إعداد راهبات دير مار يعقوب الفارسي المقطع، دده – الكورة
استوى الشيخ على كرسيّ قرب الموقد يستدفئ، فيما أخذ الشابّ استفانوس يضع بعض قطع من السكر في فنجان الشاي، ويقدّمه باحترام شديد إلى الشيخ، وهو يقول:
– يا أبي القدّيس، لديّ سؤالان يتردّدان كثيرًا على خاطري، وكم أودّ لو أجد لهما جوابًا شافيًا.
– ابتسم الشيخ، وقال: هاتِ ما لديك.
– السؤال الأوّل: لماذا لا يستجيب الله لطلباتنا أحيانًا؟ والسؤال الثاني: هل تجري معجزات في زمننا الحاضر؟
– زفر الشيخ متنهّدًا، وقال: آه، يا بنيّ، إنّ هذين السؤالين يثيرانني جدًّا، ولذلك لا بدّ أن أوضّح لك أمرًا في غاية الأهمّيّة: لكي يستمع الله لك، يجب أن تسمع، أنت أيضًا، له. فأنت عندما لا تستمع إلى صوت الربّ، أو بالأحرى، لا تطيعه، فكيف ترجو، إذًا، أن يستجيب هو لصلواتك ويلبّي لك احتياجاتك؟!! إنّي أتساءل، وأرجو أن تتساءل، أنت أيضًا، معي: هل نسمع نحن نداء لله لنا؟ وإن كنّا، فعلاً، نسمع له، حقّ لنا أن نتساءل لماذا لا يستمع هو لنا؟! ولكن ما يحدث، يا بنيّ، أنّنا لا نصغي إلى لله، ولذلك، هو بالمقابل، لا يسمع صوتنا، وهذه هي العلّة الأساس لعذاباتنا وآلامنا. وأرجو أن تنتبه، هنا، إلى أنّي أعني بكلمة إصغاء الطاعةَ لوصاياه.
إنّ عدم طاعتنا للمسيح، للكنيسة، للشريعة الإلهيّة، للإنجيل المقدّس، مردّه عدم تقوانا وقلّة إيماننا، بالإضافة إلى استهزائنا وسخريّتنا من الحياة المسيحيّة بعامّة. ولكنّ الله هو الوحيد الوحيد الذي لا يُستهزَأ به، وهو الوحيد الوحيد، أيضًا، الذي لا يُضحَك عليه ولا يُخدَع.
يطيل الربّ يسوع أناته وينتظر ويتمهّل ويمهل. بيد أنّنا لا نكفّ عن الخطأ، ولذلك تنتظرنا، من دون أدنى ريب، نار تلتهمنا وما جمعناه من مادّيّات. تشبه الحياة الزمنيّة الحاضرة القشّ السهل الاحتراق، وأعني بذلك الخطيئة المتفشّية في النفوس، هذا القشّ الذي سرعان ما تذرّيه ريح الربّ، فلا يتبقّى لنا منه سوى دينونة قاسية لا ترحم!
فهل يلمس الله طاعتنا لكي يستجيب، هو أيضًا، لطلباتنا. بل، وأتجاسر على القول لكي يطيع طلبنا، ويلبّي احتياجاتنا؟ هل تنتظر منه أن يعتقنا من أمراضنا المزمنة المستعصية، أو أن ينقذنا من وعيد الحروب الفتّاكة المدمّرة، أو أن ينجّينا من الجفاف أو الجوع أو العطش سواء للإنسان أو للحيوان؟!
ماذا يجد الربّ في كلّ فرد منّا؟ في عائلاتنا؟ في مجتمعنا؟ في كنيستنا؟ الكلّ يجري خلاف ما يريد، والجميع يعيشون عكس ما يشتهي. إنّه لا يجد سوى العصيان في كلّ مكان. فلا أحد، نعم لا أحد، يعمل الصلاح كما حدّده هو في إنجيله المقدّس، أو ما ثبّتته الكنيسة القويمة الرأي. وهذا، بالضبط، ما ترنّم به، يومًا، صاحب المزامير حين قال: “أطلّ الربّ من السماء على بني البشر ليرى هل من فاهم أو طالب لله. ضلّوا كلّهم جميعًا وتدنّسوا. ليس من يعمل صلاحًا كلاّ ولا واحد” (مزامير 13: 2-3).
الشباب، اليوم، لا يريدون أن يسمعوا شيئًا عن المسيح أو عن الكنيسة، لأنّهما يكشفان لهم اعوجاجهم بقولهما: “لا يليق أو لا ينبغي” لِما يتصرّفونه في حياتهم سواء المادّيّة منها أو الشهوانيّة أو الجسديّة.
