في الأصل، الدين كان أمّ الأخلاق والتكنولوجيا. أولاً وقبل كل شيء، الدين كان نبعاً متدفقاً من أعماق مخفية، والأخلاق كانت نهراً حاملاً الحياة، والتكنولوجيا بمساعدة القنوات الفنيّة حملت المياه من هذا النهر إلى شرايين حياة الإنسان.
الله أعلن للإنسان ناموس الإيمان وناموس السلوك ومعرفة التكنولوجيا. بإرشاد الله، بنى نوح فلكاً أبحر في واحدة من أطول الرحلات في تاريخ الإبحار. بإلهام الله، امتلأ بَصَلْئِيل “بِالْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَكُلِّ صَنْعَةٍ، لاخْتِرَاعِ مُخْتَرَعَاتٍ لِيَعْمَلَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالنُّحَاسِ، وَنَقْشِ حِجَارَةٍ لِلتَّرْصِيعِ، وَنِجَارَةِ الْخَشَبِ، لِيَعْمَلَ فِي كُلِّ صَنْعَةٍ” (خروج 1:31-11). على المنوال عينه، هيكل سليمان الذي هو أحد أعظم العجائب الهندسية في العالم القديم، بناه الناس الذين علّمهم الروح القدس وقادتهم يد الرب. هذه شهادة الكتاب المقدس.
الله كان سبب الإيمان الحقيقي والسلوك الحَسَن ومعرفة التكنولوجيا بين الناس. فيما أحسّ البشر باستمرار بأن الله فوقهم وأمامهم ومن حولهم على منوال الإحساس بالهواء والنور، فقد أعادوا الفضل بإنجازاتهم التكنولوجية واليدوية إليه وهو إلههم وخالقهم. عندما صار الإحساس بحضور الله بليداً وأظلمت الرؤية الروحية، أي عندما دخل الغرور إلى التجار والتقنيين، وابتدؤوا يحصرون التمجيد بذواتهم بسبب أبنيتهم وأعمالهم اليدوية والفكرية، وابتدؤوا يسيئون استعمال عملهم، عندها ابتدأ ظلّ اللعنة يخيّم على التكنولوجيا.
كثيرون يتذمرون من التكنولوجيا. كثيرون يحمّلون التكنولوجيا الحديثة مسؤولية كل ويلات العالم. هل التكنولوجيا هي حقاً مَن يُلام أم أولئك الذين يخترعونها ويستعملونها؟ أيُلام صليب خشبي إذا صُلب أحدهم عليه؟ أتُلام المطرقة إذا استعملها أحدهم ليحطّم جمجمة أخيه؟ لا تحسّ التكنولوجيا بالخير ولا بالشرّ. إن نفس الأنابيب يمكن استعمالها لجرّ مياه الشرب أو المياه الآسنة. لا يأتي الشر من عدم الحس، أي من التكنولوجيا الميتة، بل من القلوب الميتة عند البعض.
الفلك العجيب الذي كان لخلاص نوح وللجنس البشري الجديد الذي كان مزمعاً أن يولَد، بناه نوح وهو واعٍ تماماً لحضور الله ومن دون أي غرور. بضمير مظلم من جهة حضور الله، اتفق البشر فيما بينهم ممتلئين بالغرور “هَلُمَّ نَبْنِ لأَنْفُسِنَا مَدِينَةً وَبُرْجًا رَأْسُهُ بِالسَّمَاءِ. وَنَصْنَعُ لأَنْفُسِنَا اسْمًا”. هذا كان بناء برج بابل. عندما انتهى الملك سليمان من بناء هيكل الله العظيم، رفع يديه إلى السماء وصرخ باتّضاع: “هُوَذَا السَّمَاوَاتُ وَسَمَاءُ السَّمَاوَاتِ لاَ تَسَعُكَ، فَكَمْ بِالأَقَلِّ هذَا الْبَيْتُ الَّذِي بَنَيْتُ”. هذا الهيكل العجيب دام أحد عشر جيلاً. دُمِّر إلى غبار ورماد عندما حوّله الكفّار نسل سليمان الملك بأعمالهم من “بيت للصلاة إلى بيت للتجارة”.
لم يثبت هذا الهيكل لقرون بسبب التكنولوجيا، ولا التكنولوجيا تُلام لاختفائه عن وجه الأرض. التكنولوجيا صمّاء بكماء ولا تقدم أجوبة. إنها تتبع الأخلاق بشكل كامل كما تتبع الأخلاق الإيمان. معروفة جيداً قصة الملك نبوخذنصّر الذي بنى مدينة بابل بالقصور والأبراج المعلّقة ببراعة تكنولوجية وجمال لم يعرف لهما العالم مثيلاً في ذلك الزمان. تطلّع الملك إلى المدينة التي بناها من على سقف قصره وقال بغرور “أليست هذه هي بابل العظيمة التي بنيتها بنفسي كمنزل ملَكي بقدرتي ومجد جلالتي؟” وفيما هو يتفوّه بهذه العبارات المتغطرسة، ضربه الله بالجنون وصار مجنوناً، وفي الجنون عاش لسبع سنوات كمثل وحش بين وحوش الغابات. مدينته بابل العظيمة صارت كومة من الأنقاض ، صحراء قاحلة لا ساكن فيها، تماماً كما تنبأ النبي إرمياء (إرمياء 37:51).
