من كتاب الحياة بعد الموت
لسيادة رئيس أساقفة اليونان خريستوذولس
نقلته إلى العربية الأخت ماريّا قبارة
مازال الموت يستمر أن يكون سرًا، بكل مايُرافقه ويحيط به. تُعرض هذه الحقيقة بطروبارية كنيستنا التي تُرتل في خدمة النياحة:
” يا له من عجب، ماهذا السر، الصائر بنا؟ كيف أُسلمنا إلى الفساد، وكيف ازدوج الموت بنا، فهذا كما كتب بأمر اللّه”[i]. يرى كاتب تسابيح كنيستنا، الملهم من اللّه والمستنير، ظاهرةَ الموت، وأمامه أحدٌ ما قد مات ويتساءل: “كيف حدث هذا السرّ العظيم الماثل أمامي؟ كيف من الممكن أن نُسَّلم نحن البشر إلى الفساد؟ كيف يمكن أن تتحقق المصالحة بواسطة الموت؟ على كلّ، إنّما يحدث ذلك دائمًا بأمر اللّه وإرادته.
يؤكد كاتب التسابيح الموقر، أنّه يحدث فصل إجباري بين العنصرين اللَذين يتكون منهما الإنسان، الفصل بين الجسد والنفس. النفس التي اتّحدت بجسدنا عندما حُبل بنا، الآن تبارح الجسد. وهذا الرابط المتين الذي قد وُجد مدى حياتنا بين الجسد والنفس، الآن ينحل، وهذا ما تنتهي به الطروبارية، ينحل بإرادة اللّه وأمره.
هناك أيضًا أسرار تُرافق الموت، يستحيل على ناس كثيرون أن يصدقوها، بينما غيرهم يستمرون في إنكارها، أيّ لا يستطيعون أن يجدوا لها أجوبة علميّة، ومن غير الممكن للإنسان الذي يؤمن فقط بمنطقه أن يقترب من هذا المجال، فينتهي به الحال بلا شكٍ إلى الإنكار والتجديف.
مع ذلك، كُثرٌ أولئك الذين يؤمنون بأن “شيئاً” ما يحدث بعد الموت. وبأن هناك “استمراريّة ما”. بالطبع، من هو بعيدٌ عن كنيستنا ولا يقرأ الكتاب المقدس وكتب الآباء القديسين، يكون عاجزًا أن يتكلم عن كلّ ماهو بعد الموت.
كثيرون ممَّن تعثرهم ظاهرة الموت، يتساءلون: “كيف يمكن أن تؤول صورة اللّه، التي هي الإنسان والتي كرَّمها اللّه وجبلها لا بكلمته الخالقة بل بكلتا يديه أيضًا، مع الموت إلى الفساد. يتمتع الإنسان بنفسٍ لا تموت، كما يصفه الكتاب المقدس بطريقة بشريّة، وكصورة لله يملك العنصرين والسمتين الإلهيتين الأساسين: العقل والحريّة. والإنسان بالموت يؤول إلى حالة الفساد. أهذا لأنّ الموت، من وجهة نظر أولى، يبدو كنهاية رقاد وانحلال للصورة الإلهية؟. بهذا التفكير ألَّف أب كنيستنا العظيم، القدّيس يوحنا الدمشقي، طروبارية جميلة يتكلم فيها عن إنسان ما يتأمل أخاه الذي مات ويقول: “لهي كآبة كبيرة ونواح ونحيب، عندما أريد أن أفطن ما هو الموت، وعندما أشاهد صورة اللّه؛ الإنسان، الذي يعيش بكليته ممتلئاً مجداً وشرفاً، الآن جثة هامدة، تُرى الآن داخل القبر محرومة من حضور النفس، خالية من الجمال الباهر، عديمة أيَّ بهاء”[ii]
إذاً، ماهو الموت؟ أهو المنتهى أم نقطة الانطلاق؟ أهو نهاية أم بداية؟
الإنسان بطبيعته ينفر من الموت، لأن هناك، في داخله شعلة الخلود والأبديّة. بالطبع، كثيرٌ من الناس ينفرون من الموت بسبب مفاهيم سيئة ويعتبرونه نتناً كلَّ نقاش له علاقة به. بينما الموت هو الحدث الأكيد الموجود في العالم. مع ذلك، هناك أناس لا يريدون أن يسمعوا من أحد كلامًا عليه.
الموت نتيجة السقوط والخطيئة
لم يوجد الموت من بدء حياة الإنسان، فالإنسان الأول كان قابلاً للفساد ولعدم الفساد، أيّ بإمكانه أن يموت، وبإمكانه ألاّ يموت. إن يحفظ وصايا اللّه، لن يموت، وإن يُخالفها سيقبل الموت. وبناءً عليه لو لم تسقط الجبّلة الأولى لما حصل الموت للجدّين الاولين، فالموت إذًا ثمرة الخطيئة ووُجد في العالم.
المقاطع الكتابية التالية ذات أهمية؛ الأولى من حكمة سليمان: “فإنّه خلق كل شيء لكي يكون وإن خلائق العالم مفيدة وليس فيها اسمٌ مهلك ولا ملك لمثوى الأموات على الأرض لأنَّ البّرَ خالد”[iii]. كلام العهد القديم واضح، أيّ أنَّ اللّه لم يصنع الموت، وهذا جواب لأولئك الذين يتساءلون: كيف يكون الموت من عمل اللّه كعقاب للبشر بسبب الخطيئة التي سقطوا فيها؟ هذا تعليم لاهوتي سكولاستيكي لكنيسة الروم الكاثوليك الغربية، المتعارضة مع الكنيسة الأرثوذكسية التي تفسّر واقع الموت بشكل مختلف. فلنرَ مقطعًا من رسالة الرسول بولس إلى رومية: “من أجل ذلك كأنّما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم بالخطية الموت وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع”[iv]، وكلام الرسول دقيق ولا يحتاج إلى تأويل، وأنّ الموت دخل إلى العالم بسبب خطيئة إنسان واحد، ومن خلاله اجتاز إلى البشر، فالموت إذًا حدثٌ لاحق، هو ظاهرة دخيلة على حياة الإنسان، ولم يكن موجودًا في بدء الخليقة.
عندما نقول “بسبب الخطيئة دخل الموت” يجب أن ندرك نوعين للموت. يُدعى الأول الموت الروحي الذي يعني انفصال الإنسان عن اللّه، والثاني الموت الجسدي ويعني انفصال النفس عن الجسد. الموت الروحي دخل للتوّ بسقوط الجبّلة الأولى، ولكن اللّه لم يرد أن يصير الموت الجسدي في الوقت نفسه مع الموت الروحي، لهذا عاش آدم وحواء مئات السنين بعد موتهم الروحي الذي قد سقطا به. السقوط والخطيئة جلبا الموت كنتيجة طبيعية لهما وليس فقط كعقاب.