أولادنا، اليوم، يتخوّفون كثيرًا من سماع أيّ شيء عن المسيح أو عن تعاليمه، وعندما يكبرون قليلاً، ويجتازون إلى المرحلة الثانويّة، يزداد تخوّفهم، فيبتعدون من الله لئلاّ تمسي هذه التعاليم حواجز لهم حيال رغباتهم وغرائزهم.
كم من رجال، في هذا العصر، يؤثرون الحياة الدنيويّة بمغرياتها كلّها، خاضعين لشهواتهم الجسديّة من دون أدنى رادع، ومفضّلين مصالحهم الشخصيّة على حياتهم الروحيّة. عادت الكنيسة بالنسبة إليهم غير ضروريّة، إنّها لا تروق لهم و”ليست على مزاجهم”؛ إنّها ثقيلة. ولذلك، فهم يفضّلون قضاء أوقاتهم إمّا بصيد الأسماك أو الركض، هنا وهناك، وراء اصطياد الطيور، أو يعرّضون أبدانهم لحمّام شمسيّ، أو ينطلقون في نزهة جميلة سواء بحريّة كانت أو برّيّة، هذا كلّه على حساب التردّد إلى الكنيسة ليؤدّوا الشكر لله الذي أغدق عليهم بعطاياه في الأسبوع الفائت، وأن يتوسّلوا إليه ليبارك لهم أسبوعهم الجديد المقبل. ماذا نقول؟ إنّهم يستكينون لتجديفهم وبذاءتهم وتصرّفاتهم غير اللاّئقة والعديمة الحشمة والأدب.
كذلك الحال بالنسبة إلى زمرة من النساء اللاّئي يرغبن، بدورهنّ، أن يعشن حياتهنّ الخاصّة من دون الله، بعيدًا عن الكنيسة وأسرارها، غارقات في متاهات اللذّات، معتبرات الزنى أمرًا مشرَّعًا ومبدأ أساس لحياتهنّ.
وهكذا نجد أنّه لا الشباب ولا الأولاد ولا الرجال ولا النساء ينتمون إلى الجماعة المسيحيّة الحقّة التي تهدف إلى العيش بخوف الله. إنّهم يتحاشون التحدّث عن الله، لأنّ الحديث عنه “موضة قديمة، حديث مملّ، لا مكان له في اجتماعاتهم الصاخبة”. ورغم هذا كلّه، فالربّ لا يفتأ يقول لهم: “يا أولادي، أنا حاضر، أنا أنتظر دعوتكم، وأنا مستعدّ لأهرع إليكم أن ناديتموني”.
والآن، ما هو جواب الربّ، برأيك، إزاء هذا جميعه؟ وأيّ أُذُنٍ يميل ليسمع ابتهالنا أو طلبنا؟ وكيف سينصت إلى صوت تضرّعنا نحن عادمي التّقى؟
ما هو، برأيك، موقف الربّ من فتاة شابّة جميلة تظهر أمامك في الشارع، أو حتّى في الكنيسة، وهي نصف عارية؟ وماذا سيقول الربّ عن شباب مستهتر جانح نحو السيّئات، وقد نسي أن يقصّ شعر لحيته، فتركها بلا ترتيب ولا نظافة؟ وكيف ينظر الربّ إلى المجدّفين الملحدين، الذين يسمّمون عقول الكبار والصغار على حدّ سواء؟ أتراه لا يئنّ على الخاضعين للذّات الجسديّة الذين يشرّعون الحرام ويحلّلون البغاء؟ ألا يتأسّف لحال المسنّين المتراخين اللاّهين عن قضاء آخر أيّامهم بتوبة وصلاة؟ ألا يدمّع أمام بيوت الزنى والعهارة؟ وماذا سيقول على الأزواج الذين يرفضون إنجاب الأطفال لأنّهم “لا وقت لديهم لتربيتهم”؟ وماذا سيقول، أيضًا، عن الإكليريكّين الذي استبدلوا لباسهم الوقور بآخر علمانيّ حتّى بتّ لا تعرف الكاهن من الشخص العاديّ؟
أين هي البتوليّة؟ أين هو التعقّل؟ أين هو الإمساك؟ أين هو الصوم؟ أين هي الصلاة؟ أين هو الزواج الطاهر كسرّ مقدّس؟ أين هي المحافظة على العائلة كجسد مصغَّر لجسد المسيح، الكنيسة؟ أين هو الاعتراف، وأين هي التوبة؟ أين هو الالتزام الكنسيّ والمناولة المقدّسة؟ أين هو احترام التقليد الكنسيّ من قبل الإكليريكيّين والشعب سواء بسواء؟
