عند وصول المركبة الفضائية، في طريق عودتها إلى الأرض، إلى قوة الكوكب الجاذبة يغيّر الطاقم سلوك المركبة، أي التوجّه بالنسبة لاتجاه السفر، لكنهم لا يستطيعون تغيير الاتجاه نفسه. فهم، بمعنى ما، يهبطون عامودياً نحو وجهة لا مفرّ منها، أي الأرض. ولكن مع الاستدارة قليلاً يميناً أو يساراً ورفع مقدمة المركبة أو تخفيضها يضبطون مسار المركبة. وبالاستفادة من تأثير الجاذبية الملزِم يتحكّمون بتحديد مكان الهبوط الآمِن بدقّة. إن لم يضبطوا مسار المركبة، فهم سوف ينهارون ويتحطمون في بعض المناطق النائية أو ببساطة يحترقون فيما هم يخترقون الفضاء.
الوجود البشري هو بمعنى ما على الشكل نفسه. نحن نتقدّم بسرعة عِبر الزمن نحو النهاية المحتومة أي الموت والدينونة والأبدية. لا يمكننا تلافي وِجهة السفر هذه لكن كمِثل المركبة يمكننا استعمال قوى التأثير التي لدينا لتحديد مقصدنا النهائي: الجنة أو الجحيم.
القوى التي نملكها هي الجسد (الحواس والحركة والعقل) والنفس (المنطق والرغبة والحماس). هذه القوى تؤثّر في سلوكنا بطريقة تساهم إمّا في وصولنا الآمن أو في دمارنا. يمكن القول بأن معركتنا مع الأهواء، التي نعاني منها بسبب السقوط، هي معركة للبقاء ضمن المسار وتحت تأثير قوة مصيرنا المحتومة بدلاً عن رفض ما لا يمكننا الفرار منه وإنكار وجهة سفرنا. للشكر تأثير لا تُصدق قوته على رحلتنا. إنه قوة الرغبة في النفس (التي تُسمّى ايضاً الشهية) عندما تكون مركَّزَة على الأمور الحسنة التي منحنا إياها الله برحمته ومحبته: حياتنا، أحباءنا، الصداقةـ الطعام، اللباس، المسكَن، المطر، نور الشمس، الأعياد… أهم ما نختبر بالحفاظ على موقف الشكر هو السلام. من ثمّ هذا السلام ينشئ الرضى والفرح والتحرر من الاهتمامات وعدم التعلّق بالماديات وفوق كلّ هذا السكون الداخلي المصلّي.
وعلى العكس تماماً، عندما تتوجّه قوى الرغبة نحو كل أمور الحياة التي نملك القدرة على إرادتها لكننا نعجز عن امتلاكها حالياً أو نعجز عن ذلك، فإن تلك القوة التي تولّد الشكر تتجلّى على نحو مظلم بشكل القنوط. التركيز على الرغبة ببيت أفضل أو وظيفة أكثر سهولة أو علاقات أكثر متعة أو ازدياد بالممتلكات المادية أو المزيد من المال أو المظاهر الأفضل أو الموضة، جنباً إلى جنب مع المقارنة الدائمة لأنفسنا بالآخرين، تقود إلى الغضب والحزن والاستياء العميق والانفعال والقلق والظلمة الداخلية التي تمنع الصلاة وتسبب الانتحار الروحي، حتى لا نقول الفعلي.
يبدأ الشكر الحقيقي بالثبات في شكر الله على كل شيء نملكه حتى الصعوبات. مع الوقت يتحوّل إلى عدم الرغبة إلاّ بما اختاره الله لنا. يخبرنا القديس دوروثاوس أسقف غزة: “مَن ليس لديه رغبات يملك كلّ ما يرغب به”. من الشكر تنبع التوبة الحقيقية إذ تظهر لنا كل التصرفات السيئة التي كنا نمارسها. يزهر الشكر في الفرح الثابت والكَرَم أي الرغبة بمشاركة قريبنا كل الخير الذي منحنا إياه الله. “أيها الإنسان، هنا الجنّة. مسارك حسن. لا مانع من هبوطك. أهلاً في موطنك الأصلي”.