حيثما يتلاشى خوف الله ويُداس ناموس الله الأخلاقي، هناك يقع جبل التكنولوجيا البشرية في الغبار التي منها بُني. هكذا برج إيفل وكاتدرائيات إلمانيا وناطحات السحاب الأميركية، أبراج التكنولوجيا والهندسة البشرية، سوف ينهار إلى غبار لا شكل له، ومعهم بعض المسيحيين الذين يحاربون الله ويعدّون كل تدابير الغرور والخطيئة… لماذا الكثير من الحضارات المجيدة مدفونة في الأرض ومن فوقها يحرث الحارثون الأرض من دون أن يدركوا أن أبراجهم وعظامهم هي تحت الأرض المحروثة؟ لماذا كل مباني اليونانيين الرخامية العظيمة لم يبقَ منها إلا الأكروبول؟
كيف تجرأت الأرض على أن تخفي عن الشمس وأعين الناس الهياكل في بعلبك ومصر، كما مدن تاباتا وبرسوبوليس وصور وصيدا وطروادة، التي عليها ترعى الأبقار بسلام وتخور الخنازير ويبني الرعاة إسطبلات من الرخام المنتشر؟ لماذا مدن الملك مونتيزوما المتغطرسة وهياكله وقلاعه تندثر من دون أي أثر؟ أيضاً ممالك الإنكا والبيروفيين المتعلّمين؟ أي يدٍ لا ترحم دحرجت أكواماً من الوحل على هذه الإنجازات البشرية وهي بقوتها وتصميمها وجمالها يمكن أن تضاهي أفضل الأبنية الحديثة؟
لماذا يوجد تقطعات ولا يوجد استمرارية في حضارات الجنس البشري؟ لأن أياً منها ليس مرضياً للإله الحقيقي الوحيد. أيٌّ من هذه الحضارات المدفونة لم تتدمر بفعل الزمن أو بسبب النقص في تكنولوجيات البناء المتينة، بل بالخطيئة ضد الإيمان والأخلاق الإلهية. عدم استقرار الأخلاق لا التكنولوجيا هو مَن دفنهم في ظلمة عميقة.
“وَأَنْتِ يَا كَفْرَنَاحُومَ الْمُرْتَفِعَةَ إِلَى السَّمَاءِ! سَتُهْبَطِينَ إِلَى الْهَاوِيَةِ”. لقد تمّت هذه النبوءة التي تنبّأ بها المسيح في الأيام التي كانت فيها كفرناحوم تشعّ بالمجد كمثل المدن في القصص الخيالية بالقرب من بحيرة. لقد تحققت بشكل مخيف، حتّى أنه عندما يجد نفسه أحد المسافرين بين الأشواك والأفاعي حيث في يوم من الأيام رفعت نفسها مدينة كفرناحوم بفخر، يتساءل مرتعباً “أهو معقول أن هذا المكان الكريه كان في يوم ما مكان سكنى للبشر؟”
الأخلاق، أي الأخلاق الإنجيلية، تدوم ولا تتبدّل، بينما التكنولوجيا تتبدّل دائماً. الأخلاق هي مثل سيدة والتكنولوجيا مثل خادمتها. لهذا على الأخلاق أن تتحكم بالتكنولوجيا. القيَم الأزلية هي أرضية الأخلاق لا التكنولوجيا. إنه لمدمّر لشعب بأكمله أن يضع الناس هدف حياتهم في التكنولوجيا، وأن يضحّوا بكل عملهم وعرقهم لتقدم التكنولوجيا، جارّين الأخلاق وراءهم، كما جرّ أخيل رأس هيكتور معلقاً بعربة. إن أشخاصاً مثل هؤلاء يمكن أن ينجحوا في بناء كل مدنهم من عاج وذهب، ولكن إن عاش فيها أشخاص مثل آخاب وزابيل فسوف تكون الكلمة الأخيرة للكلاب لا للبشر. بين الشرف والمهارة يسهل الاختيار. إن رجلاً أميناً من غير مهارات أكثر احتراماً في زماننا من رجل ماهر بلا أمانة.
إن التكنولوجيا تغيّر علاقة الإنسان مع الطبيعة لكن ليس مع الله والإنسان. كلّ مَن يفكّر خلاف ذلك يعطي قيمة للأشياء أكثر من الناس، وللتراب أكثر من الروح. إن أكثر المآسي رعباً في زماننا هي الحرب بين البشر والله. الله يريد أن يرفع ويعلّي هوية الإنسان فوق المادية البكماء التي لا حياة لها، بينما البشر يريدون أن يدفنوا هويتهم وينسوا خالقهم ويجعلوا التكنولوجيا والثروة المادية هدفَ حياتهم الوحيد. كثيرون من المعوقين روحياً وأخلاقياً بعدم إيمانهم بالمسيح يخلقون من التكنولوجيا الحديثة أصناماً يعبدونها ويدعون غيرهم والأمم لتقديم الضحايا لهذه الأصنام.
* قديس صربي عاش في النصف الأول من القرن العشرين وتوفي سنة 1956 أعلنت قداسته الكنيسة الصربية سنة 2003، يعيّد له في الخامس من أذار.