سَجَدَت الأجساد في عيد رفع صليب ربِّنا المقدّس المحيي. لكن هل سَجَدَت القلوب؟
ندين اليهود لأنّهم صَلَبوا ربّ المجد مرّة في التاريخ فيما نحن نصلبه كل يوم. نسخط عليهِم لأنّهم هزؤوا به وهو على الصليب ونحن نهزأ به باستمرار. نرى أنّهم قساة لأنّهم سقَوه خلاً فيما نحن نسقيه المرّ. نعتبرهم مجرمين لأنّهم طعنوه بحربة بينما نرميه بالسهام. نَصِفهم بالقساة لأنّهم سمّروا يديه بالمسامير فيما نحن ندقّ المسمار تلو الآخر في جسده. نثور عليهم لأنّهم وضعوا على رأسه إكليل الشوك فيما نحن نزرع الشوك وننميه.
قد لا يروق هذا الكلام للجميع. فيعتبره البعض تجنياً، ويرى فيه البعض الآخر ظلماً للمسيحيين، والكثيرون سوف يعتبرونه هراءً وحَسْب. المتديّنون سوف يقولون متى هزئنا بإلهنا أو سقيناه مرّاً أو رميناه بالسهام أو دققنا المسامير في جسده أو زرعنا الشوك في دربه؟
الجواب هو أننا نصلب ربّنا في كلّ مرة نحلّ فيها رباط المحبة الأخوية لأنه هو الذي جمع الكلّ من المشارق والمغارب والشمال والجنوب في رباط محبة وإيمان واحد أرثوذكسي جامع مقدّس. نهزأ منه في كلّ مرة نستمتع فيها بالهذر والكلام البذيء. نسقيه المرّ في كل مرّة ننظر إلى أحد الإخوة الصغار نظرة استعلاء، وفي كلّ مرّة نجد لذّة وحلاوة في الأهواء والشهوات. نرميه بالسهام في كلّ مرّة نخالف قوانين كنيسته التي افتداها بدمه، ولنغطّي مخالفتنا ندّعي المحبة والاهتمام فيما نحن نطلق العنان لمشيئاتنا الخاصة ولتفرّد آرائنا المضادّة لمشيئته. نسمّره بالمسامير عندما نترك الدنيويات تسمّرنا بمساميرها وتقيّدنا بقيود الأنانية.
نحن في سلوكنا اليومي ننسى أنّ المسيح بسط يديه على الصليب الذي سُمِّر عليه ليسمّر الخطيئة ويشفي أيدينا التي تمتدّ إلى ثمارها. ننسى أن الدم والماء اللذين خرجا من جنبه أظهرا الحقيقة التي تجسّدت في كنيسته وأسرارها. يغيب عن بالنا أن إكليل الشوك الذي وضعوه على رأسه هو من بذور الشرّ الذي نزرعه في هذا العالم بملء إرادتنا. نحن فقدنا ذلك العطش إلى الخلاص الذي لا يرتوي. لهذا السبب قلوبنا لا تسجد مع أجسادنا.
فلكي تسجد قلوبنا للصليب علينا أن نشقّ أرضها ونغرس فيها الصليب بعزم ثابت وحماس للعيش بحسب روح الله، لأنّ إهمالنا وعدم اكتراثنا يغطيان صليبنا كمثل الذين طمَروا صليب السيّد. فبدل أن يكون منتصباً مرفوعاً في قلوبنا نقصيه ونرميه. نحن بحاجة لأن نتذكّر دائماً قول القديس ثيوفانس الحبيس: “لنتصوّر الصليب شجرةً، تكون الجذور منها الإيمان، الذي منه يفرع أولاً إنكار الذات والعزم على الزهد بكل الأمور الفانية والتركيز على عمل وحيد هو خلاص النفس. ومن إنكار الذات تتولّد المحبة المتأهّبة للإصغاء والطاعة. ومن الطاعة ينمو الصبر المكلل بالرجاء الذي يرمي بالإنسان إلى السماء وإلى القدس الداخلي… فحيث جميع هذه المواقف لا تنتصب شجرة الصليب وحيدة عارية، إنّما تتفرّع إلى أفنان كثيرة من الفضائل المتنوّعة فتكتسي أوراق جمال السيرة، وتنتج ثمار الأعمال الصالحة بوفرة”.