يستطيع الطبيب أن يقول للمريض عندما يفحصه: “يجب أن تتبع حمية، لأنّ السكر عندك عالٍ، فإلّم تفعله فأنت عرضة للخطر، وستموت من السكر”، إذا فكر المريض وخرج من عند الطبيب عاملاً بمعتقداته الشخصية، سيقول لنفسه “كيف أعمل حمية، هل هذا سهل؟”، فيقرر لوحده أن يأكل، ويعود ليأكل ما كان يأكله، وبعد فترة يموت من السكر، فهل الطبيب هو المسؤول في هذه الحال عن موت المريض؟
وقال اللّه للجبّلة الأولى: “أطيعوني، فإنكم إذا لم تفعلوا تموتون”، لم تُطع الجبّلة الأولى اللّه وماتا، ولا يُردُّ سبب موتهما إلى اللّه ، بل موتهما هو ثمرة الخطيئة بعد السقوط وعاقبتهما.
يقول كتابنا المقدس أن اللّه بعد السقوط أعطى جبّلته الأولى “مطارفَ جلديّة”، فما هي هذه المطارف الجلديّة؟
يقول الآباء القدّيسون إنّها الفساد والفناء اللَذين أَوجدا الأمراض التي بسببها نموت، وأَوجدا الأحزان التي تلد بها النساء. كلّ هذا عواقب السقوط، فآدم وحواء قبل أن يخطأا لم يكونا يعلمان أيّ شيء عنها. كانا يعيشان في حالة أخرى، نستطيع فقط أن نتخيلها مادام ليس لنا خبرة مثلها في حياتنا. نحن أناس مابعد السقوط ولسنا ما قبله
إن قبلنا بلاهوت كنيسة الروم الكاثوليك الاسخاتولوجي، أيّ أنّ الموت هو عقاب اللّه سننقاد إلى مآزق أخرى، كمثل أن نقول، إنّ الشيطان الذي حرَّض على سقوط الجبّلة كان أداة اللّه.
يقول القدّيس يوحنا الدمشقيّ: “بسبب الإنسان دخل الموت -بسبب سقوط آدم- وكذلك بقية العقوبات”، الآباء القدّيسون واضحون عندما يقولون أنّه: “بسبب الإنسان دخل الموت إلى العالم، لا بسبب اللّه “
عندما نقول إنّ الخطيئة الأصلية ورثها البشر، لا نعني الإحساس بالذنب الذي ينقله الإنسان إلى الآخرين بسبب الخطيئة الأولى. بل نعني نتائج خطيئة الجدّين الأصلية الموروثة. لقد مرضت طبيعتنا بعد تلك الخطيئة، وهذا المرض نرثه.
هذه الحقائق التي قرأناها في مقاطع كثيرة في كنيستنا، نجدها مصوغة بشكل رائع في مقاطع ليتورجيا القدّيس باسيليوس الكبير الإلهيّة. يتوجّه الكاهن إلى اللّه قائلاً: “عندما جبلت الإنسان ياإلهي بأخذك ترابًا من الأرض، ووضعته في فردوس النعيم، وعدته بالحياة الخالدة والتمتع بالخيرات الأبديّة إن حفظ وصاياك. لكن عندما خالف وصاياك أنت الإله الحقيقي وانقاد بسبب غواية الحية، أُميت بزلاته، نفيته وأرسلته مرة ثانية إلى الأرض التي منها أُخذ، أي مات”[v]
كان لآدم إمكانية الخلود وإمكانية الموت، لو لم يخطأ لما تعرض للموت، هذا الوضع الصحيح. وقد ظهرت هرطقات كثيرة في عصر آبائنا القدّيسين، منها تقول: “إن آدم المجبول أولاً خلقه اللّه فانيًا، أي جُبلَ ليموت سواء أَخطأ أم لم يخطأ، أي سيبارح جسده لا بسبب الخطيئة بل بسبب تركيب طبيعته وبنائها”، هذا يعتبر هرطقة، ودعا الآباء أن يكون مفروزًا كلّ من يؤمن بهذا. وقد ظهر أيضًا هراطقة مختلفين نادوا بالمعنى المعاكس، أي أن اللّه خلق آدم الفاني؛ وبالتالي اللّه هو خالق الموت.
قانون المجمع الكورنثسي المحلي “رقم120” والذي تبنّاه المجمع المسكوني بحث في هذا الموضوع وشغل آباء كثيرون وهذه آراء البعض منهم:
ثيوفيلوس الأنطاكي يقول: “إنّ الإنسان موجود في الوسط، ليس فانيًا بالكليّة وليس خالدًا بالكليّة، ولكنه قابل للحالتين”.
يقول القدّيس غريغوريوس النيصصي بوضوح: “إنّ الموت بالنسبة للبشر كان التناول من تلك الثمرة المحرمة”.
القدّيس نيقوديموس الآثوسي يقول: “بما أن آدم تذوّق شجرة المعرفة، دخل في الفساد، وبالتالي صار فاسدًا وفانيًا بعد أن كان عديم الفساد والفناء، والأسوأ من ذلك أنّه لم يفسد آدم وحده، بل نقل هذا الفساد الذي أصابه أولاً إلى كلّ جنس البشر” .
فالإنسان منذ البدء لم يعرف الموت، بل جاء أثناء مسيرته. جاء كغريب، كعنصر دخيل، كنتيجة للخطيئة التي جلبت الموت الروحي للحال، وفيما بعد هذه جلبت الموت الجسدي.
وبسبب دخول هذا الموت، لا يريد الإنسان أن يموت بل يريد بجميع الطرق أن يطيل حياته على هذا الكوكب، ناظرًا إلى الموت نظرته إلى عدوٍ كبير “آخر عدو”[vi]، كما يصفه الرسول بولس.
تشّبه رؤيا يوحنا الموت بجواد أصفر، وفارس يمسك سيفًا وينثر الجوع والأمراض الوبائية، ويقضي على الحياة، ويتبع هذا الجواد الجحيمَ فاتحًا فاه ويبتلع الأموات بسرعة.
أما الرسامون فيصّورون الموت مثل الهيكل العظمي الذي يمتطي جوادًا ويمسك بيده منجلاً يحصد به حياة الناس.
يتخيله اليونانيون القدماء مَضيقاً ويدعونه “χάροντα”، فيه مركب ينقل البشر إلى بحيرة “Αχερουσίας”، إلى الجحيم؛ أيّ من الحياة إلى الموت.
