عودة خاطئ كبير
فيودور دوستويفسكي *
إعداد راهبات دير القديس يعقوب الفارسي المقطع، دده – الكورة
جاء ميخائيلُ أحدَ أكبر أمثلة التحوّل الداخليّ من الشرّ إلى الخير الذين ذكرهم الستارتز زوسيماس في رواية الإخوة كارامازوف للكاتب الروسيّ الشهير دوستويفسكي. كان ميخائيل هذا في الخمسين من عمره تقريبًا عندما قرّر أن يغيّر حياته متأثّرًاً بتحوّل زينوبيوس (الستارتز زوسيماس في ما بعد) نفسه، الذي ترك على حين غرّة حياته الفاسدة ليصبح راهبًا.
بارز زينوبيوس، يومًا، خصمًا تصدّى له، فلم يُبرز هو سلاحه، بل رمى به بعيدًا، وهرع يطلب السماح من خصمه وسط حلقة من الشبّان كانت تلتفّ حولهما. ثمّ استدار زينوبيوس إليهم، وشملهم بنظرة رقيقة، وبدأ يحدّثهم عن سحر الطبيعة الفتّان الذي اكتشفه لحظة طلب العفو، هذه الطبيعة التي طالما كان تتعارض سيرتُه القبيحة وجمالَها، وشارحًا لهم بأنّ الحياة نفسها هي فردوس فيه يستطيع الجميع أن يتعانقوا وأن يبكوا من الفرح.
إنّ مثال الستارتز زوسيماس كان يؤثّر أيّما تأثير في محادثيه، فصار الجميع يدعونه لزيارتهم. وفي إحدى الأمسيات زاره الشابّ ميخائيل، وطلب منه أن يصف له شعوره بدقّة في اللحظة التي طلب فيها السماح من خصمه. فقرّر حينئذ “الستارتز” أن يقصّ عليه حادثته مع خادمه“أفاناشي” وكيف أدمى وجهه بضربة قويّة من قبضته من دون سبب موجب في الليلة السابقة لصراعه مع الخصم. وكيف ذهب، بعد ذلك، في الصباح الباكر إلى غرفة خادمه، لكي يركع عند قدميه متوسّلاً إليه لكي يسامحه. ثمّ يتابع الستارتز حديثه فيقول: “أظنّك لاحظت بأنّ مسامحتي للخصم كانت في غاية السهولة؟ أتعلم لماذا؟ لأنّها بدأت في منزلي أو بالأحرى في داخلي، ومنذ اللحظة التي بدأت أتذوّق فيها الانتصار على نفسي. إنّها لم تكن فقط سهلة، بل جلبت لي فرحًا وغبطة. لقد كانت هذه اللحظة بالذات هي الشعور بالوجود في الفردوس“.
لم يكن هذا الشعور غريبًا على الزائر ميخائيل، لأنّه قال: “منذ البعيد وأنا أنظر إلى الحياة وكأنّها فردوس…” بيد أنّ الستارتز قاطعه قائلاً: “وأنا كذلك متأكّد بأنّ الحياة هي الفردوس، وأنت، أيضًا، ستتيقّن بأنّ الفردوس موجود، ولكنّه مخبّأ في داخل كلّ واحد منّا. إنّه مخبّأ، أيضًا، في داخلي، وإنّ أردتُ فسوف ينكشف لي يومًا، وسوف يبقى معي، عندئذ، طيلة الحياة“.
في كلّ مرّة يتحدّث فيها هذا الشابّ مع الستارتز، كان يحسّ بتأثّر عميق وبنظراته الغامضة التي كانت تتغلغل في كلّ جوانحه، ويصيخ بانتباه لأقواله:
– كلّ إنسان له خطاياه الشخصيّة. وإنّها لممدوحة الوسيلة التي بها يستطيع تلقّف تلك الفكرة، وإدراكها بكلّ ملئها إذ، حينئذ، سيصبح ملكوت السموات حقيقة في داخله، ولن يعود حلمًا قطّ“، ثمّ أردف بمرارة: ولكن متى يتحقّق هذا؟ وهل هو ممكن التحقيق أم سيبقى حلمًا يراودنا فقط؟
– لا بدّ أن يتحقّق هذا الذي تسمّيه حلمًا، ولكن ينبغي، أوّلاً، أن يغيّر الناس مسلكهم عمليًّا. لن يكون هناك أخوّة صادقة ما لم يمسي الإنسان أخًا لأخيه الإنسان حقيقة. سيتحقّق ما نسمّيه حلمًا عندما ينتهي عصر الانعزال.
