؛ فكلّ ما يَرِد على أذهاننا تُطرَح بشأنه علامة استفهام كبيرة. السّؤال يبقى لكلّ واحد منّا: هل نحن مؤمنون، فعلاً، بالرّوح والحقّ؟! هذا جوابه متروك لضمير كلّ واحد منّا.