لماذا يموت الإنسان؟
إن واقع موت الإنسان، يعود إلى سببين، أولاً إلى الخطيئة، وثانيًا إلى عدم التوبة. يقول القدّيس سمعان اللاهوتي الحديث: ” لو قال آدم: “حقًا ياسيد، قد خالفت وصيتك، خطئت، سمعت نصيحة المرأة وخطئت كثيرًا، فعلتُ بحسب ما قالته لي وخالفت وصيتك، سامحني ياسيد واغفر لي”، لكان خلص. ولكان حفظ خلود النفس والجسد. أمّا الآن فقد جلبت الخطيئة الموت. لهذا فإنّ الكتاب المقدّس إذ يصف حالة جنس الجبّلة الأولى التي تكَّونت بعد الخطيئة. وبالتالي حالة كلّ الجنس البشري. يتكلم عن “الألبسة الجلديّة”، لمن ياترى هذه الألبسة الجلدية التي أحاط بها اللّه البشرَ بعد السقوط؟
يفسر آباء كنيستنا هذا الاصطلاح بخاصيّة الفناء. الفساد والفناء اللَذان هما نتيجة خطيئة الجدّين الأولين وثمنها، هما الألبسة الجلديّة التي سُربل بها البشر بعد الخطيئة.
كان اللّه قد أنذر جبّلته الأولى سابقًا في الفردوس، بأنّهم إن أكلوا من ثمرة معرفة الخير والشرّ سيموتون. وبكلامنا على موت الجبّلة الأولى نتطرق إلى نوعين من الموت: الأول هو انفصال الإنسان عن اللّه وهو الموت الروحي، والآخر هو فساد الجسد وانحلاله، أي الموت الجسدي. دخل الموت الروحي لحظة العصيان، أمّا الموت الجسدي فدخل بعد ذلك بحين. خلق اللّه هذا البعد بين الموت الروحي والجسدي مريدًا أن يعطي الإنسان وقتًا للتوبة من جديد. إذًا فقد حُدَّد للموت الجسدي أن يحدث متأخرًا وليس في الوقت نفسه مع الموت الروحي. وللهدف نفسه كلّ العوائق والأحزان والتجارب تخدم الإنسان المجَّرب بها في حياته على الأرض، من أجل توبته.
يعطي الآباء القدّيسون معنى كبيرًا للموت الأول، هذا الذي يعتبرونه بشكل رئيسٍ موتًا. يعلِّم القدّيس مكسيموس المعترف أنّ الموت هو الانفصال عن اللّه. فالموت الروحي إذًا هو الموت بالمعنى الوضعيّ للكلمة. إلاّ أنّ البشر لا يعطونها بالأحرى، الأهمية الواجبة.
عندما قصَّ ربنا مثل الابن الضال قال عن الابن الأصغر الذي قد رحل عن أبيه مايلي “… لكن قد وجب أن نتنعم ونفرح لأن ابني هذا كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوُجد”[vii]. هنا واضح أنّ الرّب يقصد الموت الروحيّ.
من خلائق اللّه الأولى مات الشيطان روحيًا، عصى اللّه وتمرّد عليه. يتكلّم القدّيس غريغوريوس بالاماس على هذا الموت الأول ويقول إنّ الشيطان أول من خضع له.
على الموت الروحي يتكلّم الرّب مرات عديدة. فقد قال لتلميذه الذي طلب منه أن يدفن أبيه الذي مات “دع الموتى يدفنون موتاهم”[viii]، أيّ دع الموتى الروحيين يدفنون الموتى الجسديين. ولآخر يقول الرب: “الحق الحق أقول لكم الذي يسمع كلامي ويؤمن بمن أرسلني فله الحياة الأبدية”.
يمكن للإنسان أن يبطل الموت الروحي في كلّ لحظة، مادام عضوًا في كنيستنا المقدّسة، وهذا لأنّ المسيح هو أول من أبطل الموت الروحي من خلال الكنيسة وأسرارها.
إذاً عندنا الموت الروحي والقيامة الروحية، عندنا الموت الجسدي مع القيامة الجسدية. أيّ أننا نموت أولاً روحيًا وإذا أردنا أن نقوم روحيًا فباشتراكنا بأسرار الكنيسة. بينما سنقوم بعد الموت الجسدي جسديًا في المجيء الثاني.
تُعجِّل الخطيئة الموت الجسدي. رغم أنَّ الموت الجسدي ليس حالتنا الطبيعيّة منذ البدء، فالإنسان لهذا السبب لا يريد أن يموت، وهذا الموت قد أُبطل جوهره، وسيبطل في الحياة والملكوت الآتيين.
لذا يقول القدّيس بولس: “آخر عدو يبطل هو الموت”[ix]. لدينا اليوم الموت الجسدي، لكن قد لا نملك الموت الروحي. الموت الجسدي وقتيّ، لهذا يجب ألاّ نتكلم على موت وأموات، بل على نوم وراقدين، هذا هو إيماننا الأرثوذكسي. لذلك نحن لا نتكلّم على مقابر بل على مراقد. عندما قالوا للمسيح وقتًا ما إنّ ابنة ياييرس ماتت، قال الرّب: “الصبية لم تمت، إنما هي نائمة، فضحكوا منه”[x]، لأنَّ الكلّ كان يظن أنّها ميتة. لقد دعا المسيح الموت نومًا، لأنّه أبطل سلطانه “لكي يبيد بالموت ذاك الذي له القدرة على الموت أيّ ابليس”[xi]، قام من بين الأموات، فأبطل الموت.
ينبغي أن نعلم كيف أنّ المسيح دُعي في الكتاب المقدّس “بكر كلّ خليقة”[xii]، أيّ أنموذج الإنسان، وبالتالي كلّ مايسري على المسيح، يسري على جميعنا، مادُمنا أعضاء جسد المسيح، وهكذا نشترك في مجّده وقيامته. هناك تسبحة رائعة في يوم الجمعة العظيمة تقول: “الجحيم لا يملك ولا يسود أبدًا على جنس البشر”، أيّ إنّ الموت يسود بشكل مؤقت لكنه لا يشكّل حالة ثابتة أبديّة.
إذاً لدينا الجسد والنفس اللَذان بهما معًا نتابع جهاد الفضائل، وبكليهما أيضًا نخطَأ، لذلك يكون حكم اللّه بهذين العنصرين، إما أن يخلصوا وإما أن يدانوا أبديًا بقيامة الأجساد التي ستحدث مع بوق الملائكة عندما يبوّق قبل الحضور الثاني.
طبعاً، يتكلم الآباء القديسون على معقولنا (φρόνημα) الجسدي، ولكن الذي ليس له علاقة مع جسدنا. المعقول الجسدي له مفهوم روحي. يميّز الرسول بولس المعقول الجسدي بالغرور والعُجب والنميمة والخبث والكراهية. فالمعقول الجسدي شيء والجسد الذي نقتنيه شيء آخر. ينصح الرسول والآباء أن نبتعد عن المعقول الجسدي لأنه يتعارض وسلوكَ الروحِ.