– أيّ انعزال تقصد؟
– أعني الانعزاليّة التي تسيطر في كلّ مكان في عصرنا الحاضر، فكلّ واحد منغلق على نفسه، منقطع عن الآخرين. كلّ واحد يحاول أن ينفصل عمّن حوله بداعي فرادته الشخصيّة محاولاً أن يعيش ملء الحياة بمفرده، لوحده. الكلّ يعمل، ولكن كلّ واحد على حدته، وبهذه الطريقة يقضون على الروح الجماعيّة، على الوحدة الجماعيّة، ولا يدرون أنّ هذه الطريق نهايتها الانتحار والدمار. وهكذا كلّ واحد يصدّ الآخر عنه، أو يصدّ نفسه عن التعامل مع الآخرين ويتمركز حول نفسه. في حين أنّ التضامن مع الآخرين هو المطلوب. هذا التضامن الذي لا شكّ سوف يتحقّق عندما نتخلّص من انعزالنا، ولكن لم يحن الوقت بعد. أكرّر القول إنّه عندما نتحرّر من انعزاليّتنا، عندها، فقط، تظهر علامة ابن البشر في السماء. وحتّى ذلك الوقت يجب أن يبذل الإنسان نفسه، قدر استطاعته، ليحقّق الوحدة الأخويّة، وبالتالي وحدة العالم.
هذا الكلام وغيره كان يردّده ميخائيل كلّما كان يلتقي بالستارتز، ولكنّه كان يبدو، دومًا، متردّدًا في ما يريد قوله. كما كان يبدو متثاقلاً مهمومًا وكأنّ عبئًا ما يرهق كاهله، ويضغط نفسه، حتّى جاءت تلك الأمسية التي قرّر فيها أن يعترف بجريمة نكراء ارتكبها. لقد غشيه الحسدُ، فقتل أرملة غنيّة جميلة إذ دخل خفية إلى غرفتها فيما كانت نائمة. قبضت السلطات على أحد الخدم بعد بدت كلّ الدلائل تشير إليه كمرتكب حقيقيّ لهذه الجريمة البشعة، إذ سمعوه يهدّدها بالموت، وزجّوه في السجن حيث مات مريضًا بعد أسبوع من الجريمة.
ومع أنّه مرّ أربعة عشر عامًا كاملة دون أن يقع هو، كمجرم حقيقيّ، في أيدي العدالة، إلاّ أنّ ضميره كان يجلده من دون رحمة، متحمّلاً من جرّاء هذا ما لا يُحتمل، حتّى إنّه، ولكي يتخلّص من ملاحقة ضميره له، فكّر في أن يقتل نفسه.
عندما سمع الستارتز هذا الاعتراف، أمر ميخائيل أن يذهب ويقرّ بجريمته علنًا أمام كلّ الملأ. وهكذا كان، إذ اعترف بجريرته وسط تنهّداته ودموعه أمام عدد غفير من زوّار الستارتز. وبعد أيّام عاد التقى بالستارتز فقال له: “لقد أينع الفردوس في نفسي مذ لحظة اعترافي“.
لم يمض أسبوع على هذا حتّى وقع مريضًا، ولم يستطع أحد أن يفسّر مرضه، إلاّ أنّ البعض عزاه إلى خلل في عضلة القلب أدّى إلى موته.ولكن، وإن خسر هذه الحياة، فإنّه ربح الثانية، الحياة الأبديّة. وهكذا حاز على الفردوس الدائم الذي أزهر داخله عوض الجحيم الذي كان يسيطر عليه.
* عن مقالة باليونانيّة.