يظهر أن هناك فجوة لا يمكن تجاوزها بين غنى التقليد الأرثوذكسي المتعلّق بصلاة القلب من جهة، ومن جهة أخرى الصلاة الفقيرة التي هي جزءٌ من خبرتنا الشخصية. صلاة القلب تتطلّب الهدوء (hesychia)، السكون الداخلي العميق، الذي يسمح لنا أن نسمع “صوت الله المُنْخَفِض الخَفِيف”. هل هذا في متناول أيدينا اليوم، في ظروف الإجهاد، والإرهاق والتشتت التي تصبغ حياتنا اليومية؟
أغلب التعليم الهدوئي التقليدي صاغه شيوخ نسّاك ونُقِل إلى رهبان أصغر سنّاً. إنّه تقليد تطوّر في الدير وهَدَفَ أساسًا إلى الحياة الرهبانية. إلا إنّ جذوره تعود إلى العهد الجديد وإلى تعليم يسوع وخبرته. تظهِر الأناجيل يسوع مراراً منفرداً لبعض الوقت لكي يصلّي إلى أبيه سرّاً. من ثمّ يُضَمّ إلى صلاته صلوات الآخرين أي الأشخاص الذين يتوسّلون إمّا إليه أو إلى الله الآب طالبين الرحمة والغفران. يصرخ برطيماوس الأعمى “يا يسوع يا ابن داود ارحمني” (مرقس 47:10). في مثل الفريسي والعشّار (لوقا 9:18)، يصرخ العشّار أو جابي الضرائب من أعماق بؤسه: “يا ربّ، ارحمني أنا الخاطئ”! تدريجياً، هذه الاستغاثات انتهت إلى الصياغة المألوفة لصلاة يسوع: “يا ربّي يسوع المسيح ابن الله ارحمني أنا الخاطئ”.
عبر التاريخ، وربّما بشكلٍ خاص في أيامنا، شكّلت هذه الصلاة أو بعض أشكالها حجر الزاوية للصلاة والعبادة لدى العلمانيين كما لدى الرهبان. الهدوئية، بتعبير آخر، ليست نتاج جدال في القرون الوسطى بين الرهبان الأثوسيين واللاهوتيين اللاتين، كما يرى البعض. إنها تقليد قديم ولكنه حي، بإمكان أيّ كان، مع الإرشاد الروحي المناسب، أن يسعى إلى تبنّي واختبار هذا التقليد كوسيلة أولية لخلق شركة عميقة وشخصية وغير منقطعة مع الله، والحفاظ على هذه الشركة.
يحثّ القديس يوحنا السلمي رهبانه: “فليكن ذكر يسوع مع كل نَفَس، وعندها ستعرفون قيمة السكون”. إذ يستذكر القديس إيسيخيوس الكاهن أقوال القديس يوحنا السلّمي، يضيف: “إجلُد العدو باسم يسوع وكما قال أحد الحكماء: فليلتصق اسم يسوع بنَفَسِك، وعندها سوف تعرف بركات السكون”.
هذه البركات وصفها القديس نيكيتا ستيثاتوس على نحو باهر في رسالة عنوانها “طبيعة الأشياء الداخلية”: “السكون هو حالة الفكر غير المشوش، وهدوء روحٍ حرة وبهيجة، واستقرار القلب الهادئ غير المتموّج في الله، معاينة النور، معرفة أسرار الله، وعي الحكمة بحكم العقل النقي، هاوية التعقل الإلهي، طبيعة العقل، مخاطبة الله، اليقظة التي لا تنام، الصلاة الروحية، الاستراحة التي لا يعكرها شيء في وسط الصعوبات الكبيرة، وبالنهاية، التضامن والاتحاد مع الله”.
إلى أين تقودنا هذه النظرات الخاطفة في التقليد الهدوئي؟ أمن الممكن لنا في هذه الأيام، كرهبان أو كهنة أو علمانيين، أن نكتسب عطية الصلاة غير المنقطعة، وأن نسبر أعماق “الصلاة النقية” ونتسلّق مرتفعاتها؟
إذا افتكرنا بحياة أناس قديسين كمثل القديس سلوان الأثوسي، أو الأب أرسانيوس (سترالتزوف) في معسكرات العمل السوفياتية، أو ما لا يُحصى من العلمانيين، الرجال والنساء، الذين يمارسون صلاة يسوع ولو بالمناسبات، فالجواب سوف يكون أن الإمكانية واردة إلى حدٍ ما (يحدده الله وحده) أقله بالنسبة إلى الساعين إليها. بالطبع، الوصول إليها بشكلها الأنقى ليس متاحاً للجميع. نحن نعرف أن الكثيرين من القديسين جاهدوا وصلّوا بحرارة من دون أن تُمنح لهم عطية الصلاة التي تتجذر في أعماق القلب. وقلة فقط عرفوا نعمة فرح “الصلاة النقية” الذي لا يوصَف، حيث النوس (العقل الروحي) بذاته يسمو والنفس تقطن بانجذاب صوفي بهيج في شركة كاملة مع الله.
“مَن لم يسمُ على ذاته وعلى كل ما هو خاضع للتعقّل، ولم يبلغ إلى السكن في الصمت الذي يتخطّى التعقّل، لا يمكن أن يكون متحرراً من التبدّل” أي لا يستطيع أن يتمتّع بالسكون الكامل الذي لا ينتهي في الاتحاد المبارك مع الله.
التعقّل هو مَلَكَة النوس التي تسمح له باستيعاب الحقائق الروحية مباشرةً، من دون تلك التي ينبغي تخطيها. عندما يحدث هذا، يبلغ الإنسان إلى اختبار “صوت الصمت المطلَق”، “الصمت الذي يتخطى التعقّل” الذي يؤهّل كامل الكيان لأن تغمره المحبة الإلهية الكاملة التي هي كيان الإله الثالوثي وحياته.
إلى الذين بيننا ممَن لم يبلغوا إلى هذه المرتفعات، هناك رجاء فيّاض ووعد غزير. أي واحد منّا، إذا اشتهينا هذه الحالة وصليّنا لها من دون انقطاع، يمكن أن يكسب بعض جوانب عطية الصمت التي تؤدّي إلى السكون. وبهذه العطية يقتني أذنين يسمع بهما صوت الله الذي يتحدث إلينا في صمت قلوبنا.