طريقة موتنا
نعرف بالتأكيد إن هناك طرقًا كثيرة تنتهي بها حياة الجنس البشري. بَيْدَ أن كثيرين اعتادوا أن يفصلوا طرقهم إلى طرق خيّرة، وطرق شريرة. طرق عادلة، وطرق خاطئة رابطين طريقة الموت بطريقة حياة الإنسان. فإذا لم يكن الموت حسنًا، نقول إنَّ هذا يعود إلى سوء الإنسان في حياته، أو بما أنّه رحل بموت فجائي فهذا يعني أنّه لن يكون في حالة جيدة في الحياة الأخرى. لذلك فالدعوات التي يطلبها الناس لأنفسهم هي أن يحصلوا على موت حسن، فمن بعض التعابير التي يستعملها الشعب مثلاً: ” ألاّ أموت واقفًا أو أن أموت بصحتي”، يطلب الإنسان بهذه الدعوة ألاَّ يموت من المرض. آخرون يدعون ألاَّ يموتوا بطريقة فجائية كمثل حادث مرور أو في إحدى الحروب. نحتاج أن نتعمّق لكي نرى العلاقة بين طريقة موتنا وطريقة حياتنا، وأيضًا مع الحالة التي سنؤول إليها بعد الموت.
تصلي كنيستنا المقدّسة أولاً لأن تكون “أواخر حياتنا مسيحيّة” وطبعًا “بلا وجع ولا خزي، وبسلام”، هذا ما تعبّر عنه الصلاة أيّ الرغبة التي نصلّي بها ليهبنا الرّب نهايات مسيحيّة. أيّ نطلب من اللّه أن نموت “بسلام” في إيماننا.
هذا لايعني أنّ الموت الذي تصلّي كنيستنا من أجله هو الموت الوحيد. ولايعني أيضًا أنّ كلّ أنواع الموت الأخرى الموجودة تنذر بشيء يتعلق بحالة النفوس. وعلى الأكثر، مادامت طريقة موتنا ليست حسنة فهي نوع من عقاب اللّه لأحد الخاطئين. يجب أن نقول مسبقًا إنّه لا أهمية كبيرة لطريقة موتنا بالنسبة للكنيسة بقدر ما هناك أهمية لطريقة حياتنا. تعتني كنيستنا بأن تعيش مسيحيًا وتصلّي وتصيغ دعوتها أن نموت مسيحيًا.
مرات كثيرة – وهذا لا نستطيع أن ننكره – طريقة موتنا هي نتيجة لطريقة حياتنا. دون أن يكون هذا جزمًا. في العهد القديم آية: “الخطأة يميتهم شرهم”[xiii]، تعني أنّ موت الخاطئين شرّير. وتفسّر الكنيسة كلمة “Πονηρός ” بأنّ الخاطئ يرحل من هذا العالم غير تائب. إذا متنا غير تائبين حينئذٍ سيكون هذا الموت مفجعًا، وهذا الموت يحكم مسبقًا على حالة نفوسنا.
أين تذهب النفوس؟
إنّه لجدير بالاهتمام أن نرى أين تذهب النفوس في المرحلة التي تتوسط الموت والمجيء الثاني؟ لكي نجاوب على هذا السؤال نحتاج إلى أن نعرف من البدء أنّه كما قال أب كنيستنا القدّيس أثناسيوس الكبير: “إنه سرٌ غريبٌ ورهيب، مخفي عن البشر”.
استنادًا إلى الكتاب المقدّس والتقليد الآبائي فلنتلمس طريق النفوس ومسيرتها اللتين تَلِيَا موت الجسد. يتكلم الكتاب المقدس على الجحيم، فيجعلنا نفهم أن هناك مكانًا حيث تتكدس فيه نفوس الخطأة، فيه يسود الظلام والضباب. يتكلّم الكتاب المقدس على الفردوس أنّه مكان انتظار الأبرار بعد الحضور الثاني.
القدّيس أثناسيوس الكبير أغنى هذا الموضوع بقوله لنا: “نفوس الخطأة موجودة في الجحيم، أما نفوس الأبرار فهي قرب اللّه، بعد حضور الرّب الثاني ستوجد في الفردوس”. في الواقع يعلّمنا القدّيس يوحنا الذهبي الفم بأنّه “بالموت، تُقاد النفوس لمكان ما”، ماهو ياترى هذا المكان؟
كلمة مكان ” χώρος ” تجعلنا نفكر بأنّه حالة تشبه حالة نعيشها. لأنّ ” χώρος ” يوجد في هذا العالم، ذي المفهوم الحجمي؛ ومفهوم الزمن دنيوي. لكن اللّه خارج الزمان والمكان. وبالتالي بُعدا المكان والزمان لا يتلاءمان مع الحياة الروحية الكائنة بعد الموت. بل يتلاءمان مع هذه الحياة الأرضية. سنقع في الكتاب المقدس على تعابير تعطينا انطباعًا بأنّها تتكلّم على مكان ما، مثلاً:
في العهد القديم ” Δικαίων ψυχαί εν χείρι θεού”، أيّ نفوس الأبرار موجودة في يديّ اللّه. أترى لله أيدٍ؟ النفوس لا تشغل مكانًا، ليس لها هيئة. في مثل الغني ولعازر، ربنا نفسه يقول: “إن نفس الفقير لعازر هي في أحضان ابراهيم، وهذه خاصيّة بشريّة وتعبير بشري عاطفي، أيّ النفس موجودة في أحسن مكان.
الذهبي الفم الموقر في محاولته إعطاء جوابٍ عن السؤال “أين هي النفس؟”، يقول: “إنّها هناك حيث توجد الأبديّة فقط، والخلود فقط، خالق النفوس والأجساد هناك هو اللّه”. ما يمكننا أن نقوله عامة هو أن نفوس الأبرار موجودة قربَ اللّه. فهي تعيش هناك. وكما يقول الذهبي الفم أيضًا، يعيشون بخوف هناك ينتظرون، ويعيشون في حالة ترقب.
بعد الموت، كلّ نفس تنتظم بطريقتها، بحسب أعمالها وبحسب أفعالها الصالحة أو الشريرة، في حالة مؤقتة. يقول الفيلسوف ايوستينوس الشهيد: “تنتظر نفوس المؤمنين في أفضل مكان، وتنتظر نفوس الأشرار والخطأة في أسوأ مكان، مترقبة وقت المجيء الثاني”.
هنا مسألة مهمة، وهي أنَّ النفوس بحسب الطريقة التي عاشتها مع الجسد، تذهب إلى حالة حياة ووجود توافق طريقة عيشها في هذه الحياة. حالة الانتظار هذه تدعى الحالة الوسطى للنفوس.
ينصحنا القدّيس غريغوريوس النيصصي “أن لانخاف من الجحيم كمكان، بل كحياة عديمة الجسد”، والقصد أنّها حياة دون هيئة.