أتطلب، بعد هذا كلّه، أن يرحمنا الربّ؟ أتطلب أن ينعم علينا بأمطار أيّام القحط والجفاف؟ وهل تطلب أن يحمل عنّا أمراضنا ويرثي لضعفاتنا، أو أن يحلّ السلام على أرضنا، أرض الشقاء هذه؟
أظنّ، يا ولدي، أنّ الله محقّ إن لم يسمع لنا أصواتنا وطلباتنا، لأنّنا نحن أرغمناه على ذلك. هو رحيم بطبعه، ولكنّه ديّان عادل أيضًا، ولذلك يجيبنا على لسان سليمان الحكيم قائلاً:
“إلى متى أيّها الأغرار تحبّون الغرارة، والساخرون يبتغون السخرية، والجهّال يبغضون العلم. ارتدّوا لتوبيخي، فإنّي أفيض عليكم من روحي وأعلّمكم كلامي. لكن إذ قد دعوت فأبيتم ومددت يدي فلم يكن من يلتفت، واطّرحتم كلّ مشورة منّي، وتوبيخي لم تقبلوه، فأنا، أيضًا، أضحك عند عطبكم، وأستهزئ عند حلول ذعركم. إذا حلّ كعاصفة ذعركُم، ونزل عطبكم كالزوبعة، وحلّ بكم الضيق والشدّة، حينئذ يدعونني فلا أجيب. يبتكرون إليّ، فلا يجدونني بما أنّهم مقتوا العلم، ولم يؤثروا مخافة الربّ، ولم يقبلوا مشورتي، واستهانوا بكلّ توبيخ منّي. فيأكلون من ثمرة طريقهم، ومن مشوراتهم يشبعون. إنّ ارتداد الأغرار يقتلهم، وترف الجهال يهلكهم، والسامع لي يسكن في دعة مطمئنًّا من ذعر السوء” (أمثال 1: 22-32).
وأمّا عن السؤال الآخر، فاعلم، يا ولدي، أنّه في هذه الأيّام تُعتبَر معجزة كبرى إن أصبح المتكبّر متواضعًا، والظالم عادلاً. وإن استحال الكاذب صادقًا، وتوقّف محبّ السكر عن شرب الخمر. وإن رمى لاعب القمار بورق اللعب بعيدًا، وتحوّل المجدّف إلى مؤمن صادق. وإن صار عابد المال كوثن إلى محسن كريم، وتوقّف مختلق الوشايات عن اختلاق الشرور والأكاذيب. إن علّم البذيء الكلام لسانه كلام الأدب والتهذيب، وإن تسربل عديم الحشمة الاحتشام والوقار.
وتبقى المعجزة كبرى، في عصرنا هذا، أن يحافظ شبابنا على براءتهم وطهارتهم، وأن ينقلب الشابّ المنحلّ الأخلاق ابنًا للربّ بالحقيقة وكما ينبغي، وأن يتحوّل الخاطئ إلى صاحب فضيلة.
وتكون معجزة كبرى أيضًا، يا ولدي، إن أحببت من يسيء إليك، وإن رحمت من يذنب إليك، وإن سامحت من يقتل لك أخاك أو أباك أو ولدك. المعجزة الكبرى هي أن يتوب الزاني عن نجاسته، ويعود مرتكب القبائح والشهوات الجسديّة إلى حضن الله، ويحتمي تحت ظلّ جناحيه.
من الممكن أن تكون أنت، بالذات، المعجزة الكبرى عندما تغيّر مسيرة حياتك من مسيرة سيّئة إلى طريق صالحة. لا بل من إنسان مسيحيّ لاهٍ غير مبال متراخٍ إلى إنسان آخر حيّ حارّ العبادة عبر ممارسة الاعتراف والمناولة بتواتر، وقراءة الكتاب المقدّس باستمرار، والتزام كنسيّ جادّ، وصلاة حارّة في منزلك صباحًا ومساء.
ولكن، يا ولدي، يبقى السؤال الأهمّ: هل ستقوم بهذا كلّه وتتعهّد به؟ ما قولك في هذا؟ أرجو أن يكون جوابك إيجابيًّا، فتجد الله، ويجدك هو، لتعيش معه إلى الأبد ابنًا صالحًا رضيًّا.
* عن اليونانيّة من نشرة محبّي الشهادة الأرثوذكسيّة لله.