الحالة الوسطى للنفوس
فلنحلل بعض ميزات حالة النفوس الوسطى. فلننطلق من الدينونة الجزئية. ماذا نعرف عن الدينونة الجزئية؟ إذا تذكرنا مثل الغني ولعازر، مذكور فيه أنّه حالما مات كلٌ من الغنيّ ولعازر أُدينا ووضعا في مكانين مناسبين. رأى الغني نفسه وسط جهنم النار وأمامه الفقير لعازر في أحضان ابراهيم. حدثت هذه الدينونة مباشرة بعد الموت وليس في المجيء الثاني، واُستنتجت هذه الدينونة من الحوار بين نفس الغني وابراهيم. رأى الغنيّ إلى أيّ حالٍ آلَ، ودعا ابراهيم أن يُرسلْ إلى الأرض لعازر الفقير ليذهب ويجد إخوته الذين مازالوا يعيشون على وجهها، وينبههم أن يغيّروا طريقة حياتهم، لكي لا يطرأ عليهم شيءٌ مما حدث لأخيهم. نستنتج من هذا التفصيل أن دينونة الغني ولعازر هذه حدثت مباشرة بعد موتهم. أيّ أنه تحدث دينونة ما بعد الموت؛ ولكنّها وقتيّة. لأنّه بالمستقبل ستلحقها الدينونة الكبرى المصيريّة؛ التي ستحدث بالمجيء الثاني. عندئذٍ بقيامة الأجساد ستتحد الأجساد بالنفوس، الجسد والنفس سيظهران أمام الرب ليُدان الإنسان. في الدينونة الجزئية تُدان فقط النفس وليس الجسد الذي قد أُسلم للفساد، الدينونة الوقتيّة إذًا هي أول ميزة للحالة الوسطى.
حالة الانتظار
الحالة الوسطى من جهة أخرى هي حالة انتظار. تنتظر النفوس الدينونة النهائيّة، وبفضل رحمة الرّب الكبيرة وبعض الشروط الأخرى، أن تتحسن مكانتها كما يقول آباء كنيستنا . سيقول أحدٌ، نحن سمعنا أنّه في الجحيم لا توبة، إذًا كيف يمكن أن تنتظر نفوس البشر التي ماتت تحسُّن مكانتها؟ في البداية يجب أن نقول إننا كلّنا نؤمن برحمة اللّه العظمى. اللّه الجزيل التحنن والمحبّ البشر والكثير الرحمة الذي لا أحد ولا شيء يحدّه. نعرف من شهادة الرسول بطرس، في رسالته الجامعة ” أن ربنا في الثلاثة أيام التي مكثها في القبر، أي من صباح الجمعة العظيمة حتى صباح الأحد، نزل إلى الجحيم وهناك كرز للناس المضبوطين منذ الدهر ببشارة الخلاص والفداء. من قبلوا من هؤلاء كلمة الرّب فهم خلصوا، مع أنّهم في الجحيم. طبعًا، هذه الحالة تتعلق بالبشر الذين قد عاشوا قبل المسيح، وبالتالي بمن لم يحصلوا على فرصة أن يسمعوا تعليم الانجيل من فم الرّب أو الرسل القدّيسين. أكثر آباء كنيستنا يتكلّمون على عمل الرّب هذا بأنّه حدثَ مرةً واحدة ولن يتكرر مرة أخرى، لكن هناك آراء أخرى تستند إلى أنّه غير منطقي أن تتكرر هذه الكرازة لهؤلاء الذين في الجحيم، لكنّها ستتوجه قفط للذين لم يسمعوا في حياتهم هذه مطلقًا عن يسوع المسيح وعن بشارته. هؤلاء الناس من المعقول أن يُعطوا قبل أن يُدانوا بالمجيء الثاني إمكانية سماع كرازة المسيح كما نحن سمعناها. إن يؤمنوا يعتبر اللّه هذا التحوّل وإلاّ دينوا كمن لم يتوبوا إذ بقوا على حالهم.
نقدّم هنا رأي أحد أساتذة اللاهوت(السيد ذيوفونيوتي)، الذي علّم في بدء عصرنا: “ليس من إنسان عاقل يستطيع أن يشرح لماذا تمّت البشارة مرّة واحدة في الجحيم. وبحسب رسالة القدّيس بطرس “لأنّه لأجل هذا بُشر الموتى، أيضًا لكي يُدانوا حسب الناس بالجسد ولكن ليحيوا حسب اللّه بالروح”[xiv]، في هذا المقطع إمكانيّة الكرازة بالانجيل، لكلّ الذين لم يسمعوا على الإطلاق ببشارة الرّب على الأرض”. وبالتالي لانتكلّم على الخاطئين وغير التائبين دون استثناء، بل نتكلّم على أولئك الذين لم يسمعوا على الأرض شيئًا عن المسيح وعن بشارته. ندرك جميعنا أنّ مثل هؤلاء موجودون سواء أعاشوا في مكان بعيد لم يصل إليهم الرسل ليحدّثوهم عن المسيح، أم هم أناس متوحدّين منعزلين لم يسمعوا عن المسيح شيئًا على الإطلاق.
إنَّ كنيستنا لا تتوافق مع النظرية البابويّة عن المطهر بقولها: “يحقّ لنا أن نوجه من أجل الراقدين على الإيمان طلبات وذكرانيّات إلى اللّه”. وبالتالي فالصلوات والذكرانيّات التي نصنعها في الكنيسة، تفعل فقط في من آمنوا بالمسيح ولأسباب لا تتعلق بإرادتهم لم يقدروا أن يعترفوا بخطاياهم، بينما كانوا يريدون ذلك، وكلّ الذين لم تعطَ لهم الفرصة أن يُظهروا توبتهم بتقدمهم إلى سرّ التوبة والاعتراف.
يدّعي اللاهوتيّون المتكلّمون بالعقائد في كنيستنا، أنّ النفوس الخاطئة، أيّ نفوس الذين ماتوا في الخطيئة غير تائبين، تستفيد من طلبات كنيستنا وصلواتها. يكتب في هذا الخصوص الاستاذ (أندرياس ثيودورس) أنّه: “لاتستطيع الطلبات والذكرانيات التي تقام أن تخلّص النفس غير التائبة، التي في المرحلة الوسطى والموجودة في غرفة انتظار الجحيم تتعذب بحسب الدينونة التي فرضها اللّه عليها”. فإذا كنا نهتم بأخصّائنا الذين رحلوا عن هذه الحياة، نسأل هل آمنوا بأنّ المسيح هو اللّه وهو الفادي؟ ربما رحلوا متمسكين بعدم إيمانهم، غير تائبين، دون أيّ رجاء برحمة اللّه! لكن أيُّ إنسان يستطيع واثقًا أن يحكم على أحدٍ ما بأنّه كان غير مؤمن أو رجل غير تائب؟ اللّه وحده يعلم ما بداخل نفس كلّ شخصٍ، ذاك وحده يعرف المرء إن كان مؤمنًا أم ملحدًا. مرات كثيرة نخطئ الظن بأحد ما بسبب حركة منه أو تصرف ونقول أنه كذب علينا. كنيستنا لا تعرف داخل نفس كلّ إنسان، لكنها شفوقة تعتني بأولادها، تصلّي وتقيم الذكرانيّات لجميع الراقدين مُودعة بيديّ اللّه تحسّن كلّ إنسان عالمة أن كلّ الذين ماتوا هم في حالة انتظار وبالتالي ينتظرون دينونة اللّه الأخيرة، لكن من بعد هذا يجب أن نعرف واثقين باللّه وأن لا نحل مشاكلنا بعيدًا عنه. فحالة الانتظار هذه هي الميّزة الثانية للحالة الوسطى.
تذوق الحياة الآتية
الميزة الثالثة للحالة الوسطى هي تذوّق مسبق سواء للمكافأة أم للنار. أيّ إنَّ الدينونة الجزئية التي تصير بعد موتنا تعطي النفوس إمكانيّة أن تتذوّق فرح المكافأة التي ستعطى بعد المجيء الثاني أو ألم العقاب الذي تنتظره. يؤكّد لنا القدّيس أثناسيوس الكبير أنّ الأناس الأبرار بعد موتهم يتذوّقون “بعض المُتع”، أما الخطأة “من بعض العذاب”. أب كنيستنا نفسه يشرح لنا ماذا تعني عبارتا “بعض التمتّع”، و”بعض العذاب”.
يدعو الملك أحداً لعشائه ويقول له: “يافلان، مساءً أنتظرك أن تأتي إلى القصر حيث سأهيئ عشاء”، الإنسان الذي تلقّى هذه الدعوة من اللحظة التي دُعي فيها إلى حين ذهابه إلى القصر ليتعشى مع الملك يشعر بفرح وارتياح داخليين، ويترقب متى ستحين الساعة ليذهب إلى هناك ويشعر بهذا المجّد والشرف، أن يُجالس الملك على المائدة نفسها. هذه هي الحالة الأولى حيث يتذوّق الإنسان الفرح.
من جهة أخرى، إذا فعلت شيئًا سيئًا وأُوقفت لوقتٍ، وكنت مُزمعًا أن تمثلَ أمام القاضي الذي سيحاكمك، فهم سيسجنونك في معتقلٍ ويقولون لك: “يستوجب أن تنتظر اسبوعًا ليأتي القاضي لأنّه غائب”. في هذه الفترة التي تتوسط الساعة التي أُوقفتَ فيها إلى الساعة التي ستظهر فيها أمام القاضي لتسمع العقاب، تشعر بحزن، أيّ تتذوّق مسبقاً المصيبة الآتية. هذا التذوّق المسبَق يتنوّع حسب الحالة. يقول القدّيس باسيليوس الكبير: “استمتاع الأبرار ستكون بدرجات مختلفة، وسيكون بمستويات مختلفة، أيّ أنّ اللّه سيشرّفهم كثيرًا، وآخرين قليلاً، لأنّ نجمًا يختلف عن آخر بالتألق والمجّد كما يقول الكتاب المقدّس. يقول القدّيس غريغوريوس اللاهوتيّ: “نفوس الأبرار تتأمل وتتذوّق مسبقًا الغبطة”.
القدّيس الفيلسوف ايوستينوس الشهيد يتكلّم على هذه النقطة: “تمكث نفوس الأبرار في أفضل مكان، بينما تمكث نفوس الخطأة في أسوأ مكان في انتظار الدينونة العظمى التي ستلي”.
قيامة الأموات العامة
قيامة الأموات العامة هي عقيدة إيماننا، نقولها في دستور الإيمان “أترجى قيامة الموتى والحياة في الدهر الآتي”. في حياتنا هناك أربعة أطوار. الطور الأول: هو حياتنا على الأرض. الطور الثاني: هو ما بعد موتنا والمسمى الحياة الموسطى. الطور الثالث: هو الحياة بحسب أجسادنا الناهضة من الموت. الطور الرابع: هو حياة الدهر الآتي، عندها يبدأ سرّ “اليوم الثامن”.
لكن إذا كان أحدٌ يشك بقيامة الأجساد، فيتوجب أن نقول إنّ هذه القيامة لاشكّ حادثة لأنّ هذه العقيدة قالها فم ربنا الصادق. وبحسب الانجيلي يوحنا “الأموات سيسمعون صوت ابن اللّه والسامعون يحييون”[xv]، يقول إنّهم سيسمعون صوت المسيح وسيحييون كلّهم. السيد نفسه يُكمل “لاتتعجبوا من هذا. فإنّه تأتي ساعة يسمع جميع الذين في القبور صوته فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة”[xvi]، أقوال ربنا هذه تتكلّم على قيامة الأجساد التي ستحدث عندما يُسمع صوت يسوع المسيح.
إنّما يعبّر الرسول بولس أيضًا عن الحقيقة نفسها، فيقول لنا “سيبَوق، فيُقام الأموات عديمي فسادٍ”. يتكلّم الرسول على نغمة الملاك، الذي يشير إلى قيامة الأجساد المائتة، حيث أنّ الأموات سينهضون بلا فساد. ولكن الذين يشكّون بإحياء الأجساد المائتة وخاصة المضبوطين منذ الدهر. هناك رؤيا للنبي حزقيال، إذ يوصّيه اللّه ليعظ العظام العارية، فلوقت الوعظ تستخدم العظام جسدًا ونفسًا، وتحيا وتقوم.
صحيح أيضًا أنّه قبل الحضور الثاني الذي يسبق قيامة الأجساد، تقدَّم الأجساد والنفوس معًا أمام القاضي العادل لكي يأخذا الجواب عن الحياة التي عاشاها معًا، وهذا كما قلنا، لأنّ الإنسان ليس نفسًا فقط، ولا جسدًا فقط. بل هو نفس وجسد. يخبرنا الرسول بولس بوضوح أنّنا سنوجد أمام الحاكم بجسدنا، ليعطى لكلّ واحد منا الحكم عما ما فعل. عاشا معًا جسدًا ونفسًا، ومعًا سيتمتّعان بالفردوس أو سيُقادان إلى الجحيم.
يسأل البعض: كيف أنّه من الممكن أن تصبح هذه القيامة، عندما يكون الجسد قد انحلَّ منذ زمن طويل؟. هذا الجسد سيُقام، لأن جسد المسيح قد قام. ربنا ليس غريبًا مثلنا. الكتاب المقدس يصفه “كبكر كلّ خليقة”[xvii]. هذا يعني أنّ كلّ ما يحدث في المسيح، يجب أن يحدث لنا أيضًا. لأنّ المسيح هو النموذج وإجمال كلّ حياتنا. ربنا هو رأس جسدنا ونحن الأعضاء، فما دام الرأس قد قام، فسيقوم كلّ الجسد أيضًا. سنقوم، ليس بأنفسنا كما حدث بقيامة الرّب، بل سنقوم عندما يُسمع صوت الرّب.
يقول القدّيس يوحنا الذهبيّ الفم: “إذا لم يقم الجسد، حينئذٍ لن يقوم الإنسان، لأنّ الإنسان ليس نفسًا فقط، هو نفس وجسد. إن تَقُم النفس يَقُم نصف الإنسان لا كلّه.
قيامة الأجساد أعجوبة، ستكون أعجوبة بقوة اللّه. وكما أنّ البذرة تبذر في الأرض بالفساد، هكذا أيضًا جسدنا يُبذر بالفساد، دُفن وانحلَّ في الأرض ويجب أن يقوم ويرتفع بعدم الفساد.
ستحدث هذه القيامة، كما يقول اقليمس الرومي، سواء تشتتنا في البحر، أم في اليابسة، أم قد قطعتنا الوحوش والطيور الجارحة، سينهضنا اللّه بقوته، لأنَّ كلّ العالم يوجد في يده.
1-واجباتنا تجاه الناس الراحلين
ساعة الموت هي خبرة اقتناها أناس أقلاء الذين عاشوها في ذواتهم ولم يعودوا حاضرين بيننا. لكن بمقدار اقتراب ساعة الموت، تنتج واجبات محددّة، علينا جميعًا أن نقوم بها تجاه إخوتنا المسيحيين الذين ماتوا. ولكن بما أنَّ هناك بعض الالتباسات حول هذا الموضوع، سنتكلّم على الواجبات التي علينا إتمامها عندما تقترب ساعة وفاة أحد أخصّائنا. طبعًا نحن لا نتكلّم هنا على عنايات طبيّة واهتمامات نعتبرها معروفة لدى كلّ واحد منا، كيف ينبغي أن يتصرف. نتكلّم بشكل خاص على الواجبات المسيحيّة المفروضة علينا تجاه الناس سواء كانوا أقرباءنا أم أصدقائنا الذين ينبغي أن نزودهم بالوسائل الروحيّة الضروريّة من أجل أن يتهيأوا لسفرهم الأبدي الكبير.
قبل كلّ شيء علينا أن نأخذ بعين الاعتبار، أنَّ كنيستنا عندها سرّ الزيت المقدس، الذي بوساطته يتم استدعاء نعمة اللّه على الناس وخاصّة على الذين يُعانون من مرضٍ ما. من خلال مواظبتنا على خدمة سرّ الزيت المقدس عالمين أنّ الصلوات التي تُقرأ تتعلّق قبل كلّ شيء بأمراض النفوس ومن ثم بأمراض الأجساد. وبالتالي من واجب كلّ مسيحي يهتّم بحالة نفس المريض وخلاصه، وخاصّة مع اقتراب ساعة موته- هذا لا يعني أنّه لا ينبغي ولا يتوجب الاهتمام به في ظروف أخرى- أن يعتني بإقامة سرّ الزيت من أجل المريض. من المُعتاد بشكل خاص أن تقام خدمة الزيت المقدّس بالقرب من سرير المريض من أجل تقويته، وبنعمة خاصّة لغفران خطاياه وراحته من مغبّات الأمراض.
2-التوبة والاعتراف
عندما نريد أن نساعد الإنسان الذي يقترب من نهاية حياته، علينا أن نتكلّم معه على ضرورة التوبة والاعتراف. كثُرٌ هم لسوء الحظ يرحلون من هذه الحياة دون أن يهتّم أحد بحالة نفوسهم وخلاصها. يعتقد البعض أنّهم يقومون بواجباتهم المفروضة عليهم تجاه الذين يحبّونهم وذلك بأن يَضمنوا لهم موتًا بالقرب من الأطباء وفي المستشفيات والمستوصفات.
لا يهتم هؤلاء مطلقًا بحالة سواهم النفسيّة، أيّ كيف هي حال نفوسهم، فيما إذا كانوا متصالحين مع اللّه، أم إذا كانوا تائبين عن خطاياهم التي ارتكبوها. وكثيرون يعتقدون بخرافات وأباطيل، أنّهم إذا تكلّموا مع الإنسان المُحتضر سواء على الاعتراف أم على المناولة الإلهيّة فهذا سيسرِّع موته أو سيرعبه وسيجعله في ارتياب من أن حالته الصحيّة ليست حسنة. بهذا التفكير، يفضّل هؤلاء الناس ترك أقرباءهم دون دعم روحي من أسرار الكنيسة، وهكذا يرحل هؤلاء المرضى وهم في عدم استعداد نفسي. يعلن هذا التصرف عن غياب المحبّة الحقيقيّة تجاه الأشخاص الذين نقول إننّا نحبّهم. تتوجب المحبّة الحقيقيّة أن تهيئ التربة بشكل صالح بحيث أنّ هؤلاء الناس يشعرون بحاجتهم للتوبة عن الخطايا التي ارتكبوها في حياتهم، ويبادرون إلى سرّ التوبة والاعتراف.
طبعًا، خدّام اللّه يساعدون في هذه الحالة لأن لديهم المعرفة عن معنى التوبة ولكن قبل كلّ شيء نعمة اللّه هي التي تساعد، والتي تفتقد الناس حتى بالقرب من سرير موتهم، وتُلهمهم الثقة باللّه، والإحساس بخطاياهم لحالتهم الخاطئة أو حاجتهم للتوبة والاعتراف. يقصّر أولئك الناس كثيرًا عندما يخفون بهدف ما ضرورة الاعتراف. كان ينبغي أن يؤكّدوا أنّها حاجة ملحّة، أن يقولوا بعض الكلام باسلوب مناسب للأشخاص الذين يستعدّون للرحيل الكبير، فيما يتعلق بترتيب حساباتهم الروحيّة مع اللّه، ومع القريب ومع أنفسهم.
تصبح الحاجة ماسة وأكثر إلحاحًا عندما تتعلق بأشخاص ليست لديهم روحانية ولم يعيشوا ضمن حياة الكنيسة وأسرارها، وبالتالي يجهلون الكثير وهم يرحلون دون تجهيز مناسب واستعداد. فينبغي أن تقال الحقيقة لأخصائنا وأن تُبذل محاولة في اختيار أب روحي مناسب لديه إمكانية أن يتواجد في موضع حيث يمارس التوبة والاعتراف. وهناك أيضًا إقامة القداس الإلهي وقراءة المطالبسي الذي سيساعده.
كيف ستكون الأجساد “الجديدة” ؟
كيف ستكون أجسادنا بعد قيامتنا؟ هذا سؤال مبارك. أستكون كما كانت قبل الموت أم لا؟ الجواب: هو أنّ أجسادنا ستكون نفسها كما هي قبل، لكن مع خاصيّات مختلفة. يُجاوب القدّيس الذهبي الفم على السؤال ويقول: إنّ الجسد سيكون نفسه، ولن يكون نفسه”.
يقول القدّيس مكاريوس: إنَّ جسدنا بعد القيامة سيحفظ طبيعته كما الحديد الذي عندما يحمّى يصبح شديد الاحمرار بدون أن يتوقف عن أن يكون حديدًا.
يعطي القدّيس ثيودورس الموبسوستي صورة أخرى، صورة الرمل والزجاج. فكما نعرف، الزجاج يكوَّن من الرمل، لكن عندما يصبح زجاج، لايكون رملاً بعدُ. إذاً بين جسدنا بعد القيامة وذاك الذي سنحمله بعد القيامة هناك وحدة واختلاف. الاختلاف الذي يجب أن نسجّله هو أنّ الجسد القديم قابل للفساد، بينما الجديد عديم الفساد. هذا سيكون خالدًا بعد القيامة العامة. صورة البذرة التي يستعملها الرسول بولس دقيقة الوصف، تُبذر البذرة في الأرض وبعدها تنحلّ، وتنبت من هذه البذرة ثمرة جديدة تحيا وتنمو، وتكون من طبيعة البذرة المزروعة نفسها. إذا بُذرت بذرة قمح، فقمحًا تنبت، لكنّها أحسن من تلك التي زُرعت. تُبذر بذرة وتنبت مضاعفةً العدد. نستطيع من هذا أن نستنتج الخاصيّات التي سيملكها جسدنا بعد القيامة، الأولى عدم الفناء.
يُحاول القديس كيرلس الأورشليمي أن يقترب من هذا السرّ، ويستعمل صورة الماء. فللماء خواصّ مادام سائلاً، وتتغير عندما يتجّمد وله غيرها عند التبخّر، بالنسبة لنا هناك تغيير. وبالتالي مادام جسدنا سيملك خاصيّة عدم الفساد فهذا يعني أنّه لن يمرض، ولن يتألم، ولن يكبر، سنملك “عُمرًا” كما يقول تقليد كنيستنا وكما ننشد في تسابيحنا. بكلمات أخرى لن نملك ضعفات كالتي كانت عندنا في هذه الحياة، كالأمراض المختلفة، ولن يكون عندنا أيضًا “الآلام النقية”، كأن نشرب، ونعطش، ونتعب، ونحتاج للراحة، ولن نتألم …..الخ.
الخاصيّة الثانية، خاصيّة الخلود، يعني أّننا سنموت وسنبقى أزليين، مثالنا سيكون جسد المسيح المُقام من بين الأموات. خاصيتنا الثالثة هي تحوِّل جسدنا أو تجلّيه. الجسد الجديد سيكون أحسن وأفضل من السابق، لن يكون له مادة ولا ثقل، ولا حجم، ولن يشغل مكانًا في المكان. مثل جسد ربنا، الذي كان التلاميذ يرونه بعد القيامة، دون أن يمنعه هذا من الدخول إلى الغرفة حيث كان التلاميذ “قد أقفلوا الأبواب”، وأن يمنعه أيضًا من أن يوجد في الوقت نفسه في أماكن مختلفة، كما تؤكد ظهوراته بعد القيامة.
الخاصيّات التي سيملكها جسدنا الجديد هي خاصيّات جديدة. جسدنا هذا سيشترك في مجّد يسوع المسيح القائم من بين الأموات والمرتفع. الرّب لم يرتفع فقط كبكرِ كلّ خليقة، لكنّ جسده القائم أيضًا هذا نقله إلى السموات؛ في يوم صعوده. ولذلك فلعيدِ الصعود السيديّ العظيم معنى كبير بالنسبة لنا، لأنّه يعني مجد جسدنا الدائم بجانب جسد المسيح المُقام إلى مجّد السماء. جسدنا سيكون رائعًا بأوصافه السابقة، ذكرياته الجسديّة ستصبح روحيّة. فالروحانيّة إذّاك هي خاصيته الأخرى. بعدها لن تشغلنا لا مواضيع ماديّة ولا شهوانيّة. جسدنا كجسد روحيّ لن يحتاج إلى الحفظ والغذاء.
على أساس كلّ هذه التي قلناها، في جسدنا المُقام، لوَجب أن ننتهي إلى النتيجة أنَّ مكافأتنا أيضًا؛ أيّ ميراث الملكوت، أو عقابنا أيّ جهنم، سيكون وصفًا روحيًا لا ماديًا. سنمتلئ فرحًا، في حال كنّا مع اللّه، وسنتذوّق حضور اللّه، أو على العكس ستمتلئ نفسنا من الضغط والحزن. سنعاقب لأنّنا سنكون بعيدين عن اللّه، لن نتمتع بحضوره فينا.
الناس، يقول آباء كنيستنا، سينيرون بحسب مقياس فضائلهم. لذلك أيضًا قال الرّب: إنَّ “في بيت أبي، منازل كثيرة”[xviii]. هذا يعني أنَّ الفردوس أيضًا سيملك ترتيبات محددّة. في مكان هناك القدّيسون الذين أرضوا اللّه، وفي ثانٍ هناك مسيحي آخر. لكن، كلّ الذين في الفردوس، سيشعرون بسعادة مطلقة. يستعمل الآباء صورة رائعة ليحدّدوا لنا أنّ الكلّ سيشعرون بالراحة. كلّ إنسان سيملك في يديه إناء. في مكان سيكون الإناء أكبر، وفي آخر سيكون أصغر. لكن كلّ الأوعية ستملأ حتى أعلى الشفة.
بعد القيامة سيتابع الحكم العام. “الحكم الشامل” كما نقول. سنظهر بأجسادنا المُقامة ونفوسنا المتحدّة، كما الآن، أمام حياة اللّه الطاهرة.
الخاتمة
الكلّ سيخلد، لكن يجب أن نخلد بإيماننا الحيّ، عائشين سرّ ملكوت اللّه بدءًا من هذه الحياة. سرّ الافخارستيا الإلهيّة، ليس فقط ذكرى آلام ربنا، لكنّه بالأكثر، حياة الميراث الآتي؛ وملكوت السموات في هذه الحياة، و إذ نحن نعيش في الكنيسة نعيش في الدهر الآتي.
ياليت اللّه يطالب بنا، بقدر ما نعيش في هذه الحياة داخل الكنيسة، لنعش يوميًا حضوره. لنستحق عندما نموت أن نصبح ورثة الفردوس بالفرح الذي لا يفنى، الذي قد حفظه اللّه للناس بالإيمان، والأعمال، والممارسة والفضيلة. إلى الأبد!
آمين.
——————————————————————————–
دمشقيات[i]
دمشقيات[ii]
حكمة سليمان:14:1[iii]
رو. 12:5[iv]
افشين الأنافورا للقديس باسيليوس الكبير[v]
كور26:15[vi]
لو 23:15-25[vii]
مت 22:8 [viii]
1كور. 26:15[ix]
مت. 24:9[x]
عب. 14:2[xi]
كولوسي.15:1[xii]
مز. 21:34[xiii]
1 بط. 6:4[xiv]
يو. 25:5[xv]
يو. 28:5-29[xvi]
كولوسي 15:1[xvii]
يو.2:14